*محمد بودهان
بين الجهل المقدّس والجهل الأكاديمي:
إذا كانت التفسيرات الخاطئة، المؤسَّسة على قناعات دينية خاطئة، والتي يتبنّاها العامّة في فهمهم لموضوع اللغة، تنتمي إلى ما سمّاه المفكر الفرنسي أوليفيي روا Olivier Roy بـ”الجهل المقدّس” La Sainte Ignorance، الذي اختاره عنوانا لكتاب له حول الموضوع، فإن انتشار تفسيرات خاطئة، بخصوص نفس الموضوع، لدى مثقفين ومفكرين وجامعيين، ينتمي إلى ما سبق أن سمّيته، بالعدد 33 من شهرية “تاويزا” ليناير 2000، بـ”الجهل الأكاديمي”، أي ذلك الجهل الذي يصدر عن باحثين وعلماء وأكاديميين وأساتذة جامعيين ومتخصّصين، وهو ما يُضفي على هذا الجهل طابعا “علميا” و”أكاديميا” بحكم الموقع العلمي والأكاديمي لأصحابه. ولا يعني هذا ـ حاشا الله ـ أن هؤلاء الأساتذة والباحثين هم فعلا جهلاء، بالمعنى الحقيقي، بالموضوع المعني، أو تنقصهم المعرفة العلمية الضرورية لبناء فهم سليم لهذا الموضوع. وإنما يعني ذلك أنهم ينطلقون من قناعاتهم التعريبية كمقدّمات لتحليل الموضوع، وهو ما يحُول دون الفهم السليم لهذا الموضوع، لأنهم يخوضون في تحليله ومناقشته، ليس من أجل بناء هذا الفهم السليم، وإنما من أجل الدفاع عن نتائج جاهزة ومسبّقة تخص هذا الموضوع، وهي النتائج التي ينطلقون منها كمقدمات. ففي موقفهم من الدارجة، كما سنناقشه في ما سيأتي، ينطلقون من تمجيدهم للعربية وللتعريب كمقدمة. ثم يستخلصون من هذا المقدمة النتيجة التي تؤكد تمجيد العربية والتعريب. فليس هناك إذن جديد في التحليل والمناقشة، ولا تقدّم في المعرفة التي تخص الموضوع. فكل ما هناك هو حلقة مُفرغة، حيث تتكرر المقدمة في النتيجة، المكرورة نفسها في المقدمة. ننطلق من تمجيد العربية والتعريب، لننتهي إلى تمجيد العربية والتعريب.
وقد كان النقاش حول الدارجة وعلاقتها بلغة التدريس، والذي أثارته، هذه المرة، كلمات دارجة تضمّنها كتاب للمستوى الابتدائي للموسم المدرسي 2018 ـ 2019، فرصة لاختبار مدى حضور هذا النوع من الاستدلال، الذي يعبّر عن “جهل أكاديمي”، بالمعنى الذي أوضحته، لدى مجموعة من المثقفين والمفكرين المغاربة، دون الكلام عن الحضور القوي للجهل المقدّس خارج الأوساط الأكاديمية، كالقول إن العربية لغة مقدّسة، وأنها لغة الجنة، وهي التي اختارها الله لكلامه القرآني، وهي اللغة الأولى التي تكلّمها آدم… أما التحجّج بكونها لغة الوحي والقرآن كدليل على قدسيتها وسموها وعبقريتها وخلودها، فهو شيء شائع حتى عند بعض الأكاديميين والأساتذة الجامعيين. فهذا الدكتور السيد المقرئ أبو زيد الإدريسي، أستاذ جامعي متخصص في اللسانيات، يقول بأن الدول الغربية معتكفة، وفي سرية تامة، على تدوين أرشيفها الوطني باللغة العربية لأنها هي اللغة الوحيدة الخالدة التي لا تتغير معانيها بعد ستة أو سبعة قرون عندما تكون اللغات الأخرى قد تغيرت بشكل لن يعود معه من الممكن قراءة وفهم الأرشيف الحالي الذي دوّن بهذه اللغات (انظر مداخلة الأستاذ المقرئ أبي زيد بالنقر على “يوتوب”، وانظر ردنا: “مدافع شرس عن العربية يعترف أنها لغة جامدة” على الرابط: http://tawiza.byethost10.com/1tawiza-articles/arabe/archive.htm).
