شعبان يونس التايب
“كنا ننتظرها وتنسجم مع تفاصيلها ونبتهج بها ونحن صغار، وساهمنا فيها ونحن كبار انها من الاشياء الجميلة التي لازالت في الذاكرة، ولم يستطيع الزمن محوها ولامشاغل الدنيا أن تنسينا فيها، عاشت معنا وكبرنا معها، واصبحت جزء من تقاليدنا وعادة ارتبطت بحياتنا اليومية”، هذا ما بدأ به والدي يونس التائب 89 سنة حديثه عندما سألته عن تقليد تيمشراط العريق او تاقسميت كما نسميه محلياً، وواصل حديثه قائلا “إنها عادة قديمة كانت تقام في المواسم الفلاحية وفي المناسبات والأعياد الدينية وخصوصاً في شهر رمضان وارتبطت بحياتنا كسكان أرياف لم يكن لدينا أسواق تتوفر فيها حاجتنا، فكانت هذه العادة في جانب من جوانبها هي البديل لنا عن الجزارين، فكان الناس وهم في العادة من عائلة أو قبيلة واحدة يشتركون في شراء ذبيحة واحيانا يتكفل بها أحد الميسورين ويوزع لحمها على الجميع” .
صمت قليلاً قبل أن يسترسل سارداً ذكرياته مع هذه العادة بقوله ” إنها عادة تضامنية كانت تدخل السرور على الكبار والصغار وخصوصا المعوزين، يشارك ويتساوى فيها الجميع أغنياء وفقراء فالكل يأخذ من نفس الذبيحة، الغني مهما كانت مساهمته والمحتاج الذي لم يدفع نصيبه أو كانت مساهمته رمزية ، كان يشرف عليها وينظمها اشخاصاً من كبار السن يقومون بتحديد المستفيدين والقيمة التي يدفعونها والمحتاجين الغير قادرين على الدفع، ثم يقوموا رفقة بعض المساهمين بشراء الذبيحة وهم أنفسهم من يقوم بالذبح والتقسيم وتوصيل اللحوم على مستحقيها، وتتم هذه العملية عادة بعد صلاة العصر في جلسة أنس ومرح تختلط فيها رائحة الشواء مع رائحة البخور الزكية التي لا تفارق مثل هذه الجلسات، يتقاسم فيها الحضور احتساء الشاي ورواية القصص والنكت والمواقف المضحكة، وهي من المشاهد المحببة للصغار وتعتبر بالنسبة لهم فرجة تسجل في ذاكرتهم وتغرس في نفوسهم قيم التكافل والتعاون والتضامن ويتعلمون من خلالها عادات وتقاليد أسلافهم .
وجهان للتقليد:
لهذه التقليد وجهان الأول عندما تشارف الدابة على الموت نتيجة مرض او عند الاصابة بكسر لا يؤمل شفائه فتذبح ويوزع لحمها مقابل سعر يدفع لصاحبها كنوع من التضامن معه لغرض شراء البديل، اما الوجه الاخر فهو الاتفاق على شراء الذبيحة وتقسيمها على شكل (أكداس)ويقسم سعرها على عدد الاكداس دون إغفال نصيب المحتاجين وهي عادة ترتبط بالمجتمعات القروية والريفية أكثر من ارتباطها بالمدن وكانت والى وقت قريب جدا موجودة في مدينة زواره ولكنها بدأت تتقلص وصارت على نطاق عائلي أو في الحي الصغير وسبب هذا التقلص في اعتقادي هو تزايد عدد السكان فلم يعد بالإمكان التوسع فيها.
عادة حميدة تذكرنا باسلافنا:
الحاجة ثمومين 82 سنة هي ايضاً عائشت هذه العادة، وكانت شاهداً على دورها في اوقات الازمات والقحط وحدثني عما تختزل ذاكرتها التي لاتزال تحتفظ بالكثير بقولها “أتذكر في عام القرامات وما قبله بسنتين (تقصد عام 1947 عندما عم الجوع أرجاء الوطن نتيجة الجفاف) أن الناس جاعت ولم تجد ما يسد رمقها فتدخلت الحكومة لمساعدتهم، وكان اللحم وقتها من الأشياء النادرة جدا ومن يتناول اللحم في مناسبة ما لا يغسل يديه لكي يبقى مستمتعا برائحته اطول فترة ممكنه ، ولمساعدة الناس والتخفيف عليهم وخصوصاً في شهر رمضان والأعياد يقوم الأغنياء بتوزيع اللحم عليهم في حدث نطلق عليه تاقسميت وكان هذا الحدث يسعد به الجميع وهي عادة تركها لنا أجدادنا وظلت معنا تذكرنا بهم ونتذكر بها الماضي الجميل رغم قسوته واتمنى لو تستمر هي وكل عاداتنا الجميلة التي ابتعدنا عنها قالت الحاجة بعد تنهيدة عميقة.
