منذ صدور ميثاق العمل الجماعي في سنة 1976 والخطاب السياسي في بلدنا يصب في توطيد دولة اللامركزية ودولة الجهوية وصولا الى دولة حداثية وعصرية بمفهوم المؤسسات العصرية.
كان قانون التنظيم الجماعي (ظهير 76) مرحلة اولى في ولوج المغرب الى عهد التجربة الديموقراطية المحلية، و لقد خلق ذلك تطورا نوعيا في مسالة الحكم التي اخدت اتجاها واسعا، واصبحت مرتبطة بقيم جديدة، قيم المواطنة وقيم المشاركة او قيم التشارك وقيم التوزيع، اي توزع الحكم حسب الاختصاصات مصحوبة بثقافة الالتزام، وهكذا ثم اشراك المنتخبين المحليين في تدبير الشأن المحلي لترسيخ ثقافة القرب، اي ان يكون المنتخب المحلي او الحاكم المحلي قريبا الى المواطن في مشاكله ومعاناته وفي مطامحه الاساسية. وهذا هو الدور المنوط بالجماعات المحلية والمؤسسات الجهوية. اما الدولة فيبقى دورها التحكيم والتخطيط والتوجيه والتنشيط اضافة الى دور التصحيح حين يكون عليها ان تتدخل اذا رات انحرافا عن تطبيق القانون.
هذه التجربة الديموقراطية قادت الى الحديث عن تقاسم الحكم و تقاسم السلطة او دمقرطتهما، بمعنى خلق مؤسسات تساهم في خلق القرار والتحكم فيه عن طريق القنوات الديموقراطية او قوانين انتخابية ديموقراطية، لكن ما يلاحظ على ارض الواقع ان الممارسات الادارية و البيداغوجيات التدبيرية في اتخاذ القرارات هي ممارسات بينت على ان هناك تناقضا بين الخطاب وبين طموح الدولة من جهة و الحصيلة العامة من ناحية انتاج القرارات والمشاريع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية و كذا العلاقة بين المواطن والادارة من جهة ثانية.
منذ بداية مسلسل التجربة الديموقراطية الجماعية في سنة 1976 الى الان لم نقم بالشكل الكافي بتقييم نتائج هذه المؤسسات الجماعية المنتخبة، ولم نقم بالتقييم الشمولي لها مما ساهم في تراكمات سلبية وخطيرة على تسيير الشأن العام المحلي وعلى تسيير المرافق العمومية، وبموازاة هذه السياسة التدبيرية ” التشاركية ” استمرت سياسة التشبث بالمفهوم القديم للسلطة عن طريق الولاة و العمال ورجال السلطة تحت غطاء لا مركزية منحرفة عن مقاصدها وديموقراطية اريد لها ان تكون ملجمة وموجهة، كما ظلت هذه السلطات تتصرف كمؤسسات مستقلة عن الحكومة، ومهيمنة على عدد من المصالح الخارجية للوزارات، ومشددة رقابها على الجماعات، ومتطاولة احيانا على صلاحياتها، لذا لم تفلح الجماعات ولا المجموعات الحضرية –آنذاك- في تدبير شانها بشكل مستقل وبالتالي فان روح المفهوم القديم للسلطة ظلت حاضرة حتى بعد اقرار النظام الجماعي الحديث. وافضت هذه الممارسات القديمة للسلطة الى :
فبركة اعيان جدد عوض منتخبين ممثلين للسكان.
تغليب معيار المحسوبية والولاء على معيار الكفاءة والاستحقاق.
تهميش الكفاءات داخل الادارات المحلية.
تفشي الرشوة والفضائح المالية.
تراجع روح المواطنة والالتزام السياسي.
ترسيخ اقتصاد الريع.
