أيت بناصر.. مسار أسرة «مرابطية» من الجنوب الشرقي المغربي..

محمد حمام – أستاذ بجامعة محمد الخامس – الرباط

“أيت بناصر (الناصريون) مسار أسرة «مرابطية» من الجنوب الشرقي المغربي (مابين القرنين 15 و20)”، هو عنوان كتاب قيم، متوسط الحجم، صدر مؤخرا عن المطابع الجامعية الاوروبية E.U.E، لصاحبه المؤرخ والاستاذ الباحث محمد المنور، والكاتب هو في الاصل رسالة جامعية لنيل شهادة دكتوراة السلك الثالث في التاريخ، كان قد تقدم بها نفس الباحث أمام لجنة علمية بجامعية شامباني – اردين بمدينة نيس الفرنسية سنة 1984.

هذا، ويأتي نشر هذه الدراسة الجادة في وقت كثر فيه الجدل والحديث عن الدين والتدين سواء في وسائل الإعلام او في أوساط المجتمع المغربي، ليقدم نموذجا مغربيا متميزا في هذا المجال، ويتعلق الامر تحديدا بزاوية تامكروت او الزاوية الناصرية التي يتم تناول دراسة تاريخها لاول مرة منذ فترة ما قبل التأسيس، إلى بداية القرن العشرين. وبتعبير آخر، هي دراسة تغطي أهم المراحل التاريخية التي شهدتها هذه الزاوية ومدى تأثيرها الروحي في المغرب وخارجه، وقد سمحت المادة المصدرية المتوفرة – على قلتها- للباحث محمد المنور أن يرصد الحيثيات التاريخية التي سمحت لاسرة متواضعة من تافيلالت ان تتنقل من مكان الى اخر لينتهي بها المطاف الى إنشاء زاوية تعد بحق من كبريات الزوايا والربط بالمغرب في الفترة الحديثة، امتد إشعاعها الى البلدان المغاربية والى المشرق الاسلامي.

وكما سبق القول، يكتسب هذا البحث جديثه في كونه اعتمد على مادة مصدرية جديدة تتجلى في أربع وثائٍق استقاها المؤلف من «مستندات» زاوية أيت المسعود الصغيرة، الواقعة في داداس الاوسط وهي التي تشكل العمود الفقري لاطروحته لما تكتنزه من معلومات تاريخية غاية في الاهمية تتعلق بأصل ونسب الناصريين، وبتنقلاتهم جنوبا في ما وراء الاطلس الكبير قبل إنشاء زاويتهم بتامكروت بوادي درعة خلال القرن السابع عشر الميلادي.

وإذا كانت نفس الوثائق تطرح العديد من الصعوبات المتعلقة بلغتها البسيطة التي تميل تارة الى العامية، وتارة أخرى الى اللغة الامازيغية، كما يجعل قراءتها صعبة، وبالتالي فهمها ليس بالشيء الهين، فان الباحث تمكن بخبرته الواسعة وتعامله الطويل مع هذا النوع من الوثائق التي تزخر بها مناطق الجنوب المغربي، من التغلب عليها. وقام بتحقيقها شارحا معانيها والفاظها وبعض تعابيرها التي قد تبدو مستغلقة لاول وهلة، ولتقريبها ووضعها رهن اشارة الباحثين ممن ليس لهم إلمام بلغة الضاد، قام بترجمتها الى اللغة الفرنسية. ولتعميق تحليله لما ورد في تلك الوثائق من معلومات، أغناها بالعديد من المصادر والمراجع المتنوعة، كتب الحوليات المتعلقة بتاريخ المغرب، وكتب التراجم والمناقب والفهارس والانساب والرحلات والدراسات المختلفة حول البنى الاجتماعية والسياسية والدينية لمجتمعات الاطلس الكبير وما وراءه. وفي هذا الصدد، قام بدراسة نقدية لكل هذه المصادر والمراجع التي تفوق الخمسين، مبرزا في نفس الان. أهم الجوانب التي تهم موضوعة في هذه المصادر والمراجع كل على حدة، وهو عمل محمود يبين المجهود الكبير المبذول في صياغة كل هذه التعاليق المفيدة التي تدل، ان كان الامر يحتاج الى دليل، مدى رصانة ومتانة المنهجية المتبعة في هذا العمل المتميز.