اختلفت المسميات والمضمون واحد:
ولا تنفرد زوارا وحدها بهذه العادة بل لها وجود في العديد من المناطق في ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وتمارس بطرق مختلفة ومتنوعة تختلف من منطقة إلى أخرى فأمازيغ الجزائر يمارسونها كسلوك تضامني يدخلون بها الفرحة في نفوس الفقراء الذين لا يستطيعون شراء اضحية العيد او في بعض المناسبات الدينية الأخرى ويطلقون عليه محليا اسم الوزيعة او السهمة ويعرف في القرى والارياف التونسية ذات الاصول الامازيغية بنفس الاسم وفي ليبيا يطلق عليها تاقسميت في زواره وتسمى لاحميه في ترهونة شرق طرابلس بحسب ما قاله سعد على صالح 50 سنة لفسانيا ” كانت اللاحمية من العادات التي تقام في شهر رمضان في مدينتي حيث يشترك مجموعة من ابناء القبيلة او من سكان الحي في ذبح ثور ويوزع لحمه على المحتاجين وغير المحتاجين وبنفس الطريقة وفي شهر رمضان ايضاً كانت لهذه العادة وجود بين اهالي مدينة صبراته 65 كيلو متر غرب طرابلس كما اكد خيري الفتحلي 54 سنة من سكان صبراته لموقع لفسانيا ، وبحسب ما ذكره الكاتب ربيع محمد ربيع فان أهالي مدينة كاباو بجبل نفوسه كانوا يتشاركون في ذبح ثور مرة او مرتين في العام يتم تقسيمه إلى أكداس يقال لها ” اكود “ا وجمعها “ئيكودان” توزع على الجميع بالتساوي حتى الذين لم يشاركوا في الدفع وهي من طقوس التعاون التي يتقاسم فيها اللحم مع المحتاجين الذين ربما لا يتناولون اللحم الا في عيد الاضحى، أعيد التذكير بمصطلح أكواد الذي يعني بالامازيغية كفاية أو قدر كاف من الحصة.
مهما اختلفت المسميات والطرق الذي يمارس بها هذا التقليد فهو ليس سوى بقايا وامتداد لموروث ثقافي قديم تميز به المجتمع الأمازيغي كنوع من التكافل الاجتماعي يستمد أصوله من عمق التراث التضامني، كان في بدايته مرتبط بالسنة الفلاحية مثل استقبال فصل الربيع أو موسم الحرث والحصاد، وغيرها من الأحداث الفلاحية ووسيلة من وسائل طرد قوى الشر واستقطاب قوى الخير وهو من التقاليد الموغلة في القدم كان يمارس كطقس ديني تقدم فيه القرابين “أسفال” في عملية ذبح جماعي لثور أو عدد من الأغنام بحيث يستفيد من لحومها الأغنياء والفقراء، ويساهم في دفع ثمنها جميع أفراد المجتمع كل حسب قدرته ، وقد حافظ الأمازيغ على تقليدهم هذا بما لا يتعارض مع دينهم الجديد بعد اعتناقهم الدين الاسلامي كما ورد عن الدكتور محمد أرزقي أستاذ التاريخ في جامعة الجزائر والباحث في الشؤون الامازيغية بقوله “عندما دخل الإسلام الجزائر وجد هذه العادة الحميدة فاحتضنها وتبناها المسجد وأصبح الجهة الوحيدة التي تخطط لها إلى حين الفراغ من جميع مراحلها، وكان للإمام دوراً كبيراً في الإشراف عليها، إنه عرف أمازيغي قديم طُعّم بالشريعة الإسلامية”.
لقد اختفت هذه العادة اليوم في مدينة زوارة وعموم مدن ليبيا كما اختفت العديد من العادات الجميلة مفسحة المجال لعادات دخيلة ، وباختفائها صار المجتمع ابعد ما يكون عن هويته فهل من استفاقة تعيد الاعتبار لهذه الهوية ؟
منشور على صفحات صحيفة فسانيا العدد 295