عيد الحب” أو “يوم القديس فالانتان” ليس عيدا دينيا مسيحيا ولا هو عيد يهودي أو إسلامي.
انه مجرد “رمز ” لمقصد تربوي إنساني يغلّب الحب على الكراهية ولا علاقة لهذا الرمز بالتفسخ الأخلاقي كما يزعم البعض، بل انه جاء ليضع حدا لعادات رومانية قديمة مغرقة في التفسخ الأخلاقي.
ثم إن هذه المناسبة ليست غريبة عن التونسي بل إن من سَنّها هو تونسي أمازيغي أصيل وفرضها على الرومان بديلا عن”عرس الذيب ”.
ومما يدل على ذلك أنك بمجرد أن تدخل إلى متحف سوسة حتى تلفت نظرك لوحة من الفسيفساء الجميلة الزاهية الألوان حملت معاني ”عرس الذيب” الروماني. وهي ظاهرة ثقافية تاريخية لم تزل حية – وان باحتشام ودون وعي بحقيقتها – في بلداننا ولا سيّما في أريافنا.
وقد كان الرومان يسمّونها Les lupercales – وهو احتفال شعبي سنوي كانوا يقيمونه تخليدا لذكرى أسطورية أوردها الشاعر الروماني الكبير فيرجيل Virgile تتحدث عن ذئبة تخلت عن أبنائها لترضع رومولوس Romolus مؤسس مدينة روما مع أخيه روموس وRomus.
وقد شاع ذلك الاحتفال في المستعمرات الرومانية بما في ذلك شمال إفريقيا.
وتستند هذه الظاهرة الثقافية إلى ظواهر مناخية متزامنة وهي إشراق الشمس ونزول الأمطار وظهور قوس قزح في آن واحد وهو ما يحدث عادة في شهر فيفري أي مع بداية انتهاء السنة الجارية وفي انتظار السنة الموالية علما أن شهر فيفري هو آخر شهور السنة في التقويم المنسوب إلى يوليوس قيصر وهو في التقويم المصري الذي جرى به العمل في عهد كليوباترا وان شهر مارس هو اول شهور السنه المصرية/القيصرية …كما هو اول شهور السنة الفارسية.
هذا التقويم ”القيصري ”/المصري Le calendrier Julien هو الذي نسميه نحن اليوم في تونس التقويم العجمي أو التقويم الفلاحي وهو حقا ملائم جدا للفلاحة في البحر الأبيض المتوسط عامة وفي شمال إفريقيا خاصة وتونس بشكل أخص …
الامازيغ تأثروا بهذه الظاهرة الثقافية الرومانية ولكنهم أعطوها معنى مبتكرا لا علاقة له بأسطورة تأسيس روما.
فهم يسمون ”عرس الذيب” “تمغراوشن” ’ويسميها أهل نَفوسة بليبيا “إسلان وشن” كما ورد ذلك في كتاب الباحث المغربي محمد اسوس بعنوان في “الميثولوجيا الأمازيغية” الصادر بدار المعهد الملكي للثقافة الامازيغية بالرباط.
يتعلق الامر هنا بتأويل تزامن تلك الظواهر المشار إليها أي إشراق الشمس ونزول المطر وظهور قوس قزح. وقد طرح الأمازيغي ألمغاربي على نفسه السؤال التالي: كيف نفسر هذا التناقض في الظاهرة الطبيعية الواحدة؟ ما معنى الجمع في لحظة واحدة بين الشمس علامة على الجو الصحو الربيعي… والمطر علامة على السحاب والمناخ الشتوي؟ وما معنى قوس قزح وهو يصل الأرض بالسماء والشرق بالغرب؟ وكيف نفسر ظهوره في مثل هذا الجو…؟.
والفكر الأسطوري الأمازيغي كغيره فكر يبدع المعنى الرمزي ليفسر الظواهر الطبيعية والثقافية. فتخيل الأمازيغ كما تخيل غيرهم حادثة ابتدأ انطلاقا منها أصل الوقائع المشاهدة. فالذئب في اللغة الأمازيغية يقال له ”أوشن” ومعناه الذئب باعتباره الحيوان الخارج عن قوانين الطبيعة وعرس الذيب يقال له ”تمغراشن“ خلافا لما تقتضيه سنن الطبيعة… وصورة مخالفة قوانين الطبيعة في هذا السياق أن الأمازيغي تخيل أن الذئب نزا على أتان وهو ما لا يجب ان يقع اصلا…
ومن المنطقي ان يؤدي هذا السلوك الخارج عن قوانين الطبيعة إلى غضب الطبيعة… ويتجلى هذا الغضب في ظهور التناقض في سلوكها كعلامة على عدم رضاها عما فعل الذئب فجمعت في ان واحد بين فصلين الشتاء والربيع، والشمس والمطر وكان قوس قزح إشارة إلى إعلام جميع من في الأرض مشرقا ومغربا بذلك الغضب وفي ذلك إشارة خفية إلى كونية القانون الطبيعي.
وتقول الأسطورة الأمازيغية إن حيوانات الغابة اجتمعت وتدارست مثل ما يجري عليه الأمر في كتاب ”كليلة ودمنة” جريمة الذئب النكراء وقررت الخروج من “قانون الغاب ” وإحلال النظام محل الفوضى والفضيلة محل الرذيلة. لذلك اتخذت الحيوانات بالإجماع قرارين مصيريين: نفي الذئب إلى الجبل ليعيش وحيدا منبوذا وتنصيب الأسد ملكا عليها.
وهكذا فإن أسطورة عرس الذئب الأمازيغية يمكن اعتبارها تفسيرا رمزيا لنشوء “السلطة المدنية” باعتبارها حافظة للنظام والخلق المتلائم مع سنن الكون. ويبدو أيضا أن في ذلك المعنى الأمازيغي إشارة إلى رفض الأسطورة الرومانية القاضية بان الذئبة تخلت عن أبنائها لترضع لقيطين وهو مخالف للقوانين الطبيعية. فالأمّ لا تتخلى عن أبنائها وانثى الذئب ترضع صغارها قبل غيرهم. ولا يخفى ما في ذلك من إشارة إلى تشكيك في أصل الرومان واصالة مؤسسي روما في اطار مقاومة الاستعمار بجميع اشكال المقاومة.
والأقرب إلى الحقيقة التاريخية في تقديري أن “يوم الحب” أو ”أفراح القديس فالانتان” يندرج في هذا السياق العام. فقدسنّه رجل من مدينة الكاف Sicca veneria. والأقرب إلى تقدير بعض المؤرخين انه من قبيلة جلاص التي هي قبيلة تونسية أصيلة مثل المحاميد والمصاميد كما يقول ابن خلدون… هذا الرجل اسمه باللاتينية Gelasius premier جيلازيوس الأول وهوعلى ما يبدو تحريف لكلمة الجلاص مضاف إليها حرف النسبة في اللاتينية US…
ومهما يكن من أمر فالأكيد انه تونسي اعتنق المسيحية وأصبح الحَبر الأكبر في روما باسم البابا جيلاص الأول من سنة 492 إلى سنة 496… أربع سنوات فقط حدد فيها قدر المسيحية في العالم حتى اليوم، حيث أن هذا الرجل هو الذي علم المسيحيين الكثير من شعائر العبادة، وهو الذي وضع النصوص النهائية للأناجيل الأربعة التي يتعبد بها جميع المسيحيين في العالم كله حتى اليوم، وهو الذي ميز الصحيح من الأناجيل عن المنحول منها. كما ان هذا البابا هو الذي وضع أول وثيقة في تاريخ الإنسانية فيها الفصل التام بين الدولة والدين كما هو مبيّن في رسالته إلى الإمبراطور الروماني اناسطاز الأول Anastase Ier.
بقي أن نفهم لماذا سمي “يوم الحب” يوم “القديس فالانتان” ؟ نعلم من أدبيات الكنيسة الكاثوليكية أن ”فالنتان Valentin”هذا من شهداء المسيحية … آمن بالله وأنكر الوثنية الرومانية… وانه كان راهبا يزوج المتحابين من الشباب الروماني على سُنّة الشريعة المسيحية لا على سُنّة القوانين الرومانية الوثنية. وقد حفظت لنا رائعة توفيق الحكيم” أهل الكهف” بعض أصداء تلك العهود. ويعتبر صنيع “فالانتان” ذلك جرما كبيرا في عرف الرومانيين… فعاقبه الإمبراطور الروماني بقطع رأسه وكان ذلك يوم 14 فيفري من سنة 270 ميلادي.
لذلك جعل البابا الجلاصي الأول من هذا اليوم رمزا للطهارة… والمحبة بين الناس بديلا عن عرس “”الذئب الروماني” الذي كان يقام كل سنة يوم 15 فيفري ويتميز باحتفالات صاخبة ماجنة يجري فيها الناس عراة في الشارع ليلا ويأتون فيها من الفواحش ما لا يرضاه الخلق الكريم، فضلا عن عادة جَلد النساء في الشارع بسوط من جِلد حيوان تشجيعا لهن على التناسل وفقا لعادات أقدم من الرومان أنفسهم هي عادة ”الجَلد” La flagellation. وقد اغضب إبطال البابا تلك العادات الأسطورية الرومانيين بتعلة أن إبطالها سيجلب على روما مصائب الدنيا وأمراض العالم وهو ما عارضه البابا بحكمة وعقلانية رصينة مبيّنا للرومان سخف ما كانوا يعتقدون، فضلا عن أن ما عُرف به البابا الجلاصي الأول من حزم في مقاومة الوثنية وما اشتهر به من أخلاق عالية مكنه من القضاء نهائيا على فواحش ”عرس الذيب” ليستبدله بيوم “سان فالانتان” رمزا للمحبة الطاهرة والإخاء البشري.
وهكذا نتبيّن أنّ يوم القديس فالانتان ليس يوما غريبا عن التونسيين، بل إن احد أجدادهم الأصليين هو الذي سنّه تقليدا مدنيا حميدا لا سنة دينية ولا طائفية.
وللتونسي أن يفخر بأنه أراد منذ القدم من خلال سن هذا اليوم من كل سنة أن يكون يوما للمحبة والصداقة ورمزا للإخاء الإنساني أملا منه في أن يكون الإنسان أخا للإنسان يطمئن له لا ذئبا عليه يخاف إرهابه وغدره..
أليس في ذلك كله مجد لتاريخ تونس… وإشارة جلية إلى أن الأصل في أخلاق التونسي المحبة لا البغضاء، والإخاء لا الحقد والتسامح لا التزمّت؟ قال ابن عربي رحمه الله:
“لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
لقد صارَ قلـبي قابلاً كلَ صُـورةٍ
فـمرعىً لغـــــزلانٍ ودَيرٌ لرُهبـَــــانِ
وبيتٌ لأوثــانٍ وكعـــبةُ طـائـــفٍ
وألـواحُ تـوراةٍ ومصـحفُ قــــــرآن
أديـنُ بدينِ الحــــبِ أنّى توجّـهـت..
ركـائـبهُ ، فالحبُّ ديـني وإيـمَاني“