رغم شيوع هذه الحالات، التي يمثّلها الأستاذ المقرئ أبو زيد، والتي يختلط فيها الجهل المقدّس بالجهل الأكاديمي، أو الجهل المؤسَّس كما سمّاه الراحل محمد أركون، إلا أنني سأركّز، في هذه المناقشة، ودائما بخصوص موضوع الدارجة، على ظاهرة “الجهل الأكاديمي”، بالمعنى الذي سبق شرحه، والذي تكشف عنه بعض الآراء التي ساهم بها أصحابها، الجامعيون والأكاديميون، في النقاش الذي أثارته هذه الدارجة في علاقتها بلغة المدرسة.
فبدل أن يفسّر لنا أصحاب هذه الآراء، من الأكاديميين والأساتذة الجامعيين، لماذا لا تصلح الدارجة أن تكون لغة مدرسة وتدريس، يكتفون بتبرير عدم أهليتها لذلك. وشتان ما بين التفسير، الذي ينبني على معطيات علمية وموضوعية، وبين التبرير الذي يستند إلى قناعات ذاتية واختيارات إيديولوجية. ولهذا تشكّل هذه التبريرات ـ وهي نسخة مطابقة لنفس التبريرات التي يكرّرها التعريبيون لمناوأة الأمازيغية ـ، التي استند إليها هؤلاء المعارضون لخيار التدريس بالدارجة، مجرد دعاوى أو مزاعم، لا تدعمها دراسة علمية ولا بحث أكاديمي، رغم أن أصحابها يتكلمون بصفتهم العلمية والأكاديمية. فما هي هذه الدعاوى أو المزاعم أو التبريرات، التي يعتمد عليها أصحابها لحرمان الدارجة من أن ترقى إلى لغة كتابة وتدريس؟
دعوى تعدّد الدارجات لتبرير حرمانها من المدرسة:
من المبررات التي اعتمد عليها الرافضون لإدخال الدارجة إلى المدرسة لتأهيلها حتى يمكن لها أن تكون لغة تدريس في المستقبل، زعمهم أن هناك دارجات مختلفة من منطقة إلى أخرى، يصعب للمنتمي إلى هذه المنطقة أن يفهم دارجة المنتمي إلى منطقة أخرى، فضلا على أن هذا التعدّد، سواء تقرّر تدريس جميع الدارجات مراعاة للمساواة الديموقراطية بينها، أو تقرّر اختيار إحداها فقط دون الأخريات، فهو معضلة عندما يتعلق الأمر بالمدرسة. فهذا الدكتور أحمد شحلان يقول للتهويل من هذا التعدّد المزعوم: «لكي نكون عادلين في تعليمنا، يجب أن نضع مقرراً دراسياً لكل جهة من الجهات […]. وعندها علينا أن نقسم المقررات حسب الجهات وحسب التقسيمات السياسية. وعندها سنحدث قطيعة بين المعارف في البلد الواحد، ثم نحدث قطيعة بين الأمة» (انظر مقاله بجريدة “هسبريس”: https://www.hespress.com/orbites/405132.html). ونفس الشيء يقوله الدكتور إدريس الكنبوري في مقاله بجريدة “هسبريس” الإلكترونية (https://www.hespress.com/orbites/405353.html) حيث كتب: «فإن الدارجة في المغرب ليست موحدة في الشمال والجنوب والغرب والشرق، فلكل جهة لهجتها المحلية التي لا تفهمها الجهة الأخرى»، محذّرا أن يؤدّي ذلك إلى تهديد للوحدة الوطنية كما جاء في إحدى تدويناته على “الفايسبوك”: «لأن استعمال الدارجة مشروع للتفكيك الوطني لا للتوحيد. ذلك أن الدارجة دارجات». وهذا ما سبق أن عبّر عنه، أيضا، الأستاذ عبد الله العروي في حوار مطوّل له حول الدارجة بيومية “الأحداث المغربية” في أعدادها من 20 إلى 25 نونبر 2013، حيث قال إن مشروع تدريس الدارجة ثم التدريس بها ذو أبعاد «تروم تقويض الوحدة الوطنية». ويقول في نفس الحوار ليشرح، وبطريقة كاريكاتورية، اختلاف الدارجات من منطقة إلى أخرى: «إن المعلم البيضاوي الذي يعين بـ”أشاون” (شفشاون) لن يستطيع التواصل مع تلامذته الذين لا يفهمون دارجته البيضاوية، كما لا يفهم هو كذلك دارجتهم الشاونية»، و«سيصير التلميذ الشفشاوني معلما وسينقلب المعلم البيضاوي إلى متعلم» (انظر مناقشتنا لموقف الأستاذ العروي على جريدة “هسبريس”: https://www.hespress.com/writers/95455.html).
لن نناقش فوبيا تعدد الدارجات عند هؤلاء المفكرين بتبيان أن حتى على فرض وجود دارجات قد تُدرّس كلها، وليس دارجة واحدة، فليس من الضروري أن يؤدّي هذا الوضع اللغوي المتعدد إلى تفكيك الوحدة الوطنية، كما يثبت ذلك وجودُ عدة دول موحّدة رغم أنها تضمّ لغات متعددة، رسمية ومدرّسة. لن نقف إذن عند هذا الجانب الفوبي السياسي لأن ما يهمّنا، من هذه المناقشة لموضوع الدارجة، هو الجانب اللسني والبيداغوجي في ارتباطهما بلغة التدريس.
الغريب أن حتى العامّة من غير المتعلمين، الذين اعتادوا القول بأن الاختلافات الجهوية بين فروع الأمازيغية لا تسمح للمتحدث بأمازيغية هذه الجهة من التفاهم مع المتحدث بأمازيغية جهة أخرى، لم يغامروا بالقول إن المتحدث بدارجة منطقة مغربية معيّنة لا يفهم دارجة منطقة مغربية أخرى. ويبدو أن الأساتذة، الذين أشرنا إليهم، يحصرون وحدة اللغة في وحدة معجمها، فيستنتجون من اختلاف هذا المعجم من منطقة مغربية إلى أخرى اختلافا لدارجة كل منطقة عن دارجة منطقة أخرى، وهو ما يوضّحه الدكتور شحلان بمثال أن «”بغرير” مراكش هو “خرينــﮕـو” وجدة. و”غريبة” الرباط هي “بهلة” فاس». لكن لو كان صحيحا أن اختلاف المعجم من منطقة إلى أخرى داخل لغة واحدة، مثل الدارجة في حالتنا هذه، سيؤدّي إلى وجود دارجات متعددة، لنتج عن ذلك، أيضا، ولنفس السبب، وجود لغات عربية متعددة تختلف من بلد إلى آخر ضمن البلدان التي تستعمل اللغة العربية، بل من شخص إلى آخر من بين المستعملين للغة العربية. فتكون عربية لبنان، التي تستعمل كلمة “الموجبات”، كما في عبارة “قانون الموجبات والعقود اللبناني”، للدلالة على التعهّدات التي ينظمها القانون المدني، وعربية المغرب، التي تستعمل كلمة “الالتزامات”، كما في عبارة “قانون الالتزامات والعقود المغربي”، للدلالة على نفس الموضوع وبنفس المعنى، لغتين مختلفتين، لا يمكن معهما للباني والمغربي أن يفهم أحدهما عربية الآخر. وهذا غير صحيح، طبعا. ونفس هذا المنطق، الذي استند إليه أصحابنا لإقناعنا أن الدارجة دارجات مختلفة، سيعني، أيضا، عندما أسمّي في كتاباتي، أنا الذي أتقن العربية وأكتب بها، ملكَ الحيوانات بـ”لأسد” أو “الليث”، ويسمّيه كاتب سعودي بـ”الضرغام” أو “الهزبر”، وهما كلمتان لا أعرفهما ولا أفهم معناهما ولم يسبق لي أن وقفت عليهما في نص أو تعبير، (سيعني) أن العربية التي يكتب بها ذلك السعودي هي عربية أخرى مختلفة عن العربية التي أكتب بها. وهذا ليس غير صحيح فقط، بل هو خُلف وهراء.
