أمازيغ سوس “تجار المغرب” بعيون أنثروبولوجي أمريكي

صدرت عن المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، قبل أسابيع في العاصمة الرباط، الترجمة ‏العربية لكتاب “الهجرة إلى الشمال. سيرة تاجر أمازيغي”، الصادر باللغة الإنجليزية، قبل ‏نصف قرن، لجون واتربوري الكاتب والأنثروبولوجي الأمريكي الشهير، المعروف في أوساط ‏المهتمين بالسياسة في المغرب، بكتابه الذائع الصيت “أمير المؤمنين الملكية والنخبة السياسية ‏المغربية” (‏1970‏)، الذي أثار ضجة بعد منع تداول ترجمته بين لبنان والمغرب.‏

داخل حقل الدراسات الأنثروبولوجيا – لكن هذه المرة بعيدا عن السياسة قريبا من الثقافة – ‏اشتغل واتربوري من جديد على المغرب بوصفه مجالا للبحث، فوضع كتابا أساسيا ونوعيا، من ‏حيث الموضوع، حول الأمازيغ والتجارة والسياسة في المغرب. ومن حيث المقاربة، حيث اعتمد ‏لتحرير فصول الكتاب السبعة منهجية المقابلة مع المسمى الحاج إبراهيم، التاجر الأمازيغي ‏في مدينة الدار البيضاء المنحدر من جنوب المغرب.‏

قد يبدو العنوان “الهجرة إلى الشمال” ملتبسا لكثير من القراء الذين لم يسبق لهم أن ‏زاروا المغرب، فجولة خفيفة للمرء في أي مدينة مغربية كافية للوقوف عند ظاهرة ‏سوسيولوجية لا تخطئها العين، مفادها النجاح الفريد للتجار السوسيين في قطاع التغذية العامة، ‏ما يساعد حتما على فهم مسار الهجرة، فسوس هو أصل هؤلاء التجار المنتشرين في ربوع ‏المغرب، الذي يقع جغرافيا في جنوب البلاد، نحو ‏600‏ كيلو متر عن العاصمة الرباط.‏

يقدم واتربوري على لسان محاوره الحاج إبراهيم صورة بانورامية عن مغرب ‏الاستعمار، مشفوعة بتشخيص دقيق لأحوال المغاربة في القرى والمدن، وتحليل رصين ‏لموازين القوى السياسية والاجتماعية “الأحزاب، النقابات، الحركة الوطنية، الاستعمار ‏الفرنسي…” في مغرب النصف الأول من القرن الـ20.‏

تعد هذه الصورة بمنزلة إطار لموضوعه البحثي، أمازيغ سوس أو ما يطلق عليهم في ‏الكتابات الكولونيالية تسمية “شلْوح”، على اعتبار أن هناك أمازيغ في الوسط يسمون “زَيّان”، ‏وفي مناطق جبلية في الشمال “الريف”، الذي شكلته أبناء جبال الأطلس الصغير في الجنوب، ممن ‏أضحت عندهم الهجرة الموسمية للذكور قاعدة على مدى نصف قرن، بسبب النقص المستمر في ‏النظام الزراعي التقليدي في مناطق سوس، نتيجة توالي موجات الجفاف على المنطقة.‏

تنبه الرجل بذكاء الأنثروبولوجي الحذق إلى أن “للظروف الزراعية في المغرب دائما ‏تأثيرا في المنطقة وفي المغرب بشكل عام، فعندما يكون المحصول ضعيفا يتضرر مجموع ‏النظام الاقتصادي، وبالتالي، يواجه آلاف من التجار البسطاء الذين هاجروا إلى الشمال معضلة ‏أخرى، تتمثل في تأجيل زبائنهم أداء ما في ذمتهم رغم رغبتهم في اقتناء السلع. هكذا تتأثر ساكنة ‏الأودية في الجنوب سريعا بعواقب العام الفلاحي السيئ، حيث يتقلص دخلها رغم دور الهجرة ‏في تحرير هذه الساكنة من الانعكاسات المباشرة للظروف الزراعية المحلية”.‏

وتوقف الباحث كذلك، في أكثر من محطة في صفحات الكتاب، عند علاقة، روج لها ‏الاستعمار الفرنسي باعتبارها متشنجة أو متنافرة، ألا وهي علاقة الأمازيغ بالدين الإسلامي ‏واللغة العربية، ليثبت أن الحقيقة نقيض ذلك تماما، فكما جاء على لسان محاوره الحاج إبراهيم ‏‏”شكل رجال الدين داما قوة ربطت سوس بالمخزن في الشمال، وبشكل أوسع، بالأمة الإسلامية ‏ككل، وبذلك أصبحوا يمثلون عنصر توحيد يخفف من حدة خصوصية المنطقة وعزلتها، وقد ‏مكنتهم معرفتهم باللغة العربية، وبالتالي بالقرآن من الحفاظ على ذلك الانجذاب إلى النص ‏المكتوب والوثائق والعقود، الذي يتميز به السوسيون”.‏

ظل واتربوري يبحث طي الكتاب عن مفاتيح نجاح أبناء سوس في التجارة، وهم ‏القادمون من قبائل ترعرعت بين أنشطة الرعي والصيد والزراعة، فاكتشف أن هذه القومية ‏‏”تغرس بذرة المنافسة في السوسيين منذ سن مبكرة، حيث يمتلك الأطفال الصغار رغبة قوية في الدخول إلى عالم الكبار، وتبدأ خطواتهم الأولى في هذا العالم قبل بلوغهم سن العاشرة”. كما أن ‏‏”أغلبنا – بلسان محاوره – يفضل العمل الحر بدل الاشتغال لدى الآخرين، ونقول دائما إن ‏درهما نكسبه من تجارتنا أفضل من مائة درهم كأجرة”، إضافة إلى خاصية ثالثة، تميزهم عن ‏باقي المغاربة، فـ”بإمكان السوسيين كعديد من المجموعات القبلية الشرق أوسطية، محاربة ‏الأعداء والمتاجرة معهم في الوقت نفسه”.‏

عمد الكاتب سعيا منه إلى مزيد من فهم واستيعاب ميكانيزمات عمل الأمازيغ ـ بمعنى هل ‏هي جماعة وظيفية بلغة ماكس فيبر أم تجمع عرقي قبلي – إلى إجراء مقارنة بين السوسيين ‏والفاسيين – نسبة إلى مدينة فاس العاصمة القديمة للمغرب – فهم أهل تجارة أيضا، ليقف عن ‏مواطن الاختلاف بينهما.‏

عرج الكتاب الذي جاء في ‏274‏ صفحة على جوانب أخرى من حياة أمازيغ سوس، ‏كعلاقاتهم النوعية والفريدة باليهود الذين عاشوا وسط قبائلهم في سلم وسلام، ومعاملتهم ‏الخاصة للسود القادمين من إفريقيا جنوب الصحراء، ما شجعهم على الهجرة نحو سوس، حيث ‏استقروا في شكل مجموعات، كما توفق بإسهاب عن الأعراف التي كانت تسري بين القبائل في ‏سوس، وما يطبق من قواعد على أبناء القبيلة الواحدة، فالتنظيم قائم بمقتضى ألواح وأعراف ‏مسطرة.‏

تتيح النسخة العربية من هذا الكتاب للقراء العرب فرصة ثمينة لاكتشاف جوانب ‏مغمورة من حياة وثقافة وإنسانية أمازيغ جنوب المغرب، منطقة سوس المعروفة عبر التاريخ ‏بالزوايا والتعليم الديني والمدارس العتيقة وعلماء الدين وفقهاء اللغة العربية، من أشهرهم ‏المختار السوسي، المعروفة كذلك ببساطة عيش أهلها في السهل كما في الجبل. ‏

عن جريدة “الإقتصادية”

الكاتب: محمد طيفوري

اقرأ أيضا

الأمازيغية والاحصاء العام للسكان بالمغرب.. أربع حقائق

أثناء مباشرة الاحصاء نبه اغلب المتتبعين الى ان المنهجية المتبعة غير مطمئنة النتائج ونبهت الحركة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *