زمن التدين المفرط، والأخلاق المنحطة: السكيزوفرينية المجتمعية

امحمد القاضي
بقلم: امحمد القاضي، رئيس جمعية تيويزي للتنمية الإجتماعية لأيت عبد الله

شهر رمضان موعد سنوي نخصصه للتعبد والترفع عن الزوائل، نمارس طقوس تجبرنا على التواضع وشعائر للتعبد والتخشع، ونتجاهل التصرفات التي قد تعكر خلوتنا. الشهر ليس طقس الإمساك عن الأكل والشرب والتعبد، بقدرما هو معاملات تعيد لنا إنسانيتنا. حين نثوق إليه ونشتاق لعودته، فإن روحنا تروى من عطش تماسك وتواضع وسخاء مجتمعي وصدق إفتقدته لحول.

فيه الجمعيات توزع القفف على المحتاجين، والأسر تفطر الصائمين، الأيادي تسخا بالصدقات، الأفواه تصمت عن الكلام القببح، الحركة تخف، الطمأنينة تعود للأحياء، والغشوع للنفوس، الأسر تتبادل الزيارات منذ شعبان، كل هذه التصرفات وغيرها تعيشنا في المدينة الفاضلة طمعا في مغفرة ورضوان الخالق.

أين يرحل الطمع في رضى الله لمدة 11 شهر، ليحل محله جشع من نوع آخر؟ هذه الممارسات الثنائية وإنفصام في شخصية المغربي أفرزت مخلوقات من نوع آخر. فاختلط الحابل بالنابل لدرجة لم نعد نفرق بين الثابت والمتحول في سلوكياتنا.

في الحقيقة، البيئة الرمضانية ترمي بنا عشقا وزمانيا إلى مغرب ما بعد أواسط القرن الماضي.

في رؤية نوستالجية لمغرب الماضي الغير بعيد، عاش المغاربة طوال السنة في بيئة صادقة بوتيرة عادية ووسائل بسيطة وتدين تقليدي معتدل ومتسامح، وبممارسة الشعائر داخل مساجد مطلية بالجير والسجود فوق “الحصائر”، ووراء أئمة وفقهاء يحملون مرجعية مغربية وأكثر قربا وتعايشا مع العباد. كما سادت الأحياء سماحة بين الأحباب، وثقافة العناية بسابع جار، ومنازل أبوابها الخشبية، قبل أن تتحول اليوم إلى حديدية سميكة، مفتوحة مترقبة لزيارات عائلية عفوية تغلب عليها البهجة والإحتفالية.
عودة رمضان حنين لمغرب التعفف والتشارك والتسامح والثبات على القيم الإنسانية والسلوكيات المجتمعية الراقية الذي يحاول جاهدا مغرب رمضان اليوم أن يحييه بلمسة حنان ولو لشهر في السنة.

للمغرب خصوصية وقيم شكلت منه إستثناءا أنتجت تعايش بين الأديان والأعراق وتنوع ثقافي وغنى معرفي وإنفتاح حضاري قل نظيره بين الأمم، حيث أفرزت نبوغا وعبقريات وشخصيات أغنت الثراث الإنساني عالميا، ودخلت التاريخ من أبوابه الواسعة.

تحولت البوصلة إستلابا من الإعتزاز بالمحلي نحو تقديس المشرق لباسا، وسلوكا، مرجعيتا، ونمطا في التفكير. فعوض الفقهاء الورعين الزهاد الشبه صوفيين، ‘مشاييخ’ نرجيسيين طليقي اللحي بكبرياء زائدة، على منوال دعاة القنوات الفضائية للمذاهب السلفية الماضوية. لا هلا بصدقات البترودولار، والإيديولوجية الإخوانية، ولا مرحبا بالإختراق المشرقي والهجمة الإستلابية للمغرب المتماسك!!

في أواخر القرن الماضي، بدأت تخترق المجتمع مظاهر التدين المفرط، وأنماط تعبدية تطغى عليها ممارسة الشعائر بأسلوب متشدد غريب على ثقافتنا، رافقتها تحولات إجتماعية وسلوكيات مشرقية منغلقة فرقت بين الإخوة. هذه الظاهرة التكفيرية الإقصائية لم تسلم منها عدة دول عربية هزت إستقراها وهددت تماسكها، ولازل بعضها يتخبط في مخلفات المد الإيديولوجي الإخواني.
وإذ نحمد الله على نجاة وطننا من الإندحار الجماعي في هذا الإتجاه بفضل الحملات التنويرية، وعراقة وتجدر شعبه، وتبصر أولي الأمر. إلا أن الإختراق السلفي والهجمة الإيديولوجية تبقى مقلقة، وإكتساح العالم الإفتراضي ‘لشيوخ’ يحرمون ويحللون خارج السياق المحلي، ويمارسون الوصاية على المجتمع بدعوى صحة المعتقد وصواب تمذهبهم، يؤثر سلبا على العلاقات الإجتماعية المغربية المتوارثة والضاربة في جدور الإنتماء للمغرب المتماسك.

أصبحت نمادج الحياة اليومية يغلب عليها التظاهر بالإنتماء للحس المشرقي، هذا التحول ولو بطيئ في التوجه والمرجعية يعكسه سلوكيات بعض الأفراد.
فخارج أسوار البيت تطوقك ممارسات، وسلوكيات وأنماط العيش تعكس إنفصام بين الممارس والمعتقد، بين المتجدر في الثقافة المحلية والمكتسب تقليدا للمشرق المستورد .

إذ مثلا تدخل لعيادة الطبيب تجد قناة مكة والطواف على تلفاز الحائط، وهو ينتظرك بإستقواء طبي كزبون وليس كمريض، ولا يحن قلبه لأنينك، ويعتبر نفسه قدم خدمة طبية إنسانية. حين تقل سيارة أجرة تجد ملتحي وراء المقود يستمتع بسماع القرآن، يشبعك موعظة، وهو يلف بك الأزقة إلتواءا قبل أن تصل وجهتك القريبة أصلا من محطة الإنطلاقة. وعلى الطرقات سيارات على زجاجها الخلفي تقرأ “لا تنسى ذكر الله”، والسائق لا يحترم قانون السير وأسبقية الراجلين، مستظهرا رياءا ماركة العربة ودرجته الإجتماعية. تدخل بيوت مضيفة و ولصالة المؤتثة بالزرابي ورائحة العود الملكي يفوح، رغم أنها لم تستقبل ضيفا منذ أسابيع، تتوسطها إطارات بها المعودتين، وضعتا ردءا للعين خوفا من سوء نية الضيف، مع إستقبالك بالترحاب المبالغ كلاما والسطحي روحا. وحين تلتجئ لشركة طلبا لخدمة، تلمح عينك آية قرآنية: “هذا من فضل ربي”، بمكتب المدير، والمالك متهرب من أداء الضرائب أو صنع الثروة من تبييض الأموال. جل الشوارع أوكالات الأسفار تدعى ‘الفردوس’، مختصة في رحلات العمرة على مدار السنة، تبيع صكوك الغفران للمذنبين، منها ما يمر للتبرك عبر القدس، أما عمرة رمضان فأضحت طقوس سنوية تتباهى بها العائلات الميسورة، وأسعار أداء فريضة الحج لم يعد يستطيع لها الحاج سبيلا، وقد تطوف هنا، ولا تغادر مطار الوطن، لأن الوكيل المعتمد فر خارج الوطن بأموال الحجاج.
من بعض مشاهد اليوم، تعبدا أم رياءا، صلاة الجمعة تغلق من أجلها الشوارع، صلاة التراويح موعد يحج له كل الصائمين وراء مقرء يدرف الدموع “تخشعا” خلال الصلاة، في مساجد، بل قصور مكيفة ومزكرشة وفوق الزرابي الرطبة، بناها أحد المنعشين العقاريين أسكن المقترضين المستضعفين أقفاصا مربعة. رنات الهواتف تستقبلك بدعاء داعية مشرقي يرفعك للسماوات السبع. لائحة الثنائية والنفاق الإجتماعي والتصادم بين القيم تطول طول مدة غياب أهل الكهف.

المفارقة الغريبة، إن صحت كل هذه الطقوس، فلماذا يتديل المغرب الدول في سوق القيم، والصدق، ويحتل المرتبة الأولى في الغش، وإنعدام الأمانة والفساد؟

بكل بساطة، المسألة نتيجة عدم الإستثمار في المواطن الإنسان. لن نرضى أن يصبح المغرب إنهزاميا أمام السلطة القهرية، والإستلاب الثقافي والديني. لن نقبل أن يكون الوطن عاجزا على مقاومة التغيرات السالبة للكرامة. المغرب في حاجة للثقة في الذات لإنتاج الأفضل ولا نحتاج للرجوع للتاريخ لنثبت هويتنا.

في إنتظار التحلي بسلوكيات أقوم، ومعاملات أرقى، والتخلي عن النفاق الإجتماعي والإنفصام الروحي؛ طاب صيامكم، وتصبحون عل سحور مغربي تفوح فيه رائحة شهية أقوى من بخار الند الهندي!

شاهد أيضاً

امحمد القاضي

“أنا مواطن أؤدي ضرائبي”: الشعور بالفخر والإعتزاز بالإنتماء للوطن – اللحظات المعبرة المفقودة

كم هو مقنع أن يبلغ المواطن درجة رفيعة من الشعور بالإنتماء للوطن، حين يؤدي واجباته …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *