
يؤكد محمد حنداين في كتابه، الجهات التاريخية الكبرى بالمغرب، جهة سوس الكبير خلال القرنين 17 و18، انطلاقا من وثائق غير منشورة. أن منطقة سوس تعد إحدى أهم الجهات التاريخية الكبرى في المغرب، وقد شكلت، خلال القرن الثامن عشر الميلادي، فضاءً سياسياً واجتماعياً بالغ الأهمية في علاقة السلطة المركزية بالزعامات المحلية. وحاول من خلال دراسة هذه العلاقة، خصوصاً في عهد السلطان مولاي إسماعيل (1672–1727م)، الكشف عن توازن دقيق بين منطق الطاعة ومنطق التفاوض، وعن تفاعل معقد بين العرف والشرع في تدبير شؤون الحكم المحلي.السلطة المركزية والزعامات المحلية : بين جلال الطاعة وجلال البيعة ويخلص التحليل الوثائقي الذي قام به إضافة الى باحثين أخرين إلى أن علاقة السلطان مولاي إسماعيل بزعماء سوس كانت تتأرجح بين الخضوع الرمزي للمخزن من خلال آلية البيعة، وبين استقلال فعلي في تدبير الشؤون المحلية من طرف الزعامات القبلية والمرابطين والفقهاء. فهذه النخب المحلية كانت تمتلك شرعية مستمدة من انتمائها الديني والاجتماعي، وتؤدي دور الوسيط بين القبائل والسلطة المركزية، ما جعلها طرفاً لا يمكن تجاوزه في هندسة الحكم الجهوي(1).
إن مفهوم “البيعة” في هذا السياق لم يكن مجرد طقس شكلي، بل أداة سياسية تفاوضية تُعبّر عن قبول ضمني للسلطة المركزية، مقابل الاعتراف بحق الزعامات في إدارة شؤونها الداخلية وفق أعرافها ومصالحها(2). وقد شكّل هذا التوازن أحد ملامح الدولة المركّبة في المغرب ما قبل الحديث.
التداخل بين العرف والشرع: ثنائية الحكم في المجال السوسي
يُبرز تحليل الممارسة السياسية والقضائية في سوس خلال هذه الفترة تداخلاً عضوياً بين القانون العرفي المحلي (أزرف) والشرع الإسلامي. فالقضاة والعلماء الذين عيّنهم السلطان، مثل القاضي عبد الله بن إبراهيم، كانوا يزاوجون في عملهم بين المرجعيتين، مما سمح بإنتاج نموذج من الحكم مرن ومركّب، يجمع بين مقتضيات الشرع واستمرارية الأعراف المحلية(3).
هذا التفاعل بين العرف والشرع يؤكد أن إدارة سوس لم تكن أحادية المصدر، بل قامت على توازن دقيق بين سلطة النص وسلطة الواقع، وهو ما جعل النظام المخزني أكثر قدرة على التكيف مع خصوصيات الجهة (4).
3. التاريخ من أسفل : الوثائق كمرآة للتاريخ المحلي
لقد تمكن حنداين و باحثين أخرين انطلاقا من اعتمادهم على في هذا العمل على منهج التاريخ الأرشيفي أو ما يُعرف بـ”التاريخ من أسفل”، من خلال تحليل وثائق أصلية غير منشورة مثل الظهائر السلطانية والرسائل الرسمية بين السلطان ووكلائه في سوس. تكشف هذه الوثائق عن صورة دقيقة لتفاعلات الحكم المحلي، وتقدّم مادّة أولية نادرة لإعادة بناء تاريخ سوس السياسي والاجتماعي (5).
من خلال ملحق الوثائق، تتبين ملامح واضحة لتدخل السلطان المباشر في تسيير المنطقة، سواء عبر تعيين القضاة، أو إصدار الظهائر المتعلقة بالمؤسسات الدينية (زاوية تيدسي نموذجاً)، أو منح الامتيازات الاقتصادية للأسر ذات النفوذ الروحي. هذه الوثائق، بما تحمله من لغة سلطانية صارمة، تكشف عن حضور قوي للمخزن في تفاصيل الإدارة المحلية(6).
4. أدوات السيطرة المخزنية على سوس
اتخذ السلطان مولاي إسماعيل مجموعة من الأدوات لضمان خضوع سوس لسلطة المركز، يمكن تلخيصها في ثلاثة محاور:
• المنح والإقطاعات: حيث كان السلطان يمنح أراضٍ وزوايا لأسر مرابطية موالية، لتأمين الولاء السياسي عبر الامتيازات الاقتصادية (7).
• التعيينات الإدارية والقضائية: فقد كان يعين القضاة والعلماء كأذرع تنفيذية لضمان الانسجام بين السلطة المركزية والمجال المحلي.
• الترهيب والتهديد: بعض الوثائق تشير إلى رسائل سلطانية تحمل لهجة حازمة تجاه القضاة والعاملين المحليين، كما في “رسالة تتعلق بتولية وتهديد بعض القضاة”(8).
الديناميات القبلية والصراعات المحلية
تُظهر المراسلات المتبادلة بين العامل السلطاني محمد العالم والقاضي محمد أمزوغار حجم التحديات التي واجهها المخزن في سوس خلال العقد الأخير من القرن السابع عشر. فقد كانت المنطقة مسرحاً لصراعات قبلية متكررة، مثل النزاع ضد إيداولتيت أو التحرك ضد دار إيليغ، مما اضطر المخزن إلى التدخل العسكري أو عبر وسطاء دينيين (9).
إن شخصية محمد أمزوغار تبرز هنا كعنصر محوري في الإدارة المحلية، يجمع بين الوظائف القضائية والمالية والعسكرية، ما يعكس تعدد أدوار النخبة المحلية في ضمان استقرار السلطة المركزية بالجهات (10).
من خلال ما، يتضح أن سوس خلال عهد مولاي إسماعيل لم تكن هامشاً جغرافياً أو سياسياً، بل كانت جهة ديناميكية فاعلة في إعادة تشكيل توازنات الحكم بالمغرب. فقد مثّلت العلاقات بين السلطان والزعامات المحلية نموذجاً للتمازج بين منطق الدولة ومنطق القبيلة، وبين الشرعية الدينية والشرعية العرفية.
هذا النموذج يبرهن على أن الدولة المغربية التقليدية كانت تُدار وفق آليات تفاوضية مرنة، استطاعت من خلالها احتواء التعدد المحلي دون المساس بجوهر السلطة المركزية.
الإدارة المخزنية في سوس: من التأسيس السلطاني إلى الممارسة اليومية (1699-1702م)
تشكل الوثائق الإدارية الصادرة عن العامل السلطاني محمد العالم والموجهة إلى القاضي محمد أمزوغار خلال الفترة الممتدة بين (1110هـ–1114هـ / 1699م–1702م)، مصدراً أساسياً لفهم الآليات التشغيلية اليومية لإدارة سوس في عهد السلطان مولاي إسماعيل وخلفائه المباشرين.
وتكشف هذه الوثائق، من خلال لغتها الدقيقة وتواتر أوامرها، عن مرحلة متقدمة من مراحل تثبيت السلطة المركزية في الجنوب، حيث انتقل المخزن من مرحلة الهيمنة الرمزية والتأسيس الشرعي إلى مرحلة الإدارة التنفيذية والتدخل الميداني المستمر.
الحركة المستمرة والرقابة الميدانية
تكرار العبارات من قبيل «استهالة الناس إلى المخزن»، و«قدومه إلى إيداولتيت»، و«عزم قدومه»، يدل على أن العامل السلطاني كان في حركة دائمة لمتابعة الأوضاع المحلية(1).
هذه الصيغة اللغوية تعكس طبيعة الإدارة المتنقلة التي اعتمدها المخزن في مناطق الأطراف، حيث كان المسؤولون يجمعون بين سلطة القرار وسلطة الحركة، في ما يشبه الرقابة الميدانية المتواصلة لضمان الطاعة ومنع تشكل سلطات موازيةعبرآليات السيطرة والإدارة المحلية التي تكشف عنها الوثائق التي اعتمد عليها محمد حنداين واخرين كما تكشف كذلك هذه الوثائق عن الادوات العملية التي استخدمها المخزن لتأمين السيطرة على سوس، يمكن تصنيفها في ثلاث مستويات مترابطة:
أ. البنية التحتية العسكرية والإدارية
التركيز المتكرر على بناء «قصبة المخزن» في مواقع متعددة مثل إدغ ، يشير إلى استراتيجية تهدف إلى إقامة قواعد عسكرية ثابتة تمثل امتداداً مادياً للسلطة السلطانية(2).
