أحمد عصيد
ذكرتني حملة “كن رجلا” ببيان أصدرته رابطة علماء المغرب خلال الستينات من القرن الماضي، توجهت فيه إلى السلطة مطالبة إياها بحظر السباحة في الشواطئ ومنع لباس البحر، وهي الحملة التي ردّ عليها الحسن الثاني آنذاك بالقول إن مهمة الفقهاء ليست هي الانشغال بالسياسة اليومية بل تعليم الناس كيفيات الوضوء والصلاة وأداء الطقوس التعبدية.
القاسم المشترك بين حملة فقهاء الأمس وبين “دواعش” اليوم هو الطابع التحريضي، والاعتقاد في ضرورة الإبقاء على سلطة الوصاية على عقول الناس ومصائرهم، فالفقهاء حاولوا توظيف السلطة القهرية للدولة من أجل مصادرة حق الناس في السباحة والاستجمام، لأنهم اعتقدوا بأن ما لم يكن في الماضي لا موجب له اليوم، لأنه “بدعة” و “كل بدعة ضلالة” إلخ… أما “دواعش” اليوم فقد تعلموا بأن الدولة لا يمكن أن تتدخل في السباحة ولباس البحر، وأن مهمتها تنحصر في الحرص على ضمان الأمن والنظام والنظافة، فقرروا التدخل بأنفسهم باعتماد فكرة غاية في الغباء، وهي مداعبة عواطف الرجل الشرقي وتذكيره بدوره القديم، دور الكل في الكل، حيث كان هو الآمر الناهي، وكانت المرأة هي ضحيته الأولى الصامتة.
سيلاحظ القارئ بأن أصحاب الحملة لم يتوجهوا بندائهم إلى المرأة مباشرة، بل توجهوا إلى الرجل مطالبين إياه بردع المرأة ومراقبة لباسها، لماذا لم يوجهوا خطابهم إلى المرأة ليعلموها كيف تلبس وكيف تسبح ؟ لأنهم فعلوا ذلك في حملات سابقة لم تعط أية نتيجة، ومنها حملة “حجابي عفتي” ! وحملة “حجابي حريتي” ! فلم يبق سوى حلّ واحد قديم وعتيق هو القهر والوصاية، ولكنه جاء متأخرا جدا عن زمانه، حيث لم تعد المرأة العصرية تنتظر من يفتي لها في لباسها ومأكلها ومشربها. أما الذين قادوا الحملة فقد تربوا ـ كما يظهر من خطابهم ـ في ظل الأبوية البطريركية التي تعتبر الرجل مركز العالم، الآمر الناهي، وتعتبر المرأة ملحقا مفعولا به على الدوام، وهم في هذا كله لا يكترثون بما يجري من حولهم من تقلبات، لأنها عندهم مجرد انحرافات عن الحالة المتخيلة التي في أذهانهم عن الماضي البعيد.
بناء على ما سبق نستنتج أن أصحاب حملة “كن رجلا” ما زالوا يعتقدون بأن ما تنعم به المرأة من حرية نسبية إنما هو منحة من الرجال، يمكنهم استعادتها متى شاءوا وإرجاع المرأة إلى “بيت الطاعة”، كما ما زالوا يعتقدون بأن الرجولة هي القدرة على قهر النساء وإخضاعهن واستعراض عضلاتهم عليهن، وهم بذلك يبرهنون على أنهم لم يفهموا بعد بأن الرجولة اليوم، مثل الأنوثة تماما هي نمط حياة وأسلوب وجود يخضع لتغير نظام القيم، الذي ليس واحدا متجانسا ولا هو ثابت مطلق.
وراء هذا الموقف تاريخ طويل من ثقافة الحريم والقوامة كانت تقوم على أربعة مرتكزات رئيسية، لم يعد أيّ منها موجودا اليوم:
ـ أن الرجل أرجح عقلا بينما المرأة “ناقصة عقل”. ما يجعل المرأة عاطفية ميالة إلى الانحراف بطبعها، بينما الرجل متعقل رصين وقادر على الحسم في اختيار ما هو صواب.
ـ أن المرأة معدن الغواية والرذيلة، حيث يلازمها الشيطان ويستعملها للإيقاع بالرجل.
ـ أن الرجل هو الذي ينفق على المرأة ومن تم هو صاحب القوامة عليها.
ـ أن الرجل هو من له الحق في الخروج لطلب العلم، ومن تم فعليه أن يُعلم امرأته ما يريده أن تعلمه.
هذه هي مرتكزات العقلية الذكورية القديمة التي أطرت الفقه الإسلامي وتربت عليها أجيال من الناس في المجتمعات الإسلامية عبر قرون طويلة، وخاصة في المدن والحواضر الكبرى، مع التأكيد على أن هذه العقلية لم تكن سائدة في الكثير من البوادي التي كرست تقاليد مغايرة نوعا ما لهذه الثقافة الذكورية، حيث احتفظت المرأة بموقع المركز الفاعل والمؤثر، الذي كانت تتمتع به في المجتمعات الأميسية للفترة السابقة على ظهور الإسلام.
ولأن الذين ظلوا يحتفظون بالمبادئ المذكورة المشار إليها كما لو أنها مرتكزات أبدية، وجدوا أنفسهم في صدام يومي مع واقع متغير، فقد صاروا يعكسون في سلوكهم مظاهر أزمة نفسية حادة، تشير إلى مقدار غربتهم وعدم اندماجهم في مجتمعهم الذي ما فتئ يعيش تحولات متسارعة، بعضها مرئي وبعضها يتم في البنيات العميقة.
تكتسي حملة “كن رجلا ” للأسباب المشار إليها طابعا تحريضيا صرفا، يمكن أن تنجم عنه أحداث عنف وسلوكات كراهية، حيث لا تشبه الحملات الدعوية التي ترمي إلى النصح والوعظ، بقدر ما تسعى إلى تأليب الرجال ضد النساء، بطريقة مغرقة في التفاهة.
إزاء هذه الحملة المثيرة للشفقة، ماذا يقول الواقع ؟
يقول إن ثمة نساء كثيرات يسبحن بلباس البحر في كل شواطئ المغرب، يقمن طوال السنة بأعمال جليلة في خدمة بلدهن، وينعمن بعد موسم عمل مضن ببعض الراحة المستحقة، كما يقول الواقع إن ثمة نساء كثيرات يرفلن في أنواع القماش الأسود والرمادي وتغطين كل عضو من أجسادهن بما في ذلك الأصابع والأكف، ولكنهن لسن أكثر عفة ولا أنبل سلوكا من الأخريات، لأن معيار الفضيلة والعفة لم يكن في يوم من الأيام في أنواع القماش والخِرَق، بل في الوعي والسلوك.
إن حملة “كن رجلا” هي ظاهرة أخرى غريبة من ظواهر الصراع بين الماضي والحاضر، في مجتمع ما فتئ يعيش انتقالا صعبا ومحاطا بالمعيقات، من أجل الانعتاق من تقاليد ماض معيب، نحو مستقبل أكثر إنسانية.