فما غاب عن أساتذتنا الأجلاء هو أن ما يوحّد لغة ما ليس استعمال المتواصلين بها لنفس الكلمات ونفس التعابير للدلالة على نفس الأشياء ونفس المعاني. «فاللغة الموحّدة، بهذا المعنى الحرفي والضيق الذي تعنيه صفة “موحّدة”، هي لغة افتراضية وغير موجودة في الواقع، لأنها قد توجد فقط في فضاءات ضيقة ومعزولة، كما داخل عائلة منطوية على نفسها، لا يعرف أعضاؤها إلا نفس التعابير ونفس الألفاظ المحدودة، التي اكتسبوها كلغة أم انتقلت إليهم من جدتهم، والتي يعيدون إنتاجها كما هي لعدم تواصلهم مع العالم الخارجي بسبب عزلتهم. لهذا فلغتهم موحّدة، أي يستعملون نفس المعجم ونفس التعابير للدلالة على نفس الأشياء» (انظر مزيدا من الشرح لهذه المسألة ضمن موضوعنا “أي تصور وأية مقاربة لتدريس أمازيغية موحّدة ومشتركة؟” على الرابط: http://tawiza.byethost10.com/1tawiza-articles/arabe/enseigner.htm?i=1). وإنما توحدّها المدرسة، أو ما يقوم مقامها، عندما تعلّم لجميع المتعلمين نفس الكلمات التي تختلف من منطقة إلى أخرى، ونفس التعابير التي تتنوّع من منطقة إلى أخرى. وهكذا علّمتني المدرسة أن “الضرغام” و”الهزبر” يعنيان الأسد، وهو ما جعلني أفهم النصوص التي تستعمل هذين الاسمين كمرادفين لكلمة “أسد”. ولأن الدارجة لم تثر ردود السادة الأساتذة، الذين استشهدنا بهم كنماذج، إلا لعلاقتها بالتدريس والمدرسة، فمشكلة تعدد الدارجات ـ نقول تعدد الدارجات مسايرة لمنطق أساتذتنا الذين نناقش آراءهم ـ هي إذن بسيطة وحلها بسيط، وهو أن المدرسة، عندما تُدرّس الدارجة، وهو ما يصدق كذلك على الأمازيغية، ستتكلّف بتوحيد هذه الدوارج حيث سيتعلّم التلميذ الوجدي أن “خرينــﮕـو” يُسمّى أيضا “بغرير”، ويتعلّم التلميذ المراكشي أن “بغرير” يُسمّى كذلك “خرينــﮕـو”، ويتعلّم التلميذ الفاسي أن “بهلة” تُسمّى كذلك “غريبة”، ويتعلّم التلميذ الرباطي أن “غريبة” تُسمّى أيضا “بهلة”.
أقول هذا مسايرة، كما أشرت، لمنطق الرافضين للدارجة بمبرر أنها لغة غير موحّدة، مكررين نفس المبررات الواهية التي لا زال البعض يعارض بها تدريس الأمازيغية. أما في الحقيقة، اللسنية والتواصلية، فهي أن الدارجة لغة موحّدة شفويا قبل أن تتدخّل المدرسة لتوحيدها، كما شرحت. ذلك أن اللغة قد توحّدها المدرسة، كما قلت، لكن يمكن، وقبل المدرسة والكتابة، وهذا هو الأصل في وحدة اللغة، أن يوحدّها التواصل الشفوي بين مختلف مستعملي تلك اللغة، رغم أنهم لا يتحدثونها بشكل واحد وموحّد، من حيث المفردات والصيغ التعبيرية التي تختلف من منطقة إلى أخرى. لكن كل واحد، مع ذلك، يفهم كلام الآخر الذي لا ينتمي إلى منطقته، وهو ما يعطي لهذه اللغة الوحدة التي تستمدها من وحدة التفاهم Intercompréhension، وليس من وحدة الألفاظ والتعابير المستعملة في الأصل بطرق مختلفة حسب اختلاف المناطق، كما سبقت الإشارة. فلأن التواصل بنفس اللغة، حتى وإن كانت صيغها مختلفة من منطقة إلى أخرى، لا ينقطع بين أعضاء المجموعة التي تستعمل هذه اللغة ذات الصيغ المختلفة، ينتج عن ذلك أن كل واحد من هؤلاء “يتعلّم” ويفهم “لغة” الآخر. وهو ما يجعل متحدثي هذه اللغة يتفاهمون في ما بينهم، رغم أن كل واحد منهم يستعمل “لغته” الجهوية، المتمثلة في المفردات والتعابير الخاصة بمنطقته. هكذا توحّدت الدارجة المغربية وأصبحت تشكّل Une Koinè، أي لغة مشتركة للمغاربة، ليس لأن جميعهم يتحدثونها بطريقة متجانسة ومتطابقة، وإنما لأن كل واحد منهم