أصبحت السماء كلها مساكنهم كالطيور: شهادة من زيارة قرى زلزال الأطلس

أصبحت السماء كلها مساكنهم كالطيور: شهادة من زيارة قرى زلزال الأطلس
بقلم: امحمد القاضي*

حين يفقد المرء مسكنا، ولم يعد يملك سوى الخراب، يفقد معه كل شيء. تهوى الدنيا أمامه وتنتزع سترته وتسقط أحلامه، يفقد الدفئ و’تحويشة العمر’؛ لتفتح أبواب المجهول على مصراعيها، ويسكن الخوف من المستقبل جنباته، ويستسلم للمجهول، ويتعايش مع حكرة الطبيعة من نوع جديد، بعد أن ألف حكرة الإنتماء للمغرب الغير النافع، ويرضى بالقسم شره أكثر من خيره الذي لم يرى منه سوى إمدادات القوافل التضامنية.

هناك لم تعد سقوف بيوت متضرري الزلزال حديد، وأركان بيوتهم حجر، ستعصف الرياح وترمي بخيامهم ارضا، وستهطل الأمطار وتقصف الرعود وسيخشون الليالي الطوال الظلماء، وستقشعر أبدانهم ببرد الأعالي القارس. ولكن لن تحجب هشاشة الخيام ضياء القمر. نور القمر أمل ومنارة عادة ما تنير لفاقد البوصلة الطريق.

من أعالي مرتفعات جبال الأطلس الأمازيغية خانت مخلفات الزلزال، شعر ميخائيل نعيمة، وأسقطت مغزى قصيدته التي تغنى بها تلاميذ الدنيا شجاعة وتحصنا من تقلبات الطبيعة.

من الصعب أن تستيقظ كل صباح ليكون المشهد الأول الذي يستقبلك هو خراب بيتك. ومن الهون كذلك وأنت خارج من خيمة مر عبر تقوبها برد، ضباب الصباح وقطرات مطر الخريف، لتغسل وجهك في العراء بعدما كنت تتوضأ في دفئ حمام منزلك. ومن الشدة كذلك أن تصبح في وضع لاجئ بقريتك، بعدما كنت بالأمس القريب مالك مبنى وصاحب سكنى. من الغبن بالكثير أن تنال الطبيعة من عزتك وكبريائك وتصبح عالة على وطن. ومن الشماتة بما يكفي أن تصبح عربون ومرجعا يقاس به درجة نهب حق وتحويل أموال التنمية وفشل برامج تقليص الفوارق المجالية، ومخططات الإدماج لعقود.

لكن من المفخرة أن لا ينال من قيمك بؤس الحياة، وشظف العيش، ومن العزة أن تحتفظ بالكرامة رغم التهميش، ومن الأخلاق الكريمة أن تكرم الضيف رغم القلة، ومن الشهامة أن تحافظ على عزة الإنتماء لأرض هزها وحطمها زلزال مدمر، ومن الإنسانية أن تظل قريبا من الناس رغم البعد وقساوة المسالك، ومن أن الإستثناء أن لا ترضى بالمذلة رغم العزلة والنذرة.

هنالك بأعالي جبال الأطلس الصغير، كنا، نحن متطوعي قافلة جمعية تيويزي، شهداء على أناس من طينة أخرى. ساكنة صبورة، مغاربة أحرار، تدبر العيش المشترك بالقرية بعقلنة وحكامة أفضل مما يدبر به الشأن العام بالحواضر. إستوعبنا دروس الحياة القنوعة، وإستحضرنا أخلاق زمن إفتقدناه، ورأينا مشاهد تدمي القلب بحسرة، وسمعنا قصص معاناة بطعم تجارب وليس بنبرة الشكوى.

أسعدنا اللقاء في حضن نساء ورجال وأطفال القرى النائية، حيث الكرم الموروث في ظل الندرة، والفرحة الصادقة في وجه المعانات، والابتسامة البريئة وسط هموم الواقع، و التكتل الأسري بين خراب الزلزال، والتعايش القروي بعيدا عن النفور الحضري.

كم أنتم شامخون يا ساكنة الأطلس، شموخ سلسلة الجبال العالية.

* رئيس جمعية تيويزي للتنمية الإجتماعية لأيت عبد الله

شاهد أيضاً

«مهند القاطع» عروبة الأمازيغ / الكُرد… قدر أم خيار ؟!

يتسائل مهند القاطع، ثم يجيب على نفسه في مكان أخر ( الهوية لأي شعب ليست …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *