بقلم: شعبان يونس التائب
اليوم الثالث من شهر رمضان الكريم كان يوم فرح بالنسبة لنا ونحن صغار ، كنا نجتمع فيه مع ابائنا واجدادنا وبعض الغرباء وعابري السبيل في المسجد حول موائد البازين في أجواء رمضانية جميلة، مازالت ذكريات ذلك اليوم المميز من ايام شهر رمضان عالقة في ذهني ويشدني إليه الشوق والحنين كلما اتذكره واتذكر أحداثه الجميله ، كان يعني لي ولكل من عائش أحداثه الكثير ، فهو اليوم الذي يوافق دور قبيلتنا في الإشراف على يوم الدولت ” اس نا ادّولت ” بعمقه التاريخي العريق وبعده التكافلي النبيل الذي يستمد أصوله من السلوك التضامني الأمازيغي الموغل في القدم ، فهو تقليد من التقاليد الرمضانية العريقة التي توارثها الخلف عن أجدادهم ولا زالوا محافظين عليه علي الاقل من ناحيته الرمزية وذلك من خلال حرصهم على إعداد طبق البازين باليقطين او القرع الأحمر ( اوتشوا اتقرومت ) في ليلة معينة من ليالي شهر رمضان الكريم تختلف في مواعيدها بين قبيلة وأخرى وتختلف بين اللحمات داخل القبيلة الواحدة ، ، فما هو هذا التقليد وماهي جذوره وما سر اختلاف مواعيده بين قبائل المدينة ولحمات القبيلة الواحدة .
ادّولت (ⴰⴷⵡⵍⵜ) من ناحية التسمية لا يوجد أي مصدر مكتوب يشير إلىه ، ولكن حسب اعتقادي انه هناك ثلاثة احتمالات يمكن من خلالها معرفة سبب هذه التسمية ، الاحتمال الأول هو أن ادّولت كلمة أمازيغية تشير إلى رمزية الزعامة للقبيلة التي تستلم الدور، وتتحمل مسؤوليته خلال الأيام المخصصة لها ، أو أنه تحريف لكلمة الدالة بمعنى الدور “ادالت” وهي من المفردات الأمازيغية التي أصبحت من ضمن الدارجة الليبية، لأنه لا وجود في اللغة العربية لكلمة الدالة بمعنى “الدور”، والكلمتان “ادّولت والدّالت” ربما تكونا مشتقتان من الجذر “اذّول” الذي يعني “الرجوع” باللغة الامازيغية ، و الاحتمال الثالث هو ان الكلمة ﻻ تعني الزعامة بقدر ما تعني التداول أي التناوب والتمرير، واستمدت معناها من قدسية وفضيلة شهر رمضان في التسارع إلى المكرمات وفعل الخير والتواد والتراحم بين الناس، حيث كانت قبائل زواره تتسارع إلى الفضائل في شهر الصيام ، فتداولوا على فعلها طيلة أيامه أي تقاسموا فضائل حب الخير وتخفيف آﻻم ومعاناة الغرباء وعابري السبيل فيما بينهم ، وتبقى هذه الاستنتاجات مجرد اجتهاد في غياب المراجع المكتوبة .
هذا من ناحية التسمية اما الفحوى فهو يتمثل في إعداد وجبات من البازين ( اوتشوا ) بنوع خاص من القرع (تاقرومت) تشتهر به مدينة زواره معروف بالقرعة القعمازة وهي من الذ واجود انواع اليقطين وخصوصا مع البازين ، ويصاحب القرع عادة القديد وهو لحم مجفف ومملح او القرقوش وهي عبارة عن قديد مقطع الى قطع صغيره ومقلي في الزيت والشحوم الحيوانية وفي بعض الأحيان تعد باللحم الطازج وذلك حسب المقدرة والظروف المادية ، وعادة ما تعد هذه الوجبات في صحون من الخشب “تزودا ام قشقوش” او في صحون من الخزف “تيمعجنت “وتوضع في المسجد الكبير الذي كان يعرف بمسجد الصمعه باعتباره المسجد الوحيد في المدينة قبل ان يصبح لكل قبيلة مسجدها الخاص بها.
بالنسبة لجذور هذا التقليد وأسباب الظهور فهناك ايضا ثلاث روايات حوله ، فهناك من يرى أنه يوم احتفالي بمناسبة وصول القبيلة واستقرارها في المنطقة كانت تطعم فيه القبيلة المحتفلة بيومها بقية القبائل الأخرى وليس يوم مخصص لإطعام الفقراء وعابري السبيل ، وهناك رأي يقول ان الغرض من هذا التقليد هو ضيافة قوافل الحجاج القادمين من تونس والمغرب والجزائر المسافرين برا في ذلك الوقت على ظهور الإبل، وتستغرق مدة سفرهم شهور، ما يجعل زواره الحدودية مع تونس إحدى أهم محطاتهم للراحة، ويتزامن وصولهم مع أواخر شهر شعبان وتستمر قوافلهم في الراحة والعبور طيلة شهر رمضان ، فتأخذ كل قبيلة دورها في الضيافة في نفس اليوم الذي يصادف ذكرى استقرارها في المنطقة ، أما الراي الثالث يقول إنه انبثق عن نظام “العزابة”1 الغرض منه اطعام المعتكفين في المساجد والمتعبدين فى رمضان وعابري السبيل .
من خلال ما تقدم يمكن ان نستنتج ان اس ندولت قد مر بعدة مراحل قبل أن تتحول موائده بعد توقف قوافل الحجاج الذين أصبحوا يسافرون جوا وبحرا إلى استضافة عابري السبيل والغرباء وبعض المصلين من أهل المدينة، ثم اقتصر إعداده على مستوى عائلي في رمزية لعادة لها جذور تاريخية اختصت بها المدينة، وعُرفت بها قديما عند عابري السبيل و القاصدين لبيت الله الحرام ، عبر رحلة برية شاقة تستمر لشهور .
يخضع هذا التقليد لنظام صارم ودقيق من حيث الإشراف والتنظيم ودقة المواعيد والمشاركة ، كان يشرف عليه إمام وشيخ القبيلةبساعدة كبار السن ، جميع القبائل لها دورها والقبيلة بدورها * تعطى الفرصة لجميع اللحمات كي تساهم في أيام محددة لها بدقة بحيث لايخلو المسجد من هذه الولائم طيلة ليالي الشهر ، أول قبيلة تستلم الدور وتشرف على إعداد الوجبات في الايام الثلاث الاولى هي قبيلة ايند عيسى من 1 الى 3 رمضان ثم تليها قبيلة ايند عطوش من 4 الى 7 ثم قبيلة ايند قزول من 8 الى 11 وقبيلة ايند منصور من 12 الى 16 وقبيلة ايند يدريس من 17 الى 18 وقبيلة ات لالو من 18 الى 22 وقبيلة ات زفور من 26 الى 29 ، والأيام المتبقية وهي ثلاث أيام من 23 إلى 25 اعتقد انها مخصصة للعزابة وهم في اغلبهم من الائمة والفقهاء ومعلمي القرآن الكريم .
ومع مرور الزمن وبعد توقف القوافل وتغير نمط الحياة اقتصر الامر على اعداد هذه الوجبات في يوم واحد فقط توضع في مسجد كل قبيلة يتناولها الغرباء والمصلين من الأهالي وعادة ما كان الاباء والاجداد يصطحبون معهم أطفالهم الى المسجد للمشاركة في يوم اطعام الغرباء ” اس نّدولت ” باعتباره يوم رمضاني مميز يتعلمون من خلاله عادات وتقاليد أسلافهم وتغرس في نفوسهم قيمها النبيلة .
أما ما تبقى اليوم من هذا التقليد الذي بدأ يتلاشى ككل العادات الرمضانية القديمة والجميلة هو حرص سكان مدينة زواره على إعداد وجبة البازين بـ”القرعة” في يوم محدد من أيام الشهر الكريم، حتى لا تندثر عند الأجيال المتلاحقة ، ويشكل هذا الحرص رمزية يتذكرون بها ماضيا عريقا يشدهم إلى عادات وتقاليد تمارس في حياتهم اليومية دون “كيف ولماذا ومتى” وما المغزى من وراء ممارستها وما أكثر هذه العادات والتقاليد في مجتمعات الشعوب الأصلية .
________________
1- نظام العزابة عبارة عن هيئة تتكون من رجال العلم ومن حمله القرآن الكريم المشهود لهم بالورع والصدق، تعمل وفقاً لضوابط معينة للإشراف الكامل على شؤون المجتمع الإباضي الدينية والاجتماعية والسياسية وخصوصا في حالة غياب الدولة، ويمثلها الإمام ومقرها المسجد، وكان هذا النظام سائدا إلى وقت قريب في جزيرة “جربة” وفي مدينة زواره وجبل نفوسة، وما يزال له وجود في قرى ومدن وادي ميزاب بالجزائر .
المراجع / * جدي أبوخريص التائب رحمه الله، ووالدي يونس التائب اطال الله في عمره ومتعه بالصحة ، ومشاهداتي الشخصية.