وهكذا، ووفق ما ورد من معلومات في الوثائق المعتمدة، تمكن الباحث من رصد تاريخ اسرة الناصريين (أيت بناصر) بدءا بالحديث عن نسبهم الذي ينحدر – حسب زعمهم – من الجعفريين، وذلك إثباتا لنسبهم الشريف الذي سمح لهم في الانتشار في المكان والاستمرار في الزمان. أما عن أصلهم فيعود الى المعاقل المستوطنين بتافيلالت خلال القرن الثالث عشر للميلاد، ولما تم خراب مدينة سجلماسة ونضبت التجارة الصحراوية واتجهت الطرق والمسالك التجارية غربا، وتدهورت الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية بنفس المنطقة خلال القرن الرابع عشر الميلادي، رحل جدهم، الاعلى احمد الشباني (من قبيلة الشبانات) من تافيلالت الى وادي دادس، واستقر بتليت الذي هو من القصور المهمة سياسيا واقتصاديا بدادس الأوسط وبهذا المكان تعقب. وبعد مدة غادر حفيداه دادس: توجه أحدهما الى انتيفة بناحية دمنات، والاخر قصد درعة واستقر بقصر أغلان وبنى به زاويته. وبالنسبة للمؤلف فان هذا الاستقرار بوادي درعة يعد مرحلة مهمة في تاريخ الناصريين، لكونه وسع من آفاق مصيرهم للقيام بدور اقليمي ووطني بارز. ومرحلة اغلان هذه هي المرحلة ما قبل الاخيرة لقيام زاويتهم بتامكروت التي كانت مقرا لزاوية الانصاريين القائمة بها منذ القرن الخامس عشر الميلادي.

كان محمد بناصر الذي عاش في أواخر القرن السادس عشر وخلال النصف الاول من القرن السابع عشر للميلاد الرجل القوي الذي كان وراء قيام زاويتهم في العقد الرابع من نفس القرن والذي تنسب اليه، كان طالبا مجدا في علوم الدين واللغة والادب، انتقل من اغلان الى تامكروت لاستكمال تكوينه العلمي بها. ولما لاحظ شيخ زاوية تامكروت الذي كان في سن متقدمة، نجابته ونباهته، عينه – وعلى غير العادة- ليكون خليفة له على الزاوية بعد وفاته، طالبا منه أن يتزوج باحدى زيجاته ولما ادركت الوفاة الشيخ عمل محمد بناصر بنصيحته أخذ المرأة المعينة زوجة له، وترضية لخواطر بعض الانصاريين الذين اعتبروا أن لهم الاحقية في هذه الحظوة، ترك الزوج الجديد أمر تدبير املاك الزاوية لزوجته، في حين اهتم هو بالشؤون الدينية والروحية، وهكذا، تمكن تحمد بناصر من انشاء زاوية جديدة اصبحت تعرف بالزاوية الناصرية (زاوية ايت بناصر) وحلت محل الزاوية الانصارية القديمة بتامكروت التي حولها الى قطب علمي كبير طبعه بميسمه وطريقته في التصوف والزهد والتدريس، سرعان ما ذاع صيته مغربا ومشرقا،وقصده الطلبة من كل حدب وصوب، ومنهم من اصبح من كبار العلماء والصوفية مثل العالم الكبير والاديب المتألق والصوفي المشهور أبي على الحسن اليوسي وغيره.

هذا ولايخفى أن الزواية الناصرية ظهرت في فترة سياسية صعبة جدا، كانت نتيجة لانهيار السلطة السعدية بعد وفاة السلطان أحمد المنصور الذهبي سنة 1603، تجلى ذلك في تنازع أبنائه على الملك من جهة، وظهور كيانات سياسية أخرى كانت عيونها ترنو الى حكم. المغرب ، من جهة أخرى، ولعل أهمها الدلائيون في الاطلس المتوسط والسملاليون في سوس، ثم العلويون في تافيلالت، وبعد صراع مرير بين هذه القوى، كانت الغلبة للعلويين الذين سيطروا على الوضع، وبقضائهم نهائيا وتباعا على زاوية الدلاء سنة  1668 وزاوية اليغ سنتين بعد ذلك، اصبح المجال مفتوحا أمام تامكروت لملء الفراغ الذي تركته هاتين الزوايتين. وسرعان ما تمددت نحو الحواضر الداخلية. وحظيت الزاوية الناصرية بعطف السلاطين العلويين الذين كانت دعامة لهم في ترسيخ سلطتهم لدى بعض القبائل، وهذا التعاون المتبادل – إن صح التعبير- لم يخل من تبعات سياسية مؤداها أن الناصريين بقدر ما تعانوا مع العلويين، بقدر ما أغضبوا بعض حلفائهم كإمهواشن وإحنصالن الذين كانت علاقاتهم بالعلويين سيئة، غير أن العلويين لم يفوتوا الفرصة على أنفسهم للتدخل في الشؤون الداخلية لزاوية تامكروت، إذ كان السلاطين العلويون يتدخلون لصالح هذا العنصر ضدا على عنصر آخر، وكان ذلك سببا من أسباب إضعاف الزاوية. ومما زاد الطين بلة أن أيت عطا بدورهم كانوا يتدخلون في شؤونها. وقد أجهز الكلاوي مدعوما بالسلطات الاستعمارية الفرنسية على ما تبقى من إشعاع لهذه الزواية في غضون العقود الثلاثة الاولى من القرن العشرين.

تلك هي أهم المراحل التاريخية التي ميزت تاريخ زاوية أيت بناصر بتامكروت بوادي درعة، وقد تداخلت في ظهورها احداث جهوية ووطنية وقف عندها المؤلف رصدا وتدقيقا وتحليلا، وهذا الترابط بين ماهو جهوي ووطني، يظل الى حد كبير قاعدة ثابتة في تاريخ المغرب constante، تتكرر تقريبا خلال الازمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية. ولم يفت المؤلف – في الصدد – التأكيد على البعد الهامشي لمنطقة درعة الذي ساهم ايضا في هذا الظهور، معتبرا ان الهامش تحول الى حد ما، خلال نفس الفترة، الى المركز الذي منه بزغ الضوء الذي انار طريق المغرب، إذ منه انطلق العلويون الذي وحدوه سياسيا من جديد.

إن هذا الكتاب بريادته في موضوع الناصريين بما يتضمنه من معلومات جديدة وتحليل دقيق ورصين لها، بأسلوب واضح وسلس يجعله مفيدا وجذابا باليسير في المنحى الذي رسمه باحثون مرموقون رواد، ممن أنجزوا بحوثا أكاديمية من المستوى الرفيع، كالباحثة المقتدرة د ج جاك مونيي (الهندسة المعمارية بوادي دادس)، والاستاذ الباحث الالمعي المرحوم العربي مزين (تافيلالت خلال القرنين 17 و 18 الميلادي) كما فعل هذا الاخير من قبل، يبين الاستاذ محمد المنور بدورة من خلال هذه الدراسة الرائدة، الفضل الكبير الذي بإمكان الوثائق والمستندات المحلية والجهوية ان تقدمه في كتابة التاريخ الجهوي والوطني.

Mohamed El Manouar, Ayt Bennasr Nasiriyyin, la trajectoire d’une famille maraboutique du sud – est Marocain 15/ 20 siècles.

اقرأ أيضا

قراءة وتحليل لقرار مجلس الأمن رقم 2756 حول الصحراء المغربية

قبل أن نبدأ في التفصيل وشرح مقتضيات القرار 2756، يبقى جليا بنا أن نقف على …

تعليق واحد

  1. حسن بوزناري

    انا بصدد النبش في احدى الشخصيات المجهولة الاسم في انتيفة. ولما عرفت من خلال هذا العرض ان احد الاحفاد غادر الى انتيفة. اردت ان اسأل هل من خيط يمكن ان يوصلني الى معرفة حقيقة هذه الشخصية.؟ وشكرا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *