المشاكل الزورة!
إذا وثِقنا في البلاغيات الإعلامية والسياسية الأمريكية (المهيمن عليها من طرف الحزب الديموقراطي الحاكم)، فإن جذر الأزمة الروسية الأمريكية هو الطموحات السياسية المتطرفة للرئيس الروسي ڤلاديمير پوتين. فهذا الرجل حسب ڭونزيلا رايس (في تصريح لها مؤخرا للفوكس نيوز) يحمل “استيهامات تأويلية تاريخية” delusional rendering of history تجعله يعتقد أن الروس والأكرانيين شعب واحد ينبغي أن يتحد في إطار دولة واحدة. وحسب ميت رومني، السيناتور الجمهوري، پوتين رجل “قصير شرير يريد أن يشكل العالم على صورة جديدة تكون فيها روسيا إمبراطورية عظيمة”. بل إن الإعلام الأمريكي، في أيامنا هاته، تحول بقدرة قادر، إلى عيادة كبيرة للتحليل النفسي همها الوحيد تفسير كل ما يقع في روسيا وأكرانيا بدلالة “الإضطراب العقلي” الذي يعاني منه پوتن: فهو حسب “المحللين النفسيين” الأمريكيين رجل “غير قادر على تقدير حجم المخاطر”، وإنسان “كتوم بشكل مريب” (المثل المفضل عندهم أنه أخفى خبر توليه للرئاسة بعد أن علم بقربها عن زوجته نفسها)، وحامل لميولات قومية إمپريالية متطرفة.
المشكلة في هاته البلاغيات الپوليميكية أنها مجرد حكايات anecdotes غير موثوق في صحتها، وأن كل واحدة منها تغفل معطيات أخرى تناقضها تماما. فكون الرجل “كتوما” بشكل مريب يتناقض مع كونه أعلن خبر طلاقه من زوجته بمعيتها على التلفزة مباشرة حيث شرحا بشيء من التفصيل سبب طلاقهما. وكونه يحمل “اضطرابا عقليا” لا يتوافق مع الإنسجام الداخلي لخطابه الذي فشل الرئيس الأمريكي جو بايدن في البرهنة عليه بما هو معروف عليه من كثرة النسيان، والتلعثم في الكلام، وخلط الأسماء. فيوم أمس (الثلاثاء 1 مارس، 2022) مثلا استغرب الصحافيون الأمريكيون كيف ذكر بايدن “الإيرانيين” بدل “الأكرانيين” في معرض حديثه عن الأزمة الروسية الأكرانية. يبدو أن إعلام الحزب الديموقراطي الأمريكي أصيب بعقدة “الرئيس المختل عقليا” التي كثيرا ما وجهها الجمهوريون لبايدن، فصاروا يسقطونها سياسيا على رجل اسمه پوتن. يقول السيد المسيح: “لِمَاذَا تَنْظُرُ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ، وَأَمَّا الْخَشَبَةُ الَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلاَ تَفْطَنُ لَهَا؟” (لو 6: 41).
شاهدت مؤخرا روپورتاجا أمريكيا حول “المأكولات التي يفضلها پوتن” حيث اعترف مقدم البرنامج أن جميع المعلومات حول ما يفضله الرجل في أكله متناقضة جدا: تقول هذه المعلومات أنه يتجنب السكريات، ولكنها تشير أيضا إلى ولعه بالأيس كريم. وتؤكد على كراهته للخمور عموما، ولكنه تنقل لنا بأن زوجته دائما تغريه بالمجيء إليها وبقائه معها بتقديم شيء من النبيذ الجيد.
مشكلة الخطاب الپوليميكي (بالإضافة إلى تفاهته) هو أنه لا يستطيع، بحكم طابعه الإنفعالي، أن يخفي تناققضاته الكثيرة. لهذا لا يعتمد عليه الأذكياء كثيرا … الخطاب الپوليميكي لم يصنع للأذكياء أصلا!
المشكلة الحقيقية!
فما رأي أذكياء الولايات المتحدة الأمريكية في الأزمة الروسية الأوكرانية إذن؟
المثير في البلاغيات الإعلامية السياسية الأمريكية (المهيمن عليها من طرف الحزب الحاكم) أنها تحاول أن تجيب عن كل الأسئلة سوى أهم سؤال. وأهم سؤال هو: ما هو السبب الحقيقي للحرب بين روسيا وأكرانيا؟ هذا هو السؤال الأهم لأن الجواب عنه سيعطينا مفتاح الحل السلمي للأزمة ووقف الحرب.
في محاضرة لعالم العلاقات الدولية الأمريكي جون ميرشايمر كان قد ألقاها في جامعة شيكاڭو سنة 2015 (محاضرة عنوانها: “لماذا أوكرانيا هي خطأ الغرب؟”) أوضح الرجل أن ما ينسب لپوتن من “عدوانية” و”رغبة في التوسع” لم يكن السياسيون الأمريكيون يتحدثون عنه قبل اندلاع أزمة 22 فبراير 2014 التي أبدت فيها روسيا موقفا مناهضا للموقف السياسي الذي يدفع بأوكرانيا نحو الإتحاد الأوروپي. بين ميرشايمر أيضا بأن السبب العميق والمباشر للأزمة التي أرخت بظلالها آنذاك هو الغرب (أوروپا الغربية وأمريكا) وليس روسيا. فأوكرانيا منقسمة إثنيا وثقافيا ولغويا إلى جزء شرقي يميل إلى روسيا، وجزء غربي يميل إلى أوروپا الغربية، فاستغل الغرب هذا الوضع ليجعل من أوكرانيا وسيلة للإمتداد إلى عمق أوروپا الشرقية باتباع استراتيجية سياسية مبنية على ثلاثة دعامات. الدعامة الأولى هي ضم أوكرانيا إلى الإتحاد الأوروپي (التي يختلف حولها الأوكرانيون أنفسهم)، والدعامة الثانية هي التلويح بإمكان ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو، والثالثة هي العمل على تصدير “الديموقراطية” بمعاييرها الليبرالية الغربية إلى أوكرانيا.
المعادلة الحاسمة في الأزمة الروسية الأوكرانية منذ بداياتها سنة 2013 ليست هي مزاج پوتن وما يفضل تناوله من الأطعمة بل إصرار الغرب على نشر نفوذ حلف الناتو في أوكرانيا. وهذا هو الأمر الذي ترفضه روسيا رفضا قاطعا، تماما كما يرفض الأمريكيون أن يمتد نفوذ روسيا إلى القارة الأمريكية عبر كوبا.
من أذكياء الولايات المتحدة الأمريكية الذين قدموا نفس التفسير للأزمة الروسية الأوكرانية نوعام شومسكي. رأي شومسكي وشهادته مهما لسببين اثنين: أولهما أنه معروف بميولاته للحزب الديموقراطي الحاكم التي لا يظهرها بشكل واضح إلا في أيام الإنتخابات، وبالتالي فشهادته ستكون من باب “شهد شاهد من أهلها”. وثانيها أنه “شاهد نشط قريب” على معطيات الحرب الباردة.
لاحظ شومسكي أنه حتى في الأيام الأخيرة للحرب الباردة كانت هناك رؤيتان للمسألة الأمنية: الأولى يمثلها الزعيم السابق ميخائيل ڭورباتشوڤ الذي اقترح أن يكون هناك نظام أمني أوروـــ أسياوي يمتد من لشبونة إلى ڤلاديڤوستكوك بدون تكتلات عسكرية مث الناتو، ورؤية أخرى رافضة لهذا التوجه هي رؤية الولايات المتحدة الأمريكية. إلا أن الغريب أن الأمريكيين تعهدوا على للروس ودول أوروپية أخرى على لسان جيمس بيكر و بوش أنه إذا سمح للأمريكيين أن يحافظوا على وجودهم في ألمانيا في إطار الناتو، فإن حلف الناتو لن يتقدم أبدا نحو شرق أوروپا. لم يحترم الأمريكيون هذا التعهد وتنصلوا منه لأسباب لم يذكرها شومسكي. وهذه الأسباب (كما سأبين بعد قليل) هي أن من يقرر في سياسة امتداد الناتو اليوم هم الديموقراطيون وليس الجمهوريون المعروفون بتفضيلهم التركيز على قضايا بلدهم الداخلية.
