الطيب أمكرود
يحكي والدي أن من أعز أصدقائه خلال ستينيات وسبعينيات القرن العشرين بسوق إمي نتليت مواطن مغربي يدين باليهودية، كان صديق الوالد يحب خلال وجبة الإفطار، في اثنين إمي نتليت بأحد المقاهي الشعبية ، أن يتناول البيض المطهو بالسمن، وكان يسميه مازحا “إوداي ءيعزا دارس وودي”، كان اليهود يوفرون كل ما يحتاجه الناس من منتوجات الصناعة التقليدية، وكانوا يعيشون وسط الناس يعايشونهم ويجاورونهم ويشاركونهم أفراحهم وأتراحهم، ويبذل الناس أقصى الجهد لتقديم أفضل ما يمكن للقادم من بعيد، أيا كان.
ولدت ذات ربيع من بداية سبعينيات القرن الماضي، فتحت عيني وسط أناس طيبين، فرغم قساوة الحياة وشظف العيش، ورغم التهميش والغياب الكلي لأي وجه من أوجه التنمية، كانت السعادة لا تفارق وجوههم التي لفحتها الشمس، كانوا يمضون أيامهم وسط حقولهم أو خلف قطعانهم التي لا يملكون عنها بديلا. وبالاعتماد على ما توارثوه عن أجدادهم من قيم التكافل والتضامن والتنظيم كانوا ينجزون كل أعمالهم، فبين تيويزي ” العمل الجماعي” وأدوال ” العمل بالتناوب” كانت تنجز كل الأعمال مهما بلغت صعوبتها، وبالاعتماد على ” أكدال: تحمى كل المحاصيل والغلل من الاستنزاف وعشوائية الجني…في مساءات الصيف والشتاء، وفور الانتهاء من يوم عمل يقاس زمنه بشروق الشمس وغروبها، تتحول البيادر ومعاصر الزيتون وقاعات الضيوف الكبيرة “تادواريين” إلى مسارح تتناوب عليها المواهب، فكان الجد والوالد والابن والحفيد ينضمون لنفس صف المنشدين، بل أن الوالد كان يموقع أصابع الإبن المولع بالعزف على الأوتار لإنتاج النغمة المناسبة إعدادا له لمرافقة نغماته على آلة الرباب.
كان الناس يتناوبون على إطعام فقيه الدوار، وكانت لقاءاتهم المعدودة على رؤوس الأصابع في المسجد، وخصوصا خلال عيدي الفطر والأضحى، مناسبة لأداء الأجرة السنوية للفقيه وشراء أضحيته ووداعه قبل أن يتوجه نحو ذويه لقضاء العيد. لم يطلق الناس لحاهم، ولم يقصوا شواربهم، ولم يهجر الرجال سلاهيمهم وجلالبيبهم وطاقياتهم المطروزة من رسومات تتوارث جيلا عن جيل، والنسوة ملاحفهن وخلالاتهن وحليهن. وكانت جموع الناس أمام الدواوير لا تنفض إلا للنوم، فيصلي من يصلي ولا يحاسب من لا يصلي باعتبار الصلاة شأنا خاصا بالفرد، ولم يكن الناس يحرمون ويحللون، ولم يضجر أحد من أسماء ءيدر وبلا وبيهي وإيجا ومماس وتلايتماس والركراكي والجيلالي، وكان الصبية ينادون آباءهم ب” بابا، إيبا، با…” وأمهاتهم ب” إينا، أمي، ما…”، ويحتفل الجميع بإيض ن أوسكاس أو الناير أو حكوزة، ويطهون ما لذ من الطعام محتفلين بقدوم عام جديد.
فجأة، وبعد منع الفلسفة من المدارس وتشجيع شعب الدراسات الإسلامية والشريعة في الكليات مع التضييق على العشب العلمية والأدبية التي تشجع ملكة التفكير والتحليل والنقد، وبعد غض الطرف عن تجار الدين ليعششوا ويفرخوا، تخلى المغاربة عن اعتدالهم، عن تقاليدهم، عن لباسهم، عن أدق تفاصيل حياتهم وفتحوا صدورهم لفكر التطرف، فعوض الحب بالكراهية، وشجع بناء المساجد مع إهمال المدارس والمكتبات والمستشفيات، وتراجعت الشعب العلمية وأهملت المختبرات بل تركت للزمن يفعل بها مفعولها…فقصرت السراويل وغطت النسوة بأمتار الأثواب الخشنة، وعطلت العقول. فكانت بداية الألفية الثالثة إيذانا ببداية مرحلة أخرى من تاريخ أرض عرف أبناؤها بالسلم والمحبة والتسامح وقبول الآخر دون مركب نقص، فتكتل حملة الفكر المتطرف ضد كل ما هو مغربي أصيل بدءا من الثقافة في أدق تقاصيلها، فاندلعت حروب بين فقهاء الوطن ومستلبي الضمائر حول القراءة الجماعية للقرآن، وأفتى جهلة شحنوا من قبل تجار الدين في كل شيء مهما بلغت بساطته أو تعقيده وحولوا حياة كانت سعيدة إلى مسلسل من التحريم والتحليل من قبل من لا يمتلك من أدوات الإفتاء إلا لحية مطلقة العنان وجبة وسروالا قصيرين وعقلا فارغا، ومسخت الأسماء المغربية الأصيلة واستبدلت بأسماء غريبة عن التربة المغربية، وكنى معتنقو ريح الشرق أنفسهم بابي كذا وأم كذا، وهجر البسطاء من الناس أزياءهم ومسخوا أسماء أبنائهم، وتحولت شوارع الوطن إلى جحافل من ذكور اختزلوا الدين في بضعة مظاهر يسوقون نسوة مثقلات بأمتار الأثواب الأفغانية، تبعهم بغير وعي مغاربة غير مدركين أن المروجين لبضاعة الشرق الفاسدة سيحولون وطنهم إلى خراب، وها قد حل الخراب.
من كان يصدق أن جبال الأطلس الشامخة التي لم تنتج إلا الشموخ والإباء والتحدي والكرم والبساطة والفرح والسعادة، ولم تنتج إلا كل شيء جميل، وظلت فاتحة ذراعيها الطيبتين للجميع دون سؤال عن دين أو عرق أو لغة، دون أدنى تدخل في خصوصيات الناس وشؤونهم الخاصة…من يصدق أنها ستكون يوما ما مسرحا لأول جريمة ذبح لإنسانتين بريئتين ذنبهما أنهما أحبتا الحياة.
من منا سيقبل أن يذبح جهلة فلذة كبده التي أنفق من أجل تنشئتها وتربيتها وتوجيهها واختيار مسارها في القناعة والفكر والحياة غير قليل من الجهد والوقت والمال، سيكون مصيرها بين أيدي الجهلة؟
أسفي عليك يا وطني، ماضيك أفضل من حاضرك، وقد صيرك بعض من ساستك، بمخططاتهم ومشاريعهم إلى عش يفرخ فيه الإرهاب.
من الصدمة الثقافية ان نعيش في بيئة غير بيئتنا، ان نسمع ب أن جبل درن، جبل الحياة او الصدى اصبح كجبال افغانستان، الاطلس الكبير الذي يرحب بمن أتاه مسالما ويأويه بين الاحضان آمنا مطمئنا.