كانت هذه القصبات بمثابة مراكز مراقبة وجباية، ومخازن للأسلحة والمؤن، ومنطلقاً لحملات التأديب ضد القبائل المتمردة، ما يؤكد أن العمران المخزني كان جزءاً من الهندسة السياسية للسلطة(3).
ب. جمع المعلومات والاستخبارات
تُظهر إحدى الرسائل التي تحمل عنوان «رسالة تتعلق بجميع أخبار ايداولتيت» وجود شبكة معلومات دقيقة تمكّن المخزن من تتبع تحركات الزعامات القبلية، مما يعكس أهمية البعد الاستخباراتي في تدبير المجال(4).
لقد كان العامل يعتمد على تقارير محلية تصل عبر القضاة أو الوسطاء الدينيين لتحديث قراراته، وهو ما يبرز طبيعة الدولة المخزنية كـجهاز مراقبة اجتماعية أكثر منها بيروقراطية كلاسيكية(5).
ج. العلاقات الشخصية داخل الإدارة المحلية
تكشف الرسائل المتبادلة بين العامل السلطاني محمد العالم والقائد عبد الكريم البوحياتي، بخصوص علاقته بالقاضي أمزوغار، أن المخزن كان يدير ويراقب حتى العلاقات الشخصية بين مسؤولي السلطة المحلية(6).
هذا النوع من الرقابة الدقيقة يهدف إلى منع تشكّل تحالفات داخلية مستقلة أو مراكز قوى بديلة عن الولاء للمركز، وهو مبدأ ظلّ يطبع عمل الدولة المخزنية عبر القرون.
3. الدور المركزي للقضاء في النظام المخزني
لا يظهر القاضي في هذه الوثائق كمجرد فقيه يصدر الأحكام الشرعية، بل كـمدير إداري وسياسي يجمع بين وظائف متعددة. فقد كان القاضي محمد أمزوغار مسؤولاً عن:
• حشد القبائل ر
• استقبال ممثلي المخزن ومبعوثي السلطان.
• التوسط لتهدئة النزاعات القبلية.
• الإشراف على جمع الضرائب (الانقلاس)
• تنفيذ الأوامر العسكرية والإدارية.
يُبرز هذا الدور المركب أن القضاء في التجربة المخزنية لم يكن مجرد سلطة مستقلة، بل ركيزة من ركائز السلطة التنفيذية في الجهة، تمزج بين المشروعية الدينية والكفاءة الإدارية(7).
4. من المواجهة إلى التفاوض: تطور الاستراتيجية المخزنية
بمقارنة مجموعتي الوثائق، يبرز تحول نوعي في أسلوب تعامل المخزن مع القبائل، خاصة إيداواتيت. فبعد أن كانت الرسائل الأولى مشبعة بلغة التهديد والحزم، تظهر لاحقاً رسائل من قبيل «رسالة تتعلق بشروط الصلح مع ايداولتيت»، ما يدل على انتقال الاستراتيجية من المواجهة إلى التفاوض(8).
هذا التحول يُعبر عن وعي المخزن بأن إخضاع سوس لا يمكن أن يتحقق بالقوة وحدها، بل بوسائل التهدئة وبناء الولاءات التدريجية عبر منح الامتيازات وإعادة توزيع السلطة داخل القبائل(9).
من التأسيس السلطاني إلى الإدارة اليومية
إن الجمع بين الوثيقتين (1699–1702م) يتيح رؤية متكاملة لتطور الإدارة المخزنية في سوس:
• من مرحلة التأسيس والشرعنة السلطانية (في عهد مولاي إسماعيل)، حيث صدرت الظهائر المتعلقة بالتعيينات وبالزوايا؛
• إلى مرحلة الممارسة اليومية التي اتسمت بالتدخل الميداني والتنسيق بين العامل والقاضي في ضبط المجال.
هذه الصورة توضح أن الدولة المخزنية كانت نظاماً متعدّد المستويات:
سلطة مركزية تصدر الأوامر وتضبط الولاءات، وسلطة محلية تنفذ وتتكيف مع الواقع الاجتماعي القبلي.
لقد كانت سوس مختبراً مصغّراً لتجريب آليات الحكم السلطاني، بين التهديد والصلح، وبين الردع والوساطة، في سعي دائم نحو الحفاظ على الأمن واستمرار الجباية(10).
من المواجهة إلى التثبيت: مرحلة ما بعد الصراع في سوس خلال مطلع القرن الثامن عشر (1702–1704م)
اعتمد حنداين على مجموعة من الوثائق، التي تعود إلى الفترة (1114هـ–1116هـ / 1702–1704م)، حلقة ثالثة في مسلسل تطور إدارة المخزن لمنطقة سوس بعد حملات الإخضاع الأولى. فبعد مرحلة التأسيس السلطاني المباشر في عهد مولاي إسماعيل، ومرحلة المواجهة الميدانية التي قادها العامل محمد العامل بمعية القاضي محمد أمزوغار، تعكس هذه الوثائق انتقال المخزن إلى مرحلة ترسيخ السيطرة ومتابعة تنفيذ الاتفاقات، من خلال الجمع بين المتابعة الإدارية، والتواصل الميداني، وإعادة بناء شبكات الولاء المحلي.
سياسة المكاشفة وإعلان شروط الصلح
تُظهر إحدى الرسائل الموجهة «إلى كافة قبائل ايداولتيت خبرهم فيها بالشروط التي وافق عليها» أن المخزن تبنّى في هذه المرحلة سياسة المكاشفة والإعلان، حيث لم يعد الصلح يتم في الخفاء أو في نطاق النخبة، بل صار يُعلن للعموم(1).
إن نشر شروط الصلح على نطاق واسع يعكس رغبة السلطة في ترسيخ شرعية القرارات المخزنية، وتأكيد الطابع المؤسسي للصلح كآلية من آليات الحكم، بدل أن يظل مجرد تسوية ظرفية.
كما أن ذلك ساهم في تحويل الاتفاق إلى عقد اجتماعي محلي معلن، يُحمّل القبائل مسؤولية الالتزام بالقرارات أمام جماعاتها.
2. التصعيد في المتابعة الميدانية والمراقبة اللصيقة
تتكرر في الوثائق عبارات من قبيل «قدومه إلى إليغ»، «قدومه إلى ايداولتيت»، «إخبار القاضي بالتوجه إلى ايداولتيت يوم 9 ذي القعدة»، ما يدل على تكثيف الحركة الميدانية للمسؤولين، ولا سيما العامل والقاضي(2).
تُترجم هذه الحركة المتواصلة إلى شكل من الرقابة الميدانية النشطة التي تستهدف ضمان تنفيذ شروط الصلح، وتثبيت مظاهر الطاعة في الميدان، لا في الأوراق فقط(3).
إن هذا النمط من التدبير يبرهن على أن الدولة المخزنية لم تكن تكتفي بإصدار الأوامر من العاصمة، بل كانت تعتمد التحرك المادي المباشر كآلية لإعادة إنتاج السلطة في الفضاءات الطرفية.
ترسيخ سياسة الطاعة والانضباط
تظهر في هذه المرحلة مصطلحات جديدة مثل «الطاعة والانصباح»، التي تجمع بين الامتثال والانضباط(4).
وتبرز إحدى الوثائق الموجهة إلى القبائل عبر وسيط محلي («حواب محمد العالم إلى قبيلته») هذه النزعة الجديدة إلى تعميم ثقافة الطاعة باعتبارها شرطاً مسبقاً لأي تفاوض أو تعامل مع المخزن.
هنا نلاحظ انتقال الخطاب السلطاني من مجرد فرض الطاعة كواجب سياسي، إلى بناء منظومة أخلاقية-إدارية تجعل من الانضباط سلوكاً معيارياً في العلاقة بين الحاكم والمحكوم.
4. توسيع شبكة المراقبة والإدارة
تكشف الوثائق عن تطور في البنية الإدارية، حيث بدأ المخزن يوسّع شبكة المراقبة عبر تكليف القاضي امزوغار بجمع الأخبار والمعلومات («حمله على جمع أخبار ولتيتة»)، مع إشراك شخصيات جديدة مثل الوصيف علي بن سعيد وأحمد قياد(5).
إن هذا التوسع الإداري يدل على أن المخزن بدأ ينتقل من مرحلة إدارة الأزمة إلى مرحلة بناء الجهاز الإداري المحلي، مما يعكس تحولاً من “السلطة المتحركة” إلى “السلطة المقيمة” ذات الهياكل شبه الدائمة(6).
وبذلك، يصبح القاضي ليس فقط منفّذاً للأوامر، بل محوراً لشبكة من الأعوان والوسطاء، تجمع بين الوظيفة القضائية والإدارية والاستخباراتية.
مرونة السياسة المخزنية: بين الحزم واللين
من خلال مقارنة هذه الوثائق بسابقاتها، يظهر بوضوح أن المخزن طوّر سياسة مزدوجة تجمع بين الصرامة والمرونة، أي بين الردع عند الحاجة والتفاوض عندما يكون ممكناً.
إن هذا التوازن بين “الهيبة” و “الحكمة” يعكس ما يسميه بعض الباحثين بـالبراغماتية السلطانية، حيث لم تكن الدولة المخزنية دولة قمع خالص، بل جهازاً يتكيف مع تعددية الواقع الاجتماعي(7).
لقد أدركت الإدارة المركزية أن استقرار سوس لا يمكن ضمانه بالسيف فقط، بل عبر إعادة إدماج القبائل في منظومة الطاعة بالمنافع والمكانة والوساطة الدينية.
الدور المستمر للقاضي محمد أمنوغار
يواصل القاضي محمد أمزوغار لعب دور المحور بين المخزن والقبائل، ليس فقط كقاضٍ شرعي، بل كـقائد إداري وسياسي ميداني.
تظهر مسؤوليته في التفاوض حول الشروط، وإبلاغ القبائل بها، والإشراف على تنفيذها، وجمع الأخبار، ما يجعل منه نموذجاً لما يمكن تسميته بـالفاعل المخزني المحلي الذي يجسد “المركز في الهامش”(8).
إن استمرار اسمه في مراسلات متتابعة على مدى أكثر من خمس سنوات يبرز مكانته الاستثنائية كجسر بين الدولة والمجتمع القبلي.
كما تمثل هذه الوثائق مرحلة تثبيت السيطرة بعد الصراع، وتكشف أن المخزن في سوس انتقل عبر ثلاث مراحل متتابعة:
1. مرحلة التأسيس والشرعنة – عهد مولاي إسماعيل، حيث ركّزت الظهائر السلطانية على البيعة وتعيين القضاة والزوايا.
2. مرحلة المواجهة والإدارة اليومية – حين تم الاعتماد على الحملات الميدانية وردع القبائل المتمردة.
3. مرحلة التثبيت والرقابة – التي تجلت في متابعة تنفيذ الصلح، وتوسيع الهياكل المحلية، وترسيخ ثقافة الطاعة والانضباط.
إن هذه المراحل الثلاث لا تعكس فقط تطور إدارة منطقة بعينها، بل تكشف نمط اشتغال الدولة المخزنية ككل: دولة مركزية بوسائل محلية، تتحرك بين العصا والجزرة، بين الدين والسياسة، وبين العرف والشرع، في محاولة دائمة لإدارة التعدد دون المساس بعمود السلطة الشرعية.
المرحلة الخامسة: مرحلة الاستقرار النهائي وترسيخ النظام (1715-1726م)
يمثل مجموع الوثائق في الصفحات الأخيرة من فهرس المراسلات المخزنية، وتشكل خلاصة نصف قرن من التفاعل الإداري والسياسي بين المركز (المخزن) والجهة (سوس).
تتضمن هذه الوثائق رسائل وظهائر صادرة عن الأمير عبد المالك، تتعلق بالتعيينات الإدارية، وتوقير الزوايا المحلية، وتأكيد سياسة الاستقرار بعد فترات طويلة من المواجهة والتفاوض.
إنها وثائق المرحلة الهادئة من التاريخ الإداري للمخزن في سوس، حيث تتحول آليات الضبط من القوة والمراقبة إلى الاعتراف والتوقير.
المحاور والموضوعات البارزة
1. استمرارية التواصل المخزني مع النخب المحلية
• تُظهر الوثائق استمرار المراسلات الرسمية من الأمير عبد المالك إلى أهل تدسي وأهل تيدسي، بما في ذلك:
o رسائل تنظيمية حول “شؤون الولاية والحكم”، مما يدل على استمرار الإدارة المركزية في متابعة التفاصيل المحلية.
o تعيين إبراهيم بن أحمد على المنطقة، وهو ما يعكس تدخل المخزن في تعيين القياد المحليين وترسيخ سلطته الشرعية.
2. التكريس النهائي للعلاقة عبر الظهائر
• ظهير توقير أهل تيدسي: وثيقة محورية صادرة سنة (1139هـ / 1726م) تُقرّ المكانة الخاصة لزاوية تيدسي، وتمنحها نوعاً من الحصانة الرمزية داخل النظام المخزني.
• تمثل هذه الظهائر تتويجاً لعلاقة طويلة من التفاوض، التعاون، والخدمة المتبادلة بين المخزن والزوايا المحلية.
• بذلك، تنتقل العلاقة من التحكم السياسي إلى الشراكة الرمزية التي تُكرّس وحدة المجال السياسي والديني.
3. الاستمرارية الزمنية والديمومة الإدارية
• يغطي تسلسل الوثائق فترة اثني عشر عامًا متواصلة (1128-1139هـ)، ما يعكس:
o الاستقرار الإداري بعد عقود من التوتر.
o غياب الإشارات إلى حركات تمرد أو اضطراب، ما يؤكد نجاح سياسة الاحتواء.
• الأرقام التسلسلية في الفهرس (222، 223، 224…) تُشير إلى ضخامة الأرشيف المخزني في المنطقة، وإلى أن إدارة سوس كانت تُوثَّق بدقة منهجية عالية.
الاستنتاجات المستخلصة
• ترسيخ الشرعية الرمزية والدينية للمخزن
تُظهر الظهائر الأخيرة تحول المخزن من سلطة قهرية إلى سلطة شرعية تحظى بقبول اجتماعي وديني. فقد أصبح “توقير الزوايا” جزءاً من أدوات الحكم، واستُبدل منطق الطاعة بمنطق “الاحترام المتبادل”.
• استدامة العلاقة بين المركز والجهة
استمر التواصل رغم تغير الفاعلين السياسيين، مما يعكس نضج التجربة الإدارية المغربية، وتحولها من علاقات شخصية إلى مؤسسة دائمة تربط بين المخزن والنخب الجهوية.
• نجاح استراتيجية الدمج بدل الإقصاء
اعتمد المخزن في هذه المرحلة على دمج القوى المحلية داخل المنظومة الرسمية عبر منح الامتيازات والاعتراف بالمكانة، بدل مواجهتها عسكرياً، وهو ما ساهم في تحقيق الاستقرار طويل الأمد.
الخلاصة التركيبية للوثائق الخمس (1089-1139هـ / 1678-1726م)
من خلال تتبع تسلسل الوثائق الخمس، يتضح المسار الكامل لتطور العلاقة بين المخزن ومنطقة سوس عبر خمس مراحل تاريخية مترابطة:
لاستنتاج النهائي
تُظهر هذه السلسلة الوثائقية أن المخزن المغربي في القرن 17–18 لم يكن مجرد سلطة قهرية، بل كان جهازًا سياسيًا متدرجًا، قادرًا على التحول من المواجهة إلى التفاوض، ومن التفاوض إلى الشراكة.
نجح في:
• تحويل الولاءات القبلية إلى ولاءات إدارية.
• دمج الزوايا والقضاة في منظومته الشرعية.
• بناء توازن بين المركز والجهة يضمن الاستقرار دون فقدان السيطرة.
خلاصة فكرية:
الوثائق المخزنية الخاصة بسوس تمثل نموذجًا مصغرًا لتاريخ الدولة المغربية، حيث تتجلى فيها مبادئ المرونة، والبراغماتية، والاعتماد على الوساطة المحلية في حفظ الأمن والوحدة.
إنها وثائق تكشف كيف استطاعت الدولة المغربية ما قبل الحديثة أن تخلق نظام حكم قائمًا على التفاوض الدائم بدل القطيعة، وعلى التوازن بين السلطة والشرعية.
جريدة العالم الأمازيغي صوت الإنسان الحر