ما هي وظيفة الكتابة في أقدم المنقوشات الأمازيغية؟ … هذا سؤال مهم لأن وظيفة الكتابة عند القدماء محفزة … وليس حرة ــ “محفزة” بمعنى أنها مرتبطة باحتياج إنساني بعينه، وليس “حرة” بمعنى أنها ليست مجرد أداة للتمثيل الڭرافي يستخدمها الإنسان لتسجيل أي شيء يخط على باله يرغب في تسجيله ڭرافيا …
فقد كان #الفينيقيون يستعملون أبجديتهم والسومرين يستخدمون كتابتهم المسمارية لحفظ اتفاقيات ومعاهدات التبادل التجارية، وكان قدماء #المصريين يستخدمون خطهم الهيلوڭرافي في السياق الجنائزي، وكان #العبريون يستخدمون الكتابة لتدوين النصوص الدينية وتاريخهم المقدس … الكتابة لم يسبق لها أن كانت ممارسة اجتماعية “حرة” بل كانت دائما مرتبطة بوظائف اجتماعية محددة.
إلا أن الأمر يختلف بشكل ملحوظ عند قدماء #الأمازيغ لأن النظام التيفيناغي القديم، حسب ما يظهر من جميع النقائش التي تعود إلى ما قبل بداية الألفية الميلادية الأولى، متعدد الوظائف ومختلف الإستعمالات. فقد استخدموا نظامهم الكتابي للتشوير الطرقي (أماكن المعادن، والوحوش، والطرق)، واستخدموها للتعبير الشعري الحر (نقيشة إدا 1 عن شروق الشمس)، وللتعبير عن الحماس الملحمي (نقيشة الفيل في أوكايمدن)، ولكتابة الصلوات الدينية (نقيشة ريسانة قرب العرائش)، ولمساعدة المسافرين على إيجاد مكان للماء (نقيشة مسكاو قرب طاطا)، ولتعليم الكتابة (نقيشة أورمداز بسوس)، ولتدوين الأهازيج الموسمية (قصيدة الحصاد بجزر الكاناري)، وللسخرية (نقيشة عزيب نيكيس)، ولضرب الأمثال (نقيشة جبل بوكركور) … هذا يعني أن النظام الكتابي الأمازيغية كان يختلف عن الأنظمة الكتابية الأخرى في كونه لم يكن مختصا بوظيفة واحدة، بل كان نظاما حرا استعمله الإنسان الأمازيغي بشكل مبدع للتعبير الحر عن كل ما يخطر على باله ..
ومن مظاهر تحرر النظام الكتابي الأمازيغي من أحادية الوظيفة أن الإنسان الأمازيغي كان يلعب بالإمكانيات الكاليڭرافية لهذا النظام الخطية ليصنع به صورا تعكس معنى النص الذي كتب به. من ذلك مثلا التماثل المرآوي الذي اتعمله ناقش “مسكاو” وصورة الحصان التي شكلها ناقش قصيدة “الموت والحياة” بلاس پالماس والأمبيڭرام التماثلي الذي في نقيشة “لا كاليتا”. لم يكن الإنسان الأمازيغي القديم يعبر عن أفكاره بالحروف فقط، بل كان يلعب بشكل توزيع الحروف ليزيد في تعبيرية شعره ونثره.
هذه هي مفارقة العقل الذي أنتج تيفيناغ: لقد كان عقلا متصلا بمجاله الطبيعي أيما اتصال، ولكنه كان في نفس الوقت منفصلا عن كل وظيفة بعينها انفصالا تاما حتى أصبح قادرا على التشكيل الكاليڭرافي المجرد … العقل الأمازيغي عقل متصل بقدر محافظته، فذاك “وجوده”. ولكنه منفصل بتحرره من الوظائف الشكلية التي تختزل الكتابة إلى مجرد وظيفة اجتماعية، فهذه “كينونته” … إنه العقل الذي حافظ على وجوده ب”الإتصال” الدائم بمحيطه، وأسس لكينونته بالإنفتاح الدائم على آفاق وظيفية جديدة …
لقد آن الأوان لننتظم مرة أخرى في هذا الزخم الحضاري بترجمة فلسفة “الإتصال الوجودي” و”الإنفصال الكينوني” إلى ثورة ثقافية حقيقية …