كل ذلك ادى الى تعطيل المؤسسة الدستورية وتقليص دورها كمولد للديموقراطية المحلية مما دفع الدولة الى اعطاء المزيد من الفرص للجماعات المحلية حتى تلعب دورا اكثر فعالية في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ودعم مسار اللامركزية الادارية بإحداث الجهات الادارية اللامركزية والتي اعطيت لها الاختصاصات القانونية في ميدان التنمية بموجب القانون 96- 47 الصادر في 2 ابريل 1997 –
ومع نهاية التسعينيات فتح باب الامل باستدعاء الاحزاب الديموقراطية للمشاركة في تسيير الشأن العام للدولة وتجسد ذلك في تشكيل حكومة التناوب الديموقراطي، فدخلت البلاد مرحلة الاوراش الكبرى الحقوقية والاقتصادية والاجتماعية الى ان جاء الخطاب الملكي في الدار البيضاء عن المفهوم الجديد للسلطة واعطاء البعد الاقتصادي والاجتماعي للتدبير المحلي – وارساء الاسس الجديدة لللاتمركز- وانشاء المراكز الجهوية للاستثمار – وتفويت صلاحيات جديدة لرؤساء الجهات والجماعات – وهيكلة الادارة الجما عاتية – وفرض نمط الاقتراع باللائحة – ولزوم تعليل القرارات الادارية.
لكن استمرار اساليب التدبير التحكمي العتيق، ووطأة مركزية سلطوية مطلقة، احكمت الطوق على السكان والمجال وقاومت المطلب الديموقراطي والحركات الديموقراطية، وهذا ما ساعد على استمرار الفشل في العديد من المجالات والقطاعات الاقتصادية والاجتماعية في اغلب الجماعات والمجالات الترابية، فحال ذلك دون تحقيق شروط التنمية الاجتماعية والاقتصادية في ظل القانون المنظم للجماعات المحلية او القانون المتعلق بتنظيم الجهات.
ازمة اللامركزية هي ازمة نخب وقيادات
ان من اهم اسباب فشل التجارب المحلية هو عامل النخب المحلية، فالنخب والقيادات المحلية هي اداة من ادوات التحكم في التجربة والتحكم في القرار لكن في تجاربنا وواقعنا وخصوصا في الانتخابات الجماعية المباشرة او انتخابات الغرف والمجالس الاقليمية والجهوية اظهرت لنا هذه التجارب الانتخابية اننا فشلنا في خلق وتكوين قيادات مجتمعية وسياسية محلية قادرة على تحمل اعباء المسؤولية، وقادرة على ان تكون في مستوى الفعالية والجدية، بحيث لم ننجح في ابراز فعاليات محلية وكفاءات تدبيرية تحرك التنمية المحلية، لذا فأزمة الجماعات المحلية هي ازمة قيادات وازمة فاعلين قادرين على انتاج وابتكار واتخاد قرارات حاسمة، وقادرين على ان يكون لهم مشروع تنموي محلي وجهوي، وقادرين على ان يكون لهم طموح سياسي يساعدهم على التفاوض مع مختلف الشركاء، وقادرين على التأثير في وتيرة حل المشاكل اليومية المحلية، وبالتالي في ادماج المجال المحلي في اطار مشروع تنموي مستقبلي.
ان المشكل الرئيسي الذي يعرفه البلد، هو وجود ازمة نخب وقيادات محلية، وطرف من هذه القيادات المحلية الحالية تتصارع مستعملة المال الحرام، والرشوة والمحسوبية فقط للوصول الى السلطة والشهرة ومراكز القرار، الشيء الذي لم يؤدي الى تنافسية من اجل المصلحة العامة، اي الوصول الى السلطة من اجل الحكم او على الاقل الاستئناس بالحكم والتقرب من الحكم. ان أزمة اللامركزية هي بالأساس ازمة نخب وازمة قيادات وهو ما اثر بشكل كبير على وثيرة التنمية، وهو ما يفسر التراجع الذي حصل فيما يخص بناء المشروع المحلي او الجهوي الذي كان يطمح اليه المغرب منذ بداية التجربة الديموقراطية المحلية في سنة1976 .
ان الاحزاب السياسية التي تتحرك هذه الجماعات والنخب المحلية باسمها وفي اطارها توجد اليوم امام مساءلة شعبية قوية من اجل العمل على تنظيف صفوفها من فلول الاحتراف والانتهاز الانتخابي المشين من جهة وعليها اعطاء المثل والقدوة في الانخراط الفعلي العملي الجاد في المشروع الوطني الديموقراطي الحداثي الذي بات الانبتاء الديموقراطي المحلي يشكل احدى دعائمه الاساسية من جهة اخرى.
وعلى صعيد اخر فان مسؤولية الاحزاب السياسية في اختيار مترشحين تتوفر فيهم النزاهة المطلوبة والكفاءة الضرورية لتدبير الشأن الجماعي بفعالية ومردودية ونجاعة امست عظيمة وحاسمة في بلورة التنظيم الجماعي الجيد وانجاز الاصلاح المؤسساتي الذي بلوره الميثاق الجماعي (محمد الخصاصي)
كما ان على الدولة مسؤولية كبرى لتطوير معارف وخبرات المنتخبين في مجالات البيئة والهندسة المدنية والاقتصاد والقانون والتواصل حتى يكونوا قادرين على تدبير الشأن المحلي بشكل فعال وايجابي وكذلك عبر تكوين وتأهيل اطر وموظفين وتقنيين وملائمة معارفهم النظرية والتطبيقية مع تطوير حاجيات التدبير العمومي المحلي والجهوي، وانتاج الخدمات العمومية وتنويعها، وتوفير الجودة للمواطنين، واستقطاب المستثمرين الوطنيين والاجانب، وخلق تدبير للشأن العام بطريقة عصرية. ان كل ذلك لا يمكن ان يحصل دون تطوير وتحسين مردودية واداء الموارد البشرية وكفاءات النخب المحلية لانهم مسؤولون سياسيون ومسيرون ومحركون للتنمية المحلية، ومخاطبون اساسيون للدولة، وشركاء اساسيون وهامون في الحقل الاقتصادي والاجتماعي، وعند غياب هذه الحكامة المحلية او ضعفها او انحرافها او فسادها يكون العمل التنموي المحلي والجهوي محدودا وضعيفا.
اذن فالمسؤولية متقاسمة الاطراف بين الدولة من جهة والاحزاب السياسية من جهة اخرى، وهذا هو المأزق الذي وصلنا اليه دون الوصول الى جهوية عميقة وموسعة … حيث الصراعات الحزبية وتضارب المصالح الشخصية مع المصلحة العامة، فمن له الحق ان يقرر ويشرع ويمول وينفذ؟ ومن ليس له الحق في ذلك؟ هناك تداخل بين الاطراف وتداخل بين الفعاليات وتداخل بين المؤسسات، والمجتمع في حاجة الى نخب وقيادات محلية يكونون مدبرين يهتمون بمشاكل التنمية ..تنمية العالم القروي وتنمية المدينة وبالتالي عليهم ان يقوموا بدور الحكم ودور المدبر ودور الفاعل الاساسي وصولا الى ترسيخ مفهوم الجهوية الموسعة.
اذن فالمسؤولية متقاسمة بين الطرفين الدولة والاحزاب.
ان على الاحزاب مسؤولية تشجيع وتحفيز النخب والقيادات الجديدة من الجيل الجديد الذين يتوفرون على قدر هام من الكفاءة والفعالية والنزاهة والمسؤولية حتى يكونوا قادرين على احداث قطيعة حاسمة مع مناهج واساليب التدبير العشوائي الذي افرز في اكثر من مكان تجارب جماعية مغشوشة قوامها التحايل على القانون والتلاعب بالمال العام والاستغراق في الفساد والارتشاء.
كما على الدولة مسؤولية خلق نموذج للعمالات والاقاليم تقوم على مرتكزات الجهوية الموسعة واهدافها وليس الى رجالات سلطة يعتمدون فقط على تطبيق السلطة، بل رجالات يكونون مدبرين يهتمون بمشاكل التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ويكونون حلقة اساسية في دعم الديموقراطية المحلية وفي تعاون وانسجام تام مع النخب السياسية المحلية الحاكمة.
ان نجاح العملية السياسية رهين بنجاح العملية الانتخابية ونزاهتها، في افق التحول الديموقراطي الذي اصبح اليوم منوطا بتضافر عمل ومسؤوليات كل فرقاء التجربة من دولة واحزاب سياسية وناخبين ومترشحين كل في ميدانه واطار مسؤولياته، وما اعظمها من مسؤولية، فكما تكون الانتخابات الجماعية يكون مستقبل الديموقراطية المحلية.