أحمد المرابط: ذاكرة الريف الحية

*محمد امزيان

لا يمكن للكلمات أن تفي هذا الشخص حقه من الإنصاف…

الأستاذ أحمد المرابط هو بالنسبة لي بمثابة الوالد. حينما ألتقي به يخاطبني: “عيزي محمد” أو “سيدي محمذ “، وأجيبه أحيانا: “أشريف إينو”، أو “الأستاذ أحمد”. أزوره في تطوان مع أخي جمال كلما سنحت لي الفرصة، وأجلس إليه مستمعا لما يقوله عن الأحداث التي عايشها وعاشها عن وعي وإدراك وفهم قل نظيره.

أتذكر أنه في إحدى المرات كنا نتحدث عن حالة تطوان في الخمسينات والتدافع السياسي فيها بين الوجوه السياسية البارزة آنذاك: الطريس (حزب الإصلاح الوطني)، الشيخ مزيان (محمد حدو أمزيان) من حزب المغرب الحر مع الشيخ زريوح ، والناصري زعيم حزب الوحدة المغربية. ومما ذكره لي عن المرحوم عبد الخالق الطريس أن هذا الأخير كان شخصية محبوبة ومسالمة وسخية، وأنه كان يصرف من ماله الخاص على الحزب ويساعد الناس كثيرا. وكان لدي تصور آخر عن الطريس الأندلسي؛ تصور قائم على نشاطه السياسي في المنطقة الخليفية إبان فترة الحماية، ثم كانت لدي مآخذ عنه عندما قدم الطريس حزبه؛ حزب الإصلاح الوطني “هدية” لحزب الاستقلال مجانا في سياق تلك العملية المعروفة بإدماج الحزبين ظاهريا، ولكن في الواقع تم “بلع” حزب الإصلاح وتذويبه تماما في حزب الاستقلال، دون مقابل يذكر ، لا للمنطقة الخليفية ولا لشخص الطريس نفسه، والذي تم تعيينه لاحقا سفيرا للمغرب في القاهرة. حديث الشريف المرابط عن الطريس استحضر ما هو إنساني فيه بعيدا عن السياسة وتجاذباتها. والجدير بالذكر أن حزب الوحدة المغربية “اندمج” بدوره في حزب الشورى والاستقلال، وكلا الحزبين الشماليين انتهيا إلى الاندثار والنسيان. أما حزب المغرب الحر فتبخر تدريجيا كما تبخر الشمال كله في “المغرب الفرنسي”.

الأستاذ أحمد المرابط هو ابن الشريف أغارود الذي كان بمثابة نائب وزير المالية في عهد الجمهورية الريفية السيد عبد السلام الخطابي عم الأمير محمد عبد الكريم الخطابي. ومن طرائف والده الشريف إغارود، حسب ما حكاه لي مرة الأستاذ أحمد المرابط، أنه طالب يوما وزير مالية الريف بأجرته كنائب له، فكان جواب السي عبد السلام الخطابي: أنت أيها الشريف منا، فكيف تطلب مقابل عملك. الأجرة يحصل عليها الغرباء هنا!! ويقول السي المرابط إن والده خجل من نفسه خجلا كبيرا ولم يعد بعد ذلك للمطالبة بتعويض عن عمله.

عايش الأستاذ أحمد المرابط كثيرا من الأحداث السياسية التي شهدها الريف بُعيد الاستقلال، وواكب التحركات المشبوهة التي كانت تقوم بها الأحزاب السياسية آنذاك، وخاصة حزب الاستقلال الذي كان يخطط للسيطرة السياسية على الريف عن طريق إقصاء كل خصومه ومناوئيه حتى ولو كان ذلك باستخدام أساليب الترهيب والاختطاف، فضلا عن أساليب الإغراء بالتوظيف في مناصب الإدارة المغربية الجديدة. هذا التدافع السياسي غير “الشريف” كان من بين الأسباب التي أدت إلى انتفاضة خريف ٥٨-٥٩ كما هو معلوم. غير أن الشريف أحمد المرابط لم يحضر أطوار الانتفاضة لأنه كان قد سافر إلى القاهرة للدراسة، وهناك قربه الأمير الخطابي إليه واعتبره واحدا من بين أفراد أسرته الصغيرة، يشاركه طعامه في مقر إقامته في حدائق القبة حيث كان الخطابي يقيم. وعن هذه الفترة تختزن ذاكرة الشريف المرابط كثيرا من تفاصيل الحياة اليومية للأسرة الخطابية، وتفاصيل ثمينة عن الشخصيات التي كانت تزور الخطابي في بيته. من بين ما حكاه لي السي المرابط، أن الخطابي كان لا يفرق بين الشخصيات السياسية الكبيرة وبين المواطنين العاديين. ذكر لي أنه ذات مرة كان متواجدا في بيت الخطابي وحدث أن زارته شخصية سياسية مرموقة، ثم همّ الشريف بمغادرة المكان لإفساح المجال أمام الضيف الكبير. إلا أن الخطابي التفت إليه وقال له بالريفية: ابق في مكانك وإذا لم يرغب الضيف في وجودك معنا فلينصرف هو.

عاد الأستاذ المرابط بشهادة في الفلسفة، والتحق للتدريس في تطوان، إلا أن السياسة كانت ميدانه المفضل، ثم انخرط بالعمل النقابي إلى أن وصل إلى رئاسة إحدى التنظيمات النقابية الرئيسية في تطوان وترك التدريس إلى غاية سنوات قليلة قبيل تقاعده. السياسة قادت الأستاذ أحمد المرابط إلى الاعتقال مع من اعتقل مع الدكتور عمر الخطابي إثر فشل انقلاب ١٩٧٢ ضد الراحل الحسن الثاني. وحينما أطلق سراحه ظل مطاردا من قبل الأجهزة التي كانت تحاصره في تحركاته وتضيق عليه. إلا أنه لم يتخل عن مبادئه التي تستند على فكر الخطابي وتاريخه. أسس مع الدكتور عمر الخطابي وآخرين مؤسسة عبد الكريم الخطابي، والتي منعت في الحسيمة بأوامر عليا. وما تزال تلك المؤسسة مغضوب عليها في الريف حتى الآن. رفض الأستاذ أحمد المرابط سياقات هيئة الإنصاف والمصالحة، وشارك في الجلسات الموازية.

يبقى الأستاذ أحمد المرابط أحد الشخصيات الريفية الممانعة، ينتقد التوجهات دون أن يمنعه ذلك من نسج علاقات إنسانية حتى مع أشخاص يعدون من بين خصومه السياسيين. قد يكون من بين الأحياء القليلين الذين عاشوا مع الخطابي وتشبع بفكره مباشرة وليس عن طريق الرواية أو العنعنة. هو خطابي الهوى، مبدئي لا يلين، ويمتلك شجاعة نادرة في التعبير عن آرائه. لم يتاجر بتاريخه ولا تاريخ والده، متواضع في حياته إلى درجة الزهد، باسم الوجه رغم ما قاساه في حياته. ومع أن بعض المنابر الإعلامية تقدمه بصفته “سكرتيرا خاصا” للأمير، إلا أنه لم يدع يوما هذا الشرف. فهو، وإن كان جد مقرب من الخطابي ومن أفراد أسرته، إلا أنه لم يقل يوما إنه كان سكرتيرا خاصا له. كان الخطابي قدوته وقائده ورائده.

أطال الله في عمر هذا الريفي الشهم.. إنه فعلا ذاكرة الريف الحية، ومثال للإنسان الوفي لمبادئه وقضيته التي دافع عنها بلا كلل أو خوف أو انتظارا لمكسب أو منصب.

اقرأ أيضا

جزائريون ومغاربة يتبرؤون من مخططات النظام الجزائري ويُشيدون بدور المغرب في تحرير الجزائر

أثنى متداخلون مغاربة وجزائريين على دور المقاومة المغربية في احتضان الثورة الجزائرية ودعمها بالمال والسلاح، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *