نوستالجيا: الجسم السوسي الجريح في زمن الشح والجفاء

بقلم: امحمد القاضي*

في أيت عبد الله بإقليم تارودانت، على غرار كل مناطق أدرار بجهة سوس وكل بوادي المغرب العميق، تتساقط الأوراق من شجرة القيم ويتعرى جسم المنطقة يوما بعد يوم، ليفتضح عيوب عورة كان لباس الأخلاق سترتها.

لبعض عقود خلت، عشنا تميز جيل سابق بأخلاق أهل الجبال. منها الوقار، النية، الصدق، القناعة، العفوية، التشبت بالكرامة وعزة النفس، تقديس العمل والجدية، وممارسة تيويزي (التضامن المجتمعي/التويزة) التي تطبع تقاليد أهل البادية.

على مشارف نهاية القرن الماضي، كنا نثوق للعودة للأصل في فصل الصيف، عشقا في لقاء الأحباب، وشوقا لممارسة عاداتنا وطقوس المواسم الصيفية. الصيف موسم الهجرة للجنوب رغم صعوبة المسالك الطرقية، وقلة وسائل النقل، وضعف ذات اليد، كان حب المكان وشوق اللقاء يغمر الجميع.

البيوت كلها بيوتنا، لا تقفل الأبواب منذ فتحها في الصباح لغاية مغرب الشمس. لا داعي لتطرق الأبواب، صوت السلام يكفيك لتقف وسط تجمع أهل المكان. المطبخ طريق المرور لوسط المنزل، دخان الطهي يترك أثر في جدران وأسقف كل البيوت، رائحة خبز تفرنوت تغمر المكان، وصوت مخض اللبن، وموال النساء يتردد بين الأزقة وقهقهات الرجال تعلن توسط حكاية، وصوت أطفال يتجاذبون لعبة صنعوها ببقايا مواد إستهلاكية، في إنتظار الفرجة المسائية العفوية على نغمات أحواش.

الفصول الأربعة حلقة عمل تدور على مدار السنة، لا يكاد أهل تمازيرت يخرجون من موسم عمل حتى يبدأ الآخر، موسم الحرث، ووقت الإهتمام بالخضر المعيشية، أيام الرعي الربيعي، وجلب الحشائش للبهائم، فوقت غرس أشجار، وموسم حصاد، تم ساعة قطف ثمار اللوز والأركان، وتليها الإحتفالات والأعراس الصيفية، وتسوق المواسم المحلية كتتويج لعمل سنة فلاحية.

الصيف فسحة وفرصة المغتربين للهروب من ضيق المدينة إلى رحاب الريف، هروب من جفاء الحاضر إلى حنين الماضي. هروب من تدني قيم إنسانية إلى رفعة أخلاق خلت. هرولة من زيف المكان وتصنع أناس، وصولا للأصل حيث السكينة. الخروج من الذات المزيفة للإستقرار داخل مشاعر عفوية. موسم الهجرة من حاضر معاب نحو أمل في أفق أفضل. الكل هارب من شيء إلى آخر، لكن في زماننا إختلطت الطباع، فمما أنت هارب؟

كانت هذه أجواء قبل البناء بالطوب وسقف الإسمنت والربط بالكهرباء، وصنابير المياه والمرافق الصحية.

تغيرت ملامح البوادي السوسية وشقت بعض الطرق، وأنار الكهرباء البيوت، وما صاحبها من تجهيزات منزلية، وهواتف ذكية، وتباعدت المنازل وأصبح سقف جلها إسمنت، وزركشة جبص، وزين الزليج المطابخ. وأصبح للبيوت أجراس، لن تطأها إلا بعد أن تتجرأ رن الجرس.

حل شبه التحضر بالبوادي وغزت مظاهر البداوة المدن. تغيرت الأحوال والأزمنة ببوادي سوس، وأصبح واقع الحال اليوم مختلف. لم يعد المكان يغري كملجأ للهروب. إذ ربما تساوت السلوكيات، وتبدلت الطباع، وفرضت شح السماء وجفاف الطبيعة وعجرفة النفس البشرية مسافة بين رغبة الساكنة وعجلة الإنتاج المحلي. وفضل أهل البلدة الهجرة الجماعية هربا من قساوة والطبيعة، وهشاشة الحالة الإجتماعية.

فبشكل متسارع تحولت الأحوال للأحسن من حيث ظروف العيش، وللأسوأ أخلاقا وسلوكا. دبت وتيرة الكسل في النفوس، وأثقلت نقمة التواكل الأكتاف، وقلت نعمة تيويزي والتضامن الجماعي بالمداشر، طغت الفردانية، وقلت الزيارات العفوية. رغم ذلك تظل ما تبقى من القيم يغري للدفاع عنها وتلقينها للناشئة.

الحال أننا ندفن جيل الحشمة والوقار، ونربي جيل الجرأة والعنترية الإفتراضية. هذه ضريبة حرق المراحل وتسريع تحضر البوادي في غياب الوقاية من هجمات السلوكيات السلبية و طغيان ثقافة الإستسلام لغلبة تردي الأخلاق في زمن الإنحطاط.

جيل اليوم يتنفس صبيب الانترنت ويلازم المواقع الإفتراضية، ولا يفارق الهواتف الذكية، ولا صبر له للتأني. فكيف تقنع جيل العالم الإفتراضي بواقعية وبجادبية الإرتواء من عطش القيم الإنسانية الشبه مفقودة بالحواضر، بالرجوع للزيارة الموسمية لتمازيرت، منبع ما تبقي من الصفاء؟

مهام منوطة لصحوة فئة شجاعة وطموحة من المجتمع المدني، الواعية بإشكاليات الحاضر وتحديات المستقبل، المتسلحة بإرادة وعزيمة التكتل، والقادرة على خلق التغيير و تكتيف الجهود توحيد الأهداف وتجميع الإمكانيات ودحر التشتت لخلق مجتمع سوسي قادر على إعادة الأمل في النفوس.

للنفوس المتشائمة نقول مازال للمكان طعم في أعماقنا، وللجدور ماء الغدير للتروى، وللأصل بقعة في الجنوب ليرتاح، وسيظل التفاؤل سلاحنا لقهر تحديات الحاضر.

تصبحون على مجتمع أفضل وقيم أمثل.

* رئيس جمعية تيويزي للتنمية الإجتماعية لأيت عبد الله

شاهد أيضاً

امحمد القاضي

“أنا مواطن أؤدي ضرائبي”: الشعور بالفخر والإعتزاز بالإنتماء للوطن – اللحظات المعبرة المفقودة

كم هو مقنع أن يبلغ المواطن درجة رفيعة من الشعور بالإنتماء للوطن، حين يؤدي واجباته …

تعليق واحد

  1. ابراهيم صريح

    لكم منا اصدق المشاعر والف تحية وتقدير على هذا المقال الذي يلململ جراح أيت عبد الله و يصمد جراحاتها ببلسم الشفاء ومرهم الامل ، تحياتي وتقديري ومحبتي سيدي امحمد القاضي ودمتم فخرا للقبيلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *