أخبار عاجلة

أسبروكولوجيا

بقلم: الصافي مومن علي

أسبروكولوجيا علم يستكشف نظام حياة الإنسان المنقوش في أعماق فكره، هذا النظام الثابت وجوده من ملاحظة توفر كل نوع من انواع الكائنات على نظام داخلي قار، يوجهه الى تحقيق ذاته في الحياة، من منطلق أن المتأمل في نواة نخلة مثلا سيلاحظ احتوائها بداخلها على القوانين الثابتة التي تتحول بها من نواة صغيرة الى نخلة سامقة، وهذه الملاحظة تحصل ايضا عند تأمل نواة شجرة اخرى، أو غير ذلك من الجزيئات الأولى التي تنبثق منها موجودات الكون.

ومن هذه الحقيقة استنتج هذا العلم ان فكر الجنس البشري يحتوي بداخله ايضا على النظام الخاص به، المتعلق بكيفية تحقيق الانسان وجوده الإنساني في الحياة.

وهذه النتيجة تصطدم طبعا مع النظرية المادية التي تعتبر فكر الإنسان يولد فارغا من أي شيء كصفحة بيضاء، معتقدة أن كل المعارف التي يحملها الإنسان في دواخله يكتسبها بالتجربة وبالتربية والتعليم.

لكن الاسبروكولوجيا ترد على هذه النظرية ببرهان حاسم، يؤكد حقيقة ولادة فكر الانسان مملوءا بمعرفة ثابتة مرتبطة بحياته، هذا البرهان يتمثل في الاسئلة الازلية التالية:

– من أنا؟، من خلق الكون؟، لماذا خلق الكون؟، ما هو نهج السعادة في الحياة؟، ما هو الموت؟، ماذا بعد الموت؟ أو ما هو الخلود؟.

فهذه الاسئلة كما هو معلوم مقرونة جوهريا بفكر الانسان كيفما كان، واينما كان، وفي أي زمن كان، بدليل ان الاطفال انفسهم يفاجئون بها احيانا ذويهم، مما حدا بالفيلسوف هنري بيرجسون ان يطلق عليها “أسئلة الحياة” لارتباطها بوجود الانسان، وجعل هذا الارتباط اهل الفلسفة يصفونها بالاسئلة الوجودية.

وبالفعل فكما خلق اللسان مبرمجا لمعرفة الحموضة والحلاوة والمرارة، وغير ذلك من الطعوم وخلقت العين لتمييز الالوان والاشكال والابعاد، والانف لتحديد الروائح، والاذن لسماع الاصوات، فقد خلق الفكر منقوشة فيه تلك الاسئلة الازلية الانفة الذكر، لكي تدفعه الى التفكير بحثا عن أجوبتها، على اعتبار ان الانسان وحده الذي خلق ليفكر، وذلك خلافا لبقية الحيوانات التي خلقت فقط لتحس، نتيجة خلو ذهنها من الاسئلة المذكورة.

لذلك يمكن القول ان ما يكاد هذا العلم يتميز به عن غيره من العلوم الانسانية، هو اعتباره هذه الاسئلة مجرد علامات أولى فقط، تؤشر على وجود معرفة اخرى أعم واوسع، لكونه استنتج من وجودها في اعماق الفكر حتمية وجود أجوبتها كذلك في هذه الاعماق، لان المنطق والحس السليم لا يقبلان بتاتا ان تنقش تلك الاسئلة في الفكر، من دون ان تنقش معها فيه أجوبتها، أي حقائقها.

وهذه الحقيقة البديهية هي التي تستند عليها الاسبروكولوجيا في اثبات يقينية وجود النظام الداخلي القار لحياة الانسان، معتبرة ان بنية منظومته تتشكل من اجوبة الاسئلة الخالدة المذكورة.

اذن، فالتسليم بالضرورة المنطقية التي تفرض حتمية ارتباط هذه الاسئلة مع اجوبتها في فكر الانسان، يدحض النظرية المادية القائلة بفراغ هذا الفكر من اية معرفة قبلية مسبقة.

وعند هذه النقطة نصل الى ما يتميز به علم أسبروك، عن علم النفس الفرويدي، وعن علم الطب، فالعلم الاخير يتعمق في جسد الانسان لكشف علله وامراضه، وعلم النفس المذكور يغوص في اغواراللاشعور لكشف المكبوتات المؤدية الى الامراض النفسية، اما الاسبروكولوجيا فتغوص في عمق الفكر لكشف قواعد النظام الخاص بحياة الانسان، التي تمكن هذا الاخير من تحقيق ذاته الانسانية البدنية والاعتبارية، بمعنى ان علم الطب وعلم النفس ان كان هدفهما الاساسي علاج الامراض الجسدية والنفسية، فان هدف علم أسبروك يتمثل في وعي الانسان بخارطة نظام حياته التي توجهه الى طرق تجنب الوقوع في تلك الامراض، والى العيش في الحياة الحقيقية ذات القيمة الانسانية التي تقوم عليها سعادته الفردية والاجتماعية.

هذا وان التسليم بمنطقية اقتران الاسئلة الازلية بأجوبتها في الفكر، قد ادى بهذا العلم الى ادراك انقسام حقائق الحياة الى قسمين رئيسيين هما: حقائق مادية، واخرى غير مادية

الحقائق الاولى توجد خارج الفكر، وتشمل كل المعارف الكونية التي تدرك بالحواس الخمس.

اما الحقائق الثانية أي الغير مادية فهي المنقوشة في عمق الفكر، وتشمل الاسئلة الازلية الانفة الذكر وكذا اجوبتها، التي يتشكل منهما معا نظام حياة الانسان القار.

واثباتا منه لصحة هذا التقسيم يقدم مثال نواة النخلة السابق مؤكدا ان ما يتعلق بشكلها وحجمها وملمسها ورائحتها ومذاقها، يدخل ضمن الحقائق المادية التي تدرك بالحواس المعروفة، اما نظام حياتها وقوانينه التي تتحول بها من نواة صغيرة الى نخلة كبيرة، فيدخل ضمن الحقائق الغير مادية، التي لا تعرف بالحواس ولا بأدق الالات المساعدة لهذه الحواس.

واذ ثبت من هذا المثال ان قوايين النظام الداخلي للانسان تدخل بطبيعتها ضمن الحقائق الغير مادية للحياة، فمن البديهي ان تكون معطاة له سلفا، أي موضوعة رهن اشارته لادراكها والانتفاع بها، شأنها في ذلك شأن حقائق الحياة الحسية المحيطة به، لكن ان بدا واضحا ان كل العلوم التجريبية تنكب على الحقائق المادية المتشعبة للحياة لمعرفة خباياها، فانه لحد الان لا يعرف وجود علم خاص يركز على استكشاف حقائق اجوبة الاسئلة الخالدة الكامنة في الفكر، أي علم يعتمد في بحثه عنها على المنطق والتجربة، في استقلال تام عن الافكار والاحكام الدينية المقدسة من جهة، وعن الثقافات الشعبية المؤسسة على الاساطير والخرافات الغرائبية من جهة اخرى.

وانه ان كانت بعض الابحات المتفرقة قد تناولت جانبا من جوانب هذه المعرفة الفكرية ، فانها تبقى مع ذلك جزئية ومعزولة ، لا ترقى الى مستوى العلم الدقيق الذي يرصد معرفة بنية أجوبة تلك الاسئلة في شموليتها وفي ترابطها ونسقيتها.

ولعل الافتقار الى وجود هذا العلم هو ما ادى الى تعدد الاجوبة بشأن تلك الاسئلة ، والى اختلاف الناس حولها على مر العصور، وفي هذا السياق ترى الاسبروكولوجيا انه طالما كانت تلك الاسئلة موحدة لدى البشر في جميع الامكنة والازمنة، فمن البديهي ان تكون اجوبتها كذلك موحدة بينهم، لان المنطق من جهة يقتضي ذلك، ومن جهة اخرى لان تلك الاسئلة ماهي الا مفاتيح معرفة النظام الداخلي لحياة البشر الذي يفترض فيه حتما ان يكون واحدا وقارا، مثلما هو واحد وقار عند كل انواع موجودات الكون.

وهكذا ونتيجة لهذا الفراغ الحاصل في فهم اجوبة هذه الاسئلة في كليتها فهما عقلانيا وموضوعيا فان الاسبروكولوجيا تحاول سد هذا الفراغ، معتبرة محاولتها هذه مجرد خطوة أولى متواضعة في بناء هذا العلم وتطويره.

هذا وللاشارة فان مصطلح الاسبروكولوجيا مستوحى من كتاب ”أغاراس ن وورغ” المترجم الى العربية تحت عنوان ”الطريق الذهبي”، والمصطلح منحوت من لفظة ”أسبروك” الامازيغية التي تدل على سحب نور الفكر من العالم الخارجي، لتركيزه على دواخل الفكر، بحثا عن اجوبة الاسئلة الازلية المنقوشة فيه، هذه اللفظة التي وقع ربطها مع لفظة كلمة LOGIE الاغريقية التي تعني: ”العلم“.

أما بخصوص موضوع الفكر في حد ذاته فان الفيلسوف ديكارت ان كان قد توصل بمنهج الشك الى حقيقة ان الانسان فكر محض، وانه جوهر غير مادي بطبعه، فان الاسبروكولوجيا توصلت الى نفس هذه الحقيقة بمنهج تجربة واقعية، يختبرها القارئ مباشرة من المثال التالي:

تصور انك عطشان امامك كوب ماء، فعندما تمتد يدك اليه فمن الاكيد انها لم تكن هي التي احست بالعطش، بل معدتك، لكن حينما تلامس هذه اليد نارا فانها تتحرك تلقائيا لتجنب الاحتراق، باعتبارها هي التي احست بالحرارة، ومن الاكيد ايضا ان المعدة حينما شعرت بالعطش، لم تكن هي التي أمرت اليد بالحركة لحمل الكوب، بل الذي صدر منه الامر هو: أنت، بيد ان هذا المحرك الذي هو انت، لا يوجد طبعا في اليد، ولا في المعدة، ولا في العينين اللتين تنظران الى الكوب، ولا في سائر الاحشاء التي مر منها الماء قبل ان يطرح خارج الجسم والمدهش ان العلم الحديث عندما بحث عن هذا المحرك في اغوار الدماغ باحدث انواع الميكروسكوب وادقها، فانه لم يعثر عليه.

فمن هذه التجربة تستنتج ايها القارئ ان المحرك الذي هو انت، كائن غير مادي، تشعر يقينيا بوجوده على الرغم من كونك لا تراه بالعين المجردة، ولا بأرقى الاجهزة العلمية المتطورة، وهذه النتيجة كما هو معلوم هي التي توصل اليها ديكارت بالحدس النظري.

اذن، استناذا الى هذه التجربة والى الحدس الديكارتي يكون الجواب الاقرب الى الحقيقة عن السؤال الازلي الاول: ”من أنا؟”، على الشكل التالي:

– انا كائن غير مادي، جوهري فكر محض.

لكن الاسبروكولوجيا لم تتوقف عند خاصية الفكر المحض الذي ميز به ديكارت جوهر الانسان، بل استكشفت خاصية اخرى له تتمثل في اللانهائية، من منطلق ان هذا الجوهر لما كان فكرا محضا، وكان الفكر بطبيعته لانهائيا، أي لا تحده حدود، فالنتيجة اذن ان كينونة الانسان لانهائية، أي لا تحدها حدود، وهذه النتيجة قادتها ايضا الى ملاحظة اتصاف هذه الكينونة بخاصية ثالتة هي الازلية، التي تعني لانهائيتها الزمانية، أي غير محدودية وجودها بأية بداية أو اية نهاية، لان المنطق يفرض التسليم بحقيقة ان الشئ الغير المحدود في المكان، يعتبر بالضرورة غير محدود في الزمان.

وهذه الصفات العظيمة التي تكتشفها كينونة الانسان في نفسها تقودها الى فكرة بديهية ومثيرة هي انها طالما كانت لانهائية، فهي بالتأكيد أكبر من جسدها، ومن الارض التي يوجد فيها هذا الجسد، بل وحتى من الكون المادي المحيط بالارض، وهذا الوعي الجديد بحقيقة ماهيتها يخلق في نفسها احساسا بملئها للحياة كلها، وبكونها تمثل الوجود المطلق، الذي ينعدم فيه أي موجود، لاضمحلال جميع الموجودات المادية للكون أمام عظمتها الغير المحدودة.

ومن الثابت ان هذا الاحساس بالعظمة الذي ينتاب المرء عادة، عند وصوله في الفكر الى هذا المستوى العميق، يؤدي ببعض الناس الى الوقوع في الخلط بين حقيقة كينونتهم، وبين حقيقة الله، على اعتبار ان الله وحده هو من يتصف بتلك الصفات الجليلة.

ومن الراجح ان هذا الخلط هو ما جعل اصحاب نظرية وحدة الوجود، يعتقدون ان الكون والله، هما شئ واحد، أي ان كل ما في الوجود يعتبر جزءا من ذات الله، انطلاقا من اصغر نملة الى اكبر مجرة، كما ان نفس هذا الخلط هو ما ادى ببعض رجال التصوف الى نظم بعض الاشعار والاقوال التي يفهم منها ادعاءهم بكونهم هم، الله.

ومما تعتز به الاسبروكولوجيا في هذا الصدد، هو تغلبها على دوخة السكر الصوفي المرتبطة بهذا المستوى، اذ لاحظت ان الكينونة ان كانت تحس فيه حقا بلانهائيتها، فانها تحس كذلك حتما انها لم تكن هي خالقة نفسها بالشكل العظيم الذي تحس به، لشعورها انها وجدت نفسها كما هي عليه، بدون سابق تفكير، أو ارادة في اخراج صورة هذا التفكير الى حيز الوجود، وهذا الشعور بعدم تصرفها في احداث وجودها يجعلها طبعا تجهل بداية هذا الوجود وكذا نهايته، حينئد وأمام هذا كله، تدرك بداهة ان فضائها رغم عظمته وجلاله، فهو محدود بفضاء خالقها الغير المحدود، وعند هذا المستوى بالضبط تتعرف على حقيقة الجواب عن السؤال الازلي الثاني، المتمثل في: ”من خلق الكون؟”، اذ ترى ان هذا الجواب هو:

– الله هو خالق الكون.

وعنده ايضا تعلم علم اليقين، ان هذا الجواب صحيح وغير مشكوك فيه، لارتكازه على القانون المنطقي التالي: ”انا موجود، اذن فالله موجود”، الذي تعتبره برهانا حاسما في اثبات يقينية وجود الله، على اعتبار ان من ينكر وجوده، سيفرض عليه المنطق ان يكون هو خالق نفسه بنفسه، وان يثبت بالتالي انه موجود في الحياة بارادته المنفردة، وبتدبيره الشخصي، وكما يبدو لا يستطيع أي انسان سوي، ان يدعي مثل هذا الادعاء.

وهكذا فان كان ديكارت قد اختزل حقيقة يقينية وجود الانسان في قانون: ”انا افكر، اذن فانا موجود”، المعروف بالكوجيطو، فان علم اسبروك قد اختزل هو ايضا حقيقة يقينية وجود الله في القانون الانف الذكر: ”انا موجود، اذن فالله موجود”.

ومجمل القول هذه اطلالة جد قصيرة على هذا العلم، تناولت فقط النزر اليسير من مشروعه الفكري المتميز، الهادف الى استكشاف أجوبة أسئلة الحياة المنقوشة في اعماق الفكر.

اقرأ أيضا

العدالة الدولية وحقوق الإنسان: بين الواقع السياسي والمحاسبة الجنائية في سوريا

منذ اندلاع الأزمة السورية في عام 2011، دخل النظام السوري في دوامة من التحديات التي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *