تخليدا للذكرى الخامسة عشرة لتأسيسها واحتفاء بروح الأنثربولوجي الأمريكي دافيد مونتغومري هارت نظمت جريدة العالم الأمازيغي ندوة علمية حول شخصية دافيد هارت وإنتاجاته العلمية، وذلك يوم السبت 21 ماي 2016 بنادي هيئة المحامين بالرباط، وبمشاركة مؤسسة البحر الأبيض المتوسط “ديفيد مونتغومري هارت” للدراسات الأمازيغية، إلى جانب عدد من المهتمين والدارسين.
وفي كلمتها الافتتاحية للندوة أكدت مديرة جريدة العالم الأمازيغي، أمينة ابن الشيخ، أن هذا التخليد الذي يتزامن مع الذكرى 15 لتأسيس الجريدة، يأتي تكريما لروح الفقيد دافيد مونتغومري هارت أحد أكبر الأنتربولوجيين الأمريكيين الذي أجرى دراسات مهمة حول المجتمعات والجماعات والقبائل الأمازيغية.
وتقدمت ابن الشيخ بصفتها مديرة لجريدة العالم الأمازيغي بالشكر والامتنان لطاقم الجريدة، كما رحبت بالمشاركين في هذه الندوة التي اعتبرتها بن الشيخ مناسبة للوقوف عند إنتاجات أحد أهم العلماء الأنتربولوجيين الذين اشتغلوا على المجتمع الأمازيغي: دافيد مونتغومري هارت.
وأكد رشيد الراخا رئيس مؤسسة البحر الأبيض المتوسط “ديفيد مونتغومري هارت” للدراسات الأمازيغية، قبل شروعه في تسيير أشغال اللقاء، أن علاقة مؤسسته بدافيد هارت كبيرة جدا، لدرجة أن هذا الأخير “ترك لنا قبل وفاته حقوق الطبع والترجمة لمؤلفاته، كما وضع أكثر من نصف مكتبته العلمية تحت تصرف مؤسستنا، إضافة إلى توفيره أرشيفا ضخما من الصور للمجتمع الأمازيغي خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي”، وتحدث الراخا عن أول لقاء له بدافيد هارت والذي كان بمليلية خلال نشاط جمعوي سنة 1991، “وتوطدت علاقتنا منذ يومها الأول”، واستمرت العلاقة حتى بعد استقراره بغرناطة حيث أسس عددا من الجمعيات الأمازيغية، بينما كان يعيش دفيد هارت غير بعيد بمدينة ألميريا الإسبانية، كأقرب نقطة لمنطقة الريف -حسب الراخا- التي لطالما حلم دافيد هارت أن يستقر بها.
وأضاف الراخا “تفاجأت عند زيارتي لمنزله بموخاكار ضواحي ألميريا، بوجود أكبر مكتبة حول شمال إفريقيا والعالم الإسلامي” مضيفا “تمكنا عن طريق العلاقة مع جامعة غرناطة، ومديرية النشر بمليلية، أن نعرف بأعمال دافيد هارت باللغة الإسبانية”. وبفضله أيضا -حسب الراخا- تمكن الإسبان من اكتشاف أعمال الأنتربولوجي الإسباني إمليو بلانكو الذي اشتغل على المجتمع الريفي خلال الحقبة الاستعمارية.
ومن جانبها ابنة عمة ديفيد هارت، الباحثة الأركيولوجية إليزابيث فينتريس، قدمت معطيات مهمة عن عائلة الباحث ديفيد هارت، بحيث أنه نشأ في أسرة عالمة، وكان جده دانييل مورو بارنير باحثا بارزا بالجيولوجيا، هكذا التحق دافيد هارت بجامعة بنسلفانيا إحدى أكبر الجامعات الخاصة بالولايات المتحدة الأمريكية، حيث حظي بإشراف أحد أبرزة أطرها، “كارتن كون”، على مشروعه للدكتوراه، إلا أنه كان محافظا إلى حد العنصرية، ما أدى بهارت إلى إيقاف مشروعه، وتوجهه إلى البحث الميداني بمجتمعات شمال إفريقيا والعالم الإسلامي.
وتضيف فينتريس أنها استفادت كثيرا من أبحاث دافيد هارت، خاصة فيما يتعلق بدراساته اللغوية، حيث أجرى دراسة مقارنة بين اللغات الأمازيغية، -النص منشور في كتاب أيت ورياغر-، فحسب قراءة كرونولوجية للغات شمال إفريقيا يجد دافيد هارت أن اللغات المتداولة بمناطق الريف إلى حدود منطقة الشاوية بالجزائر هي لغات متقاربة، وهكذا يقسم دافيد هارت شمال إفريقيا إلى مناطق لغوية، وهي -حسب فينتريس- الدراسة التي اشتغل عليها مؤخرا الباحثان كريستوف إريك وأندرو كيتشن، الذين اعتمدا على إحصائيات مهمة من أجل تحديد التقارب اللغوي بين المناطق، وبالتالي وضع خريطة جديدة لتاريخ شمال إفريقيا القديم.
وأكد الدكتور والباحث محمد شطاتو عن أهمية الدراسات التي أجراها الأنتربولوجي الأمريكي دافيد هارت، وقال أنه سلط الضوء على المجتمع الأمازيغي بالريف، وأنه لا زال “يخفي وراءه الكثير عن الريف”، حيث أن هذا الأخير استطاع تفسير كثير من الظواهر الاجتماعية في الريف، كمؤسسة “أيت أربعين” و”خمس خماس” التي تبين على أن المجتمعات الأمازيغية كانت مجتمعات ديمقراطية، كما تبين على ذلك أيضا المكانة التي كانت تحضى بها المرأة في المجتمع الأمازيغي، وقد تحدثت عن ذلك أرسولا هارت، زوجة الباحث ديفيد هارت، في كتاباتها. وقال شطاتو أن أعماله حول دافيد هارت سيتم تجميعها لتتكلف مؤسسة “إدسيون أمازيغ” بنشرها على شكل كتاب خلال الأشهر القلية القادمة.
وتحدث شطاتو عن تفاصيل لقائه خلال، سبعينيات القرن الماضي، بأحد أبناء الباحث السوسيولوجي الأمريكي كارتن كون، الذي أجرى دراساته حول قبيلة جزناية الريفية، مباشرة بعد ثورة عبد الكريم الخطابي، وقد طلب منه كون الإبن أن يعلمه اللغة الأمازيغية الريفية برعاية من السفارة الأمريكية، كما كانت لشطاتو سنة 1976 فرصة للقاء كارتن كون في منزله بأمريكا وقال أنه “على شاكلة المنازل التقليدية بالريف، حتى أنه يحتوي على أغراض جلبها معه كون من الريف”. وأضاف شطاتو أن “ما لا يعرفه الكثيرون عن كارتن كون أنه كان يشتغل لصالح الأجهزة السرية لأمريكا خلال الحرب العالمية الثانية، وهذا ما يفسره توجهه المحافظ والعنصري الذي تحدثت عنه إليزابيث فينتريس.
وبصفته خبيرا قانونيا تناول الدكتور ميمون الشرقي مداخلته في الموضوع من زاية قانونية، وتحدث عن المؤسسات الريفية، خاصة الجمهورية الاتحادية لقبائل الريف التي قال بأنها ليست دولة عربية كما يشاع بل هي دولة أمازيغية، وأنها تأسست بائتلاف كونفدرالي بين قبائل الريف من أجل مواجهة التدخل الاستعماري الإسباني، كما تحدث الشرقي عن العلاقة بين بلاد المخزن وبلاد السيبة، وقال بأن “الإمبراطورية المغربية الشريفة كانت تنتظم على شكل دولة فدرالية، ذات سلطة مركزية تتجلى في المخزن والسلطان، بينما يضمن ظهير سلطاني للقبائل في بلاد السيبة أن تتولى تسيير شؤونها بذاتها شريطة أدائها ما سمي بالبيعة”.
وعلى خلاف ما كان يعتقده كثيرون ومعهم ديفيد هارت أن بلاد السيبة كانت تشكل بلاد اللاحكم والفوضى، فقد كانت هذه المناطق غاية في التنظيم، تحكمها قوانين مدونة تحدد العلاقات بين الأفراد والجماعات، بحيث كان لكل جماعة قانونها الخاص يحدد ما يجب على المواطنين وما لهم، فيما يتعلق بتوزيع مناطق الصيد أو الرعي أو حصص المياه، كما كانت هناك اتفاقيات تحدد العلاقات بين القبائل. وقال الشرقي بأن المؤسسة الأهم في الريف، كما تحدث عن ذلك إمليو بلانكو، لم تكن المسجد وإنما السوق، حيث كانت تتم محاكمة الجناة جماهيريا، ولم يعرف الريف حينا السجون ولا عقوبة الإعدام، بل كانوا يقضون بأداء غرامات، وكانت أقسى العقوبات هي الطرد من القبيلة، إلا أن عبد الكريم الخطابي عند مجيئه أدخل كثيرا من التعديلات على القانون العرفي الريفي.
بينما أكد عبد الله الحلوي، الأستاذ الباحث بجامعة قاضي عياض بمراكش، أن المعلومات الإستوغرافية والأنتروبولوجية والإتنوغرافية واللسانية التي توفرها الدراسات التي أنجزها دافيد هارت، غنية جدا، بحيث يمكن على أساسها بناء نظرية سياسية جديدة. وينطلق الحلوي في تحليله من ثلاث مسلمات أساسية تتجلى في كون إمازيغن بحاجة إلى هذه الدراسة التي أنجزها دافيد هارت، إضافة إلى ضرورة الاستناد إلى أسس علمية في بناء النظرية السياسية، ثم وأخيرا ضرورة إعمال الملكة النقدية، بحيث ليس كل التراث الأمازيغي صالح بالضرورة لكل زمان ومكان.
ومن خلال دراسته للأبحاث التي أنجزها دافيد هارت حول المجتمع الأمازيغي، يستنتج الحلوي ثلاث خصائص أساسية لهذه الأبحاث، أولها نظرية الانقسامية التي يدافع عنها دافيد هارت، والتي تقول بأن القبيلة تتشكل في بدايتها متحدة ثم تنقسم تدريجيا بالموازاة مع مراحل نموها، الخاصية الثانية هي التحليل الفينومينولوجي، الذي ينسجم بالضرورة مع فهم القبيلة لنفسها، كما أن دافيد هارت يؤمن بأن الحقيقة الاجتماعية معقدة ما يجعلها دائما نسبية وهي الخاصية الثالثة للنظرية الاجتماعية لدافيد هارت. كما أشار الحلوي إلى نموذج سياسي تعمق دافيد هارت في تفسيره، ويتعلق الأمر بنظام “خمس خماس” الذي يعتمد على الدور والتكامل في تداول السلطة بين القبائل، وأضاف الحلوي أن فهم هذه الميكانزمات التي اتسم بها النظام القبلي من شأنها أن تعمق فهمنا للواقع السياسي، ونستفيد منها من أجل الوصول إلى بناء نظرية سياسية جديدة منسجمة مع الواقع الاجتماعي والسياسي لإمازيغن.
ومن جهته تحدث مصطفى أقلعي، المتخصص في التخطيط الحضري وأحد مؤسسي مؤسسة دافيد هارت، تحدث بدوره عن بداية علاقته بدافيد هارت، وقال بأن الفضل في ذلك يعود لرشيد الراخا، كما “كان له الفضل في بروز القضية الأمازيغية وحرفها تفيناغ بإسبانيا ما قبل سنة 1996” يضيف أقلعي. وقال أقلعي أن الفضل في إظهار أعمال إمليو بلانكو إلى الوجود يعود لدافيد هارت، الذي تحدث عنه في عدة لقاءات.
وأضاف أقلعي أن الأمريكيين لا يعرفون قيمة الأعمال التي أنجزها دافيد هارت وبقية الباحثين الذين اشتغلوا على المجتمع الأمازيغي، وإلا يضيف أقلعي “لما قاموا بتشجيع أعمال الإرهاب والفكر الوهابي، ولما أسسوا دولة دينية في أفغانستان وفي العراق.
وأوضح فريد أيت لحسن، المشرف على ترجمة الجزء الثاني من كتاب أيث ورياغر، من الإنجليزية إلى العربية، أوضح أن فريق الترجمة المتواجد بهولندا يتكون من مجموعة من الأساتذة الذين أبدوا اهتمامهم بالكتاب، “وهم ينتمون إلى تخصصات مختلفة (أنتربولوجيا، تاريخ، لسانيات..).
وقال أيت لحسن أن هذا الكتاب الذي يعتبر من أغلى الكتب في المكتبات الأوروبية والأمريكية (حوالي 1000 أورو)، كان إلى عهد قريب ممنوعا في المغرب، وأضاف “لولا مؤسسة دافيد هارت لكان عندنا مشكل كبير في حقوق الطبع والترجمة”.
وختم فريد أيت لحسن مداخلته بإشارته إلى المنطقة التي عاش فيها دافيد هارت خلال مرحلة تواجده بالريف، وهي نفس المنطقة التي ينتمي إليها أيت لحسن (جماعة أربعاء تاوريرت إقليم الحسيمة)، وقال أنه لابد أن تحظى هذه الجماعة بنصيبها مما خلفه هذا الباحث الكبير الذي عشق المنطقة وعشق سكانها البسطاء، خاصة وأن هذه المنطقة تتوفر على قصبة في طور الترميم تستحق أن تكون متحفا يختزل ذاكرة المنطقة.
كمال الوسطاني