أصدر الكاتب و المؤرخ الموريتاني سيدي محمد بن جعفر كتاب بعنوان أجراس الرعب من التكفير إلى التفجير وهو اجتهاد ومحاولة منه لوضع تصور يساعد على التخفيف من ثقافة التكفير والعنف.
وفيما يلي مقتطفات من الكتاب نقدمها للقراء الكرام:
يعتبر جل المؤرخين المسلمين القدماء الإسلام دينا عالميا منذ النشأة ،مستندين في ذلك إلى كون الرسالة جاءت للناس كافة بغض النظر عن طبقاتهم وألوانهم ومرجعياتهم الثقافية والاجتماعية وألسنهم المختلفة، ولم تشترط على معتنقيها غير الإيمان بخالق ليس كمثله شيء، وهو مبدأ بسيط وخالٍ من أي تعقيد فلسفي يستوي العاميُّ مع العالم في استيعاب مقتضياته،ومن المرتكزات التي جاءت بها مما تحتاجه كل المجتمعات البشرية مبدأ المساواة في الحقوق، والعدالة في الأحكام المنظمة للمجتمع، واضعة كوابح تحد من نزوات تسلط الحكام على المحكومين، إنها قيم إنسانية سامية بشرت بها وحكمت إمبراطوريات باسمها جانب أغلبها الهدف عن قصد –كما نعتقد- فرفعت الحاكم “الواجب الطاعة” إلى مرتبة تفوق مقام النبوة!!.
شُرع الاستبداد باسم دين الرحمة ،فأصبح للمستبد حق قتل المخالف في الرأي، أو المنتقد لأخطاء الحكم، سلوك تم تأصيله مبكراً مع دولة الطلقاء بعد الانقلاب الدموي الذي قاده مؤسسها ضد الخليفة الرابع، وتولى تغليف الانحراف عن المسار المرسوم في القرآن جماعة علماء البلاط، ممثلة جناح الإفتاء داخل المؤسسة الحاكمة، الواجب على الرعية الاستجابة والالتزام برأيها “المقدس” خاصة في ما يتعلق” بطاعة ولي الأمر” بغض النظر عن جوره وعدم التزامه الديني والخلقي.
تفنن بعض الفقهاء وبعض المحدثين في تحريف معنى بعض الآيات القرآنية، وتزوير الأحاديث لأهواء الحكام إلى درجة أصبح معها الخروج على الظالمين منهم دم صاحبه هدر، رغم احتفاظ كتب التاريخ بحدث مشهور مناقض لما أُصل له من بعد ويتعلق بتعامل رأس جيل العقيدة مع المنقلبين على شرعية سلطته، بقيادة
“ثلة من الصحابة” مدعومة بكم كبير من الطلقاء ومنافقي قريش،فيما يعرف بوقعة “الجمل” ورأي الخليفة فيهم بعد انتصاره عليهم حيث نفى عنهم تهمة الكفر التي حاول البعض وصفهم بها فرد بالقول “من الكفر فروا” ، ولم يقبل نعتهم بالنفاق فرد بالقول [ إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا] وشخص حالتهم بـ” إخواننا بغوا علينا”
هذا النموذج المتسامح مع المتمرد المسلم أٌطيح به مع قيام دولة الطلقاء “الأموية” فبدأ تدجين الإسلام، وظلت الإمبراطوريات التي حكمت الأمة فعليا تُسير وفق أهواء الحكام وآراء علماء البلاط،التي تجعل تصرفات”ولي الأمر” أوامر دينية يجب الامتثال لها وكتبهم تزخر بالأمثلة.
في فجر الإسلام لم يكن الدين هو المحرك للفعل السياسي بل كانت السلطة “والغنيمة”هي الدافع، لأن القرآن ينهى عن قتال غير المعتدي وهذا عكس ما مُورس تاريخا، ينتهي دور الدين عند شحذ العزائم للبحث عن الغنيمة، عندها يتعاور الخطباء على المنابر مذكرين بما للمجاهد من ثواب أخروي.
يمكن أن نسجل بشيء من التحفظ أن أمتنا الإسلامية تكاد تكون الوحيدة من بين الأمم المعاصرة التي يرفع رجال دينها ألوية التقاتل البيني والتنافر والتكفير، مخالفين بذلك كل القواعد العقلية متجاوزين النص المقدس المحذر من “التنافر” والمتوعد لمن سفك دما حراما مهما كانت دوافعه، كأن في آذانهم وقرُ عن تلك النواهي المحرمة والمتوعدة، حيث أبدلوها بأقوال علماء يؤلبون أتباعهم ويشحنون عقول مناصريهم بوجوب قتال الأخ المسلم المخالف في الرأي.
ومع وصول الأمة في رأينا إلى حافة الانتحار الجماعي، تكون هذه الدراسة مستساغة في بحثها جذور بعض القضايا الكبرى التي نعتقد أن السياسية جعلتها عبر العصور “دينا يُتعبد به”، محاولين من خلالها إظهار كيف كانت تلك القضايا تعبر عن مواقف المتخاصمين، وليست دينا منزلا من رب العالمين، كما نحاول لفت
انتباه الخيرين من العلماء والباحثين الغيورين الخائفين على الأمة إلى أن اللحظة مواتية لإعادة قراءة تاريخنا نقداً وتحقيقاً لرواياته المتعددة، منبهين كذلك إلى أن هذه المحاولة هي من اجل أن نجرب ثقافة المحبة وفق نصوص القرآن والحديث الموافق للقرآن تصريحاً أو تلميحاً.
من أهم الموضوعات التي تحتاج برأينا إلى وقفات تأملية متعلقات القرون الثلاثة الأولى “المقدسة” باعتبار أحداثها السياسية ونقاشاتها الفكرية وحروبها البينية رسخت فكر التنفير والتكفير، تنفير من سماع حجج المخالف، وتكفير لما توصل له باجتهادٍ، منهجٌ غلبَ وبه دمرت الأمة منذ عصور وحتى اليوم.
ستكون لنا وقفات من خلالها نحلل وننقد باقتضاب أموراً قد تشجع أصحاب النيات الحسنة من المؤثرين في القرارات العلمية والفكرية والسياسية على مراجعة بعض الأفكار المدمرة القادمة من ماضينا السحيق المأزوم، أو إثارة تأملات صادقة حولها.
في هذا العمل أربعة محاور أو فصول، في الأول منهم نقاش وتحليل لما أسميناه “مفهوم الصحابة” محدداته القرآنية وكثافته الاجتماعية، وتوظيفاته السياسية، ومآلاته الثقافية والدينية، مقسمينهم – أي الصحابة- إلى ثلاث فئات، تبدأ أولاهم مع ظهور الدعوة وتنتهي بالحدث المفصلي بين مرحلتين (مرحلة جيل الدعوة، ومرحلة جيل الغنيمة) والحدث هو صلح الحديبية، منبهين إلى الغموض الذي يكتنف تاريخ سابقي العهد المكي متسائلين عن الأسباب والدوافع،أسباب الغموض، ودوافع التكتم، مشيرين في مستوى آخر إلى التوظيف السياسي لقضية من كان السابق إلى الإسلام؟ دوافعها ونتائجها، وما المقصود من طرحها أصلا؟ ومن استشكالات العهد المكي الغامضة موضوع أبي طالب في التوجه العام للفكر السني، وهل لسيطرة أعداء بنيه المبكر على مقاليد الحكم دور في ذلك؟.
نقاش ثانٍ وتحليل إضافي نتناول فيه الفئة الثانية وهي مسلمي ما بعد “الحديبية” من أبناء السابقين الذين بلغوا سن الرشد، ومن دخلوا الإسلام بعدها وحسنت سيرهم،واتبعوا الجيل الأول بإحسان واشتراطات القرآن عليهم.
ولنا تأملات لا تخلو من الخروج عن المألوف مع المجموعة الثالثة “الطلقاء” ومن في حكمهم من الذين ساءت سيرتهم، انحرافا ونفاقاً وتآمراً قبل وبعد أن صارت لهم الغلبة والسلطة،وتجنيدهم لغالبية علماء زمانهم للتمكين لمشروعهم، والتغطية على أفعالهم المخالفة للشرع وتشريع الظلم عن طريقهم.
في المحور الثاني (الفصل الثاني) ،حديث يحتاج التعقل لكونه يثير استشكالات مختصرة حول حكم “المتدينين” وكيف هيأت قرارات خاطئة – اتخذوها- الظروفَ لحكم المستبدين ، وتبعات حادثة السقيفة المشهورة في التاريخ السياسي عند المسلمين المؤيدين والمعارضين لها على حد السواء، وانحراف المسار والعبث ببعض الأخبار النبوية تضعيفا أو إهمالا وكيف أصبحت سير وأحكام بعض الفضلاء مصادر تشريع يساوي أو ينسخ القرآن.
في محورنا الثالث، تحليل كيف ولدت الفرق من رحم السياسة العنيفة .. وكيف ساهمت ردود أفعال بعضها في وضع لبنات التكفير،وكيف حُولت قضايا فكرية ضد الاستبداد إلى محنة أعاقت العقل الإسلامي عموما،وكيف أصبحت منتجاً مثَلَ روافد لا تنضب ينهل منها كل منفرٍ ومكفرٍ، وانتكاس العقل السني خصوصا في أتون الخرافة والاهتمام بالجزئيات.
في محورنا الرابع نتناول التحول من جهاد القرءان إلى جهاد السلطان، وحديث عن التكفيريين الجدد..والرحلة نحو التفجير… ووقفات مع سالكي خط القاهرة جُدة بيشاور، وإطلالة على الجزائر من ثورة العلماء إلى ثورة الغلمان مسوغات العنف وفتاوى الموت، وموريتانيا على أبواب الدرب المظلم، وإسلاميوها من المهد المهادن إلى النضال المصادم.