رغم أني أدرك خطأ مذهبي، فإني لست من ممارسي التلقي الجمالي الجماعي؛ سواء تعلق الأمر بالمسرح أو السينما أو الموسيقى – هذه الفنون التي يعد التلقي الجماعي ركنا من أركانها، لا تقوم إلا بها. ولكن للأمزجة أحكامها…
هكذا، وفي ما يتصل بالموسيقى، ينبغي أن أعود بالذاكرة إلى منتصف الثمانينيات لكي أستعيد حضوري أمسية موسيقية أحياها الموسيقار مرسيل خليفة بالملعب البلدي لمدينة مكناس؛ حيث غص الملعب عن آخره ومن حوله بمحبي موسيقى الفنان الكبير. وكما كان معتادا وقتها فقد غنى خليفة حنين محمود درويش إلى خبز أمه وقهوة أمه (أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي…) وتمسّك سميح القاسم بالحرية والكرامة (منتصب القامة أمشي، مرفوع الهامة أمشي؛ في كفي قصفة زيتون وعلى كتفي نعشي، وأنا أمشي، وأنا أمشي…). وقد كان الحاضرون يحفظون الكلمات، فغنوها واكتفى المغني بالمرافقة والتأطير؛ فكان حفلا بهيجا اندغم خلاله الصوت في الصد…
من خليفة إلى إيدير، ومن مكناس إلى بروكسيل
ثم مرت الأعوام لم أشهد خلالها حفلا ولا مهرجانا، إلى أن وجدتني ذات أصيل من آصال خريف 2009 أستقل القطار من مقر سكناي إلى بروكسيل، لأحضر حفلا موسيقيا أحياه المأسوف على فقدانه الفنان إيدير. أقيم الحفل في قصر الفنون الجميلة؛ وكان المدرج غاصا بالحاضرين من مختلف الأجيال جلوسا ووقوفا؛ حضروا من حواضر بلجيكا ومن دول الجوار. قدموا زرافات ووحدانا ليتذوقوا فن فنان حكيم.
كان الرجل واقفا بجلال وسط منصة متقشفة، ليس فيها أثر لأي مؤثرات اصطناعية من تلك التي كثيرا ما يلجأ إليها لتغطية خواء الفكر وضمور الإحساس… كان منتصبا، متأبطا قيثارته السحرية، شامخا في تواضع، هادئا رزينا، يزرع الطمأنينة فيمن حوله بهيئته وكلماته وإيقاعاته. تلا رسالته إلى ابنته فكانت الكلمات تخرج من فيه مشروخة، فيها مزيج من الحنان والتحرج والألم والأمل وكثير مما لا تقوله الكلمات ويقوله الصوت. ثم أعطى انطلاقة “أﭭاﭭا اينوﭭا” فغنى الحضور جمعا ورافقهم هو بإيقاعاته السماوية وبكلمات من الأغنية-الأسطورة يرسلها على فترات شيخا يلقن مريديه الأسرار- أسرار حب الحياة حد التضحية بها من أجل حياة أجدر بأن تحيا… ثم أعقبتها روائع أخرى: “سّْنْدو” (المِمْخَضَة): نْدُو نْدو أيِغي… (تمخض، تمخض أيها اللبن)، “زْويتْ رْويتْ”، “أَزْوَاوْ”، “أَواهْ أواه”، “أَثُولاوينْ” (أيتها القلوب اللطيفة)، “ثيزي وزّو” وغيرها؛ وكلها كلمات وصور أصيلات مستقاة من كنوز الذاكرة الأمازيغية العريقة، مصوغة في قوالب موسيقية تبعث فيها الحياة وتجعلها تخاطب أجيالا من الأمازيغيين وغيرهم من المحدثين سكانِ العواصم الغربية، الذين لم يعرفوا العوالم المرجعية لتلك الكلمات والصور ولم يخبروها، ويتفاعلون معها، بفعل سحر الفن، تفاعل العارف بها…
كل ذلك بدون بهرجة ولا تهييج ولا تهريج ولا “نضالية” خطابية، وإنما بكلمات بسيطات عتيقات عريقات، نابعاتٍ من أعماق الضمير الجمعي المتجسد أسطورةً أو حكايةً أو أنشودة: تُرافقها نَوْتاتٌ موسيقية كونية لما تزلْ تسحر القلوب في العالم كله بسهولتها الممتنعة وطاقتها الإيحائية وتعبيريتها المكتنزة… مما يقوم دليلا على أن الإبداع لا يحتاج إلى التعقيد والتقعير والتعمُّل والتصنع وغير ذلك مما يلْجَأُ اليه من خفَّتْ موازينُهم من الفكر والإحساس…
وتوالت الأغنيات مُضَمَّخَةً بعِبْق الأرض، ناطقةً بإصرار الإنسان على الحياة – حياة مفعمة بالمعنى، متجذرة في المكان، مَدارُها ومحورُها الإنسان: إنسان حُرٌّ كريم سيد، لا خنوع ولا ذليل.
إن عبقرية إيدير مَرَدُّها، في نظري، إلى قدرته على استنطاق المِخيال الجَمْعي متمثلا في الأسطورة والحكاية والتهويدة (berceuse) والشعر الموروث؛ وهو ما يتجلى عنده في تعتيق القول الشعري؛ بحيث تكتنز الكلمات والعبارات بطاقات إيحائية تستحضر ذاكرة مَوْشومَة بمَعيش وتَمَثُّلات الأمازيغي في بعده التاريخي والأنثروبولوجي (الإناسي). فالشعرية الإيديرية أو جماليته هي شعرية الاستشهاد (une poétique/esthétique de la citation)؛ وبها يسجل قولَه الشعري في متصل (continuum) ثقافي لم ينفك إيدير عن إعلان الانتماء إليه، انتماءً جعل منه قاعدة الانطلاق نحو أفق الإِنسية الكونية الرحب.
هذا الانتماء المفتوح على الإنساني والكوني هو ما أدركه محبوه عبر العالم، فاحتفوا بإيدير حيا وميتا. إذ طَبِقَتْ ألحانُه الآفاق، غيرَ عابئة بحدود اللغات ولا باختلاف الثقافات… كان ذلك وهو حي، فلما وافته المنية نعاه أكابر العالم، كلٌّ على شاكلته؛ وأعلنت عن وفاته كبرياتُ الصحف والقنوات الإذاعية والتلفزيونية؛ وعقدت له حلقات خاصة في برامجها الثقافية والفنية. وأما شبكات “التواصل الاجتماعي” فقد اشتعلت نعيا وذكرا وحِدادا.
فيا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضيةً مَرْضِيَّةً، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي: جنةَ الطيبين، كل الطيبين، في كل زمان، وفي كل مكان.