يستطيع أن يتواصل مع الآخر ويفهم ما يقوله. فرغم أن الدارجة الشاونية ليست هي الدارجة المراكشية، ولا هذه هي الدارجة الوجدية، إلا أن الشاوني والمراكشي والوجدي إذا التقوا، فإنهم يتواصلون في ما بينهم ويتفاهمون دون أدنى صعوبة، رغم أن لكل واحد “دارجته” التي تختلف عن “دارجة” الآخر. وليس هناك ما يدحض نظرية السادة الأساتذة حول تعدد الدارجات المانع، حسب زعمهم، للتفاهم بين المنتمين لجهات مختلفة، من تذكيرهم أنهم، في تنقلاتهم، لأسباب عائلية أو مهنية أو سياحية، إلى جهات أخرى من المغرب خارج الجهات التي ينتمون إليها ويتحدثون دارجتها، لم يحتاجوا إلى ترجمان ولا إلى لغة الإشارة للتواصل مع أبناء الجهة التي حلّوا بها، بل كانوا يتواصلون ويتفاهمون مع هؤلاء دون أدنى صعوبة أو عائق. فهل يستطيعون إنكار ذلك أو تكذيبه؟
ولا ننسى، فضلا عن سهولة وسائل التنقل والتواصل بين منطقة وأخرى، الدور الكبير والحاسم الذي لعبته، في تحقيق هذا التوحيد للدارجة، الإذاعة والتلفزيون والمدرسة خصوصا (نعم المدرسة لأن لغة التلقين هي الدارجة. أما العربية فهي مقصورة على الكتابة: الملخصات، التمارين، الفروض، الاختبارات والامتحانات…)، ثم الإدارة التي تشتغل وتتواصل مع المواطنين بالدارجة في الغالب الأعم، مما جعل من هذه الدارجة لغة للدولة لأن مؤسساتها ومرافقها وإدارتها تتعامل شفويا بالدارجة، إلا ما يخص الوثائق فهي مكتوبة بالعربية أو الفرنسية.
نعم يمكن القول إن الدارجة، قبل القرن العشرين، كانت تتشكل من “دارجات” جهوية من الصعب على من ينتمي إلى جهة أن يتواصل ويتفاهم مع المنتمي لجهة أخرى. لماذا؟ لأنه لم يكن هناك تواصل بين الجهات لانعدام وسائل التنقّل المتوفرة اليوم، كما لم تكن هناك ضرورة اقتصادية لهذا التنقل لأن كل جهة، بل كل قبيلة، كانت تعيش على اقتصاد الاكتفاء الذاتي ولا تحتاج إلى أسواق تقع في مناطق نائية وبعيدة للتبادل التجاري، كما يحدث اليوم. يضاف إلى ذلك أنه لم يكن هناك تعليم مدرسي عمومي يعمل على توحيد الدارجة، ولا إدارة عمومية ولا تلفزة ولا إذاعة تساهم في هذا التوحيد، بالشكل الذي سبق أن شرحناه. فانقطاع التواصل بين المناطق وغياب عوامل التوحيد التي أشرنا إليها، وهي المدرسة والإدارة والإعلام التلفزي والإذاعي، جعل دارجة كل منطقة تنمو وتتطوّر بمعزل عن دارجة المناطق الأخرى. لكن هذا الواقع تغيّر في القرن العشرين، وخصوصا بعد الاحتلال الفرنسي الذي كان له دور فعّال في توحيد الدارجة المغربية من خلال فك العزلة عن المناطق، وتسهيل التواصل والتبادل بينها، ومن خلال التعليم والإدارة والإعلام الإذاعي. ومع أواخر القرن العشرين، أصبحت الدارجة لغة مشتركة، ليس للمغاربة فقط، بل لكل المغاربيين من ليبيين وتونسيين وجزائريين وموريتانيين، إذ أصبحوا قادرين، إذا اجتمع مغربي وجزائري وتونسي وليبي وموريتاني، على التفاهم في ما بينهم باستعمال الدارجة رغم اختلاف بلدانهم وتباعد بعضها عن البعض بمسافات طويلة.
لكل هذا فإن القول، وفي القرن الواحد والعشرين، ومن طرف مثقفين وأكاديميين مرموقين، إن الدارجة المغربية هي “دوارج” مختلفة ومتنوّعة لا يسمح اختلافها وتنوّعها بتدريسها، لأن «لكل جهة لهجتها المحلية التي لا تفهمها الجهة الأخرى»، هو قول لا يمكن تصنيفه إلا ضمن “الجهل الأكاديمي”، الذي يتسبّب فيه ليس نقص في العلم والمعرفة، بل زيادة في الأيديولوجيا التعريبية التي لا ترى أن العربية لغة، وإنما ترى أنها هي اللغة.