ليس من حقنا أن نعترض على حلول الإعلامي محل الفاعل السياسي والفاعل الحقوقي في فضح كل انتهاك او إنحراف أو فساد، ولكن أن يتقمص ويلعب دورهما الإستراتيجي بشكل مستدام، فهذا يطرح سؤالا انطولوجيا بالنسبة لمصير الفعل الحزبي والعمل الحقوقي وكذا بالنسبة لأدوارهما الدستورية ووقعهما المؤسساتي والقانوني والإجتماعي، في ظل زمن كادت فيه بعض الهيئات الحقوقية تصير وتوَظَّف أذرعا “سياسيةً” للمنابر الإعلامية أو هيئات تمثيلية للإعلاميين، في سياق تكريس المبادرات الفردانية، بما يستهدف، موضوعيا كنتيجة تتوافق مع إرادة الدولة في قمع النضال السياسي المؤطر حزبيا، يستهدف استئصال الوساطة المدسترة ضمن صلاحياتها المؤسستية.
الشيء الذي يتوهم من خلاله البعض أن هذه الإلحاقية قد تشكل ذرعا واقيا من ضربات المنظومة الأمنية المبررة للنظام القمعي. صحيح أن هناك هشاشة تنظيمية وعياء سياسي وتيه فكري يطوق الحماس الحزبي والإرادة السياسية، في العلاقة مع تفعيل مقتضيات المشروع المجتمعي او حتى البرنامج الانتخابي، ولكن هذا لا يبرر او يرخص لتسخير القنوات الحقوقية من أجل تصريف المواقف الفئوية أو السياسية حتى، و إننا بنفس القدر الذي نؤمن فيه بالتدرج في تحقيق أهدافنا أو أحلامنا، لا فرق، فمن زاوية عدم نضج إمكانياتنا أولا قبل نضج القدرات الاستقبالية والاستيعابية المجتمعية، نؤمن أيضا بضرورة المغامرة بدفع الثمن، والتضحية لا يمكن أن نتحكم في منسوبها لأن مالكي القوة العمومية أو وسائل العنف المشروع، يضغطون بكل قواهم بالهجوم والقمع لربح المسافات والمساحات كل ما أمكن، لفرض سياسة الأمر الواقع، وفق نفس مخططات الجيوش في الحروب، فكيف نوفق بين هذه المغامرة الضرورية وبين مطلب تقليص الخسارة، حيث لا يعقل أن يؤدي الثمنَ السياسيون والحقوقيون ويجني وعلى حسابهم، غيرهم من الفاعلين الثمار او المكاسب السياسية او المنافع الإعلامية، في زمن لم نؤسس فيه بعد لمعالم ضمانات عدم تكرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان؟.
نحن في مفترق الطرق ويتماهى لدينا الصراع ضد إزدواجية الهويات والمرجعيات والطموحات ومنهجية تحديد التناقضات ورسم التحالفات، فالأصولية أصوليات، تتخللها تناقضات غير جدية في العلاقة مع تنازع الشرعيات، فبالأمس تم تهريب مدنية الدولة وحرية المعتقد، واليوم نعيش بهتانا سياسيا يغلف مسخا ثقافيا لدولة يزعم صقور مهندسيها أنهم يحاربون التطرف والإرهاب، والحال أن كل امكانيات اكتسا المشهد الانتخابي، وهو معبر أساسي، لعناق «الجماهير» والتقرب الى « كتلة » الناخبين المؤثثة للخريطة الجهوية والجماعية، متوفرة للمحافظين هنا وهناك، في حين يظل «الحداثيون» السياسيون والحزبيون، مجرد مكاييل لضبط التوازنات الوقتية، لذلك، وحتى لا نقع ضحية الحَطَّابين، ونحن مجرد شتات لغابات انقرضت جل أشجارها العالية والمنتجة للقيم، نؤكد على ضرورة استحضار حجمنا الحقيقي وهشاشة نفسنا “الثوري”.
وبنفس القدر استحضار عقلنا «التاريخي» المقيد بديون عدم استكمال مطلب التحرر من فلول الإقطاع والاستعمار، كي لا نتوهم بأن المغرب هو بلد استثنائي، يشذ عن السياقات التي تحيط بنا وتحذق بمصيرنا، فالظرف الانتخابي، على حجمه وتاكتكاته، حابل بشروط غزيرة من اللايقين، لن يكفي معه امتلاك الدولة لبعض وسائل تأمين الاستقرار، المعتمدة على التنفيس وامتصاص النقمة، فالحقيقة الإعلامية بقدر ما تضلل، تظلل على مؤشرات الاستمرار، ويبدو أن التفعيل الايجابي و النزيه للدستور جزء من بداية الحلول، انطلاقا من خلق شروط توازن السلطات بما فيها سلطة المال والإعلام ، فلا يعقل أن نراهن فقط على تشكيل المجلس الأعلى للسلطة القضائية بهذه الطريقة التي تجعل منه مجرد «هيأة استشارية» لتزكية الحقيقة القضائية السوسيولوجية، وهو الدور الذي يمكن أن يلعبه مجلس الدولة، دون حاجة إلى إفراغ القضاء من محتواه «المؤسساتي/الاستقلالي» الضامن للحقوق والحريات وتوازن المصالح، لأنه في آخر التحليل لا يمكن إختزال منظومة العدالة في مجرد تكتل لقضاة يوزعون الأدوار فيما بينهم كموظفين عموميين، مكلفين بإصدار الأحكام تارة وتارة أخرى يؤشرون على حقيقة توافقية او سياسية في صيغة حكم قضائي تجبر خواطر العقل الأمني أو صناع الحقيقة السوسيولوجية.