يذكرنا شومسكي أن الإصرار الأمريكي واجهه الڤيتو الفرنسي والألماني الذي حاول أن يصد كل محاولة لمد نفوذ حلف الناتو نحو أوكرانيا ولكن بدون جدوى .. لقد دمر حلف الناتو ليبيا وتركها ضحية يفترسها التطرف والعنف والإنقسامات الداخلية. فتوجه بعد ذلك لأوكرانيا.
ليس أذكياء الأكاديميين فقط هم من يجدون في الرغبة التوسعية الأمريكية بواسطة حلف الناتو تفسيرا مباشرا للأزمة الروسية الأوكرانية بل أيضا السياسيون والإعلاميون ذوو التجربة الطويلة. من هؤلاء سفير الولايات المتحدة السابق جاك ماتلوك. فقد صرح هذا الرجل المتزن في شهادة له أمام الكونڭرس الأمريكي قائلا:
“أنا أعتبر دعوة الإدارة (الأمريكية) إلى ضم أعضاء جديدين إلى (حلف) الناتو في هذا الوقت عملا مُضَلّلاً” معتبرا هذا الإختيار أنه “أعمق خطأ استراتيجي ارتكب منذ نهايةالحرب الباردة” the most profound strategic blunder made since the end of the Cold War . كما ذكر ماتلوك نواب الكنونڭريس بشكل وواضح أن غاية الناتو كانت أصلا هي “دفع الروس خارجا، وآخضاع الألمان، وإدخال الأمريكيين” keep Russians out, keep the Germans down and keep the Americans in . من المهم جدا أن نذكر أن زمان هذه الشهادة هي سنة 1997 عندما كان بيل كلينطون رئيسا أمريكيا.
في 27 سپتمبر سنة 2018، ألقى الصحافي الكبير ڤلاديمير پوزنر الفرنسي المولد والأمريكي ــ الروسي الجنسية محاضرة في جامعة ييل الأمريكية أوضح فيها أن هناك حربا باردة حقيقية بدأت بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا منذ نهاية التسعينات أعلنت عنها الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس وليام كلينطون عندما قرر توسيع حلف الناتو بإدماج پولاندا وجمهورية التشيك وهانڭاريا. أوضح پوزنر أيضا أن هاته الحرب الباردة الثانية كانت مفاجئة لبوريس يلتسين آنذاك الذي كان خاطب الأمريكيين عندما زارهم في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1992 قائلا لهم “ها هي ذي أيدي الروس ممدودة لكم!”. وبين أيضا أن پوتن نفسه طالب بالتحاق روسيا بحلف الناتو أو على الأقل تغيير أهداف هذا الحلف الذي أقيم أصلا ضد كيان سياسي لم يعد موجودا (أي الإتحاد السوڤياتي)، لكن طلبه كان دائما يرد عليه سلبيا: لقد كان الغرب المهيمن عليه أمريكيا يريد أن تكون هناك أداة عسكرية ضاربة يتوسع بها في العالم.
لكن لماذا الحزب الديموقراطي تحديدا؟
طرح الصحافي الأمريكي تاكر كارلسن تساؤلات إنكارية في أحد برامجه المستفزة قائلا: “لماذا علي أن أكره پوتن إلى هذا الدرجة؟ هل سبق له أن اتهمني بالعنصرية؟ هل طردني من العمل لأني أختلف معه في الرأي؟” وكان كارلسن ، من طبيعة الحال يشير بأسئلته هاته، إلى ما عاناه من الصحافة المهيمن عليها ديموقراطيا كصحافي غير موال للحكومة الديموقراطية. من يعرف حالة الولايات الأمريكية اليوم، سيعلم أن معظم الجامعات ووسائل الإعلام أصبحت تحت هيمنة شبه مافيوزية لسديم من الحركات السياسية والإجتماعية تنتظم في فلك الحزب الديموقراطي: جماعات الإلجيبتي (كيو)، حركة “مسيرة العاهرات” (سلات ووك)، حركة “أنتيفا” شبه الإرهابية، حركة “بلاك لايف ماترز”، الشيوعيون، ينضاف إلى صف هؤلاء العديد من الكاثوليك، وكنيسة “الكنيسة الكاثوليكية القديمة”، وغيرهما. الذي يجمع بين عناصر هذا السديم المريب ايمانهم بنوع من “الحرية الفردية” لم تتضح بعد معالمها، وبالإنفتاح على أشكال جديدة من الأسرة (مكونة من شخصين من نفس الجنس)، وبالعداء الشديد لفكرة “القومية” وانتماء شعب من الشعوب لأرض محددة (ما يسمونه ب nationalism).
عندما تنظر في الخريطة السياسية لأوكرانيا حاليا، ستجدها موزعة بين ثلاث اتجاهات: الإتجاه الأول ينتشر في غرب أوكرانيا يتميز بميولاتيه الليبرالية، وانفتاحه غير المشروط على الغرب، وتأييده لحلف الناتو يتزعمه الرئيس الأوكراني اليهودي الديانة ڤولوديمير زيلينسكي (الذي بدأ عمله الرئاسي منذ سنة 2019). يمثل هذا التيار أيضا الرئيس السابق پيترو پوليشينكو. والإتجاه الثاني يتميز بالوسطية السياسية وميله للتركيز على القضايا الداخلية للبلد ينتشر أصحابه في وسط أوكرانيا. أما الإتجاه السياسي الثالث فينتشر في شرق أوكرانيا، يميل إلى النزعة المحافظة، يتكلم أتباعه اللغة الروسية، ويوالون روسيا، ويعبرون عن عدائهم للناتو والولايات المتحدة الأمريكية.
لذلك فإن رئاسة زيلينسكي مناسبة لأمريكا الحزب الديموقراطي على جميع المستويات: فهو أيقونة الليبراليين الموالين للغرب، وهو الذي يلح في طلبه على الإلتحاق بحلف الناتو. زيلينسكي هو بالضبط ما كانت تحلم به الحكومات الديموقراطية في أمريكا منذ أيام بيل كلينطون. وبالإضافة إلى كل ذلك وأكثر منه: استغلال الحكومة الأوكرانية الحالية لاستعمال أداه اسمها الناتو فرصة لا تعوض لفرض الهيمنة الأمريكية على المنطقة والإنتقام عسكريا وسياسيا من نزعة پوتين القومية الوطنية المحافظة.
لقد سيطرت على المجال التداولي السياسي الأمريكي نزعة شديدة التطرف، شبه مراهقة في طيشها، لا تتسامح مع كل من يتعارض مع مبادئها الليبرالية الثلاثة: “الحرية” غير الواضحة المعالم، العداء للقوميات والنزعات الوطنية، المبالغة في تأجيج الصراعات المرغوب في تأجيجها أمريكيا، مثل الصراع المفتعل بين البيض والسود.
خاتمة وتحذيرات للمغرب ودولته
الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد هي نفس أمريكا الإنفتاح والحلم بالنجاح. لقد أصبح الشغل الشاغل للمسؤولين الأمريكيين هو الهجوم على كل دولة ذات ثقافة قومية وطنية مستقلة (ألم يهاجم الرئيس الأمريكي جو بايدن بطريقة غير لائقة الرئيس الهانڭاري واصفا إياه ب”المجرم التوتاليتاري” totalitarian thug فقط لأن يفتخر بانتمائه القومي؟)
الولايات المتحدة الأمريكية تستخدم الناتو اليوم كأداة لفرض أيديولوجية الحزب الحاكم باسم نشر الديموقراطية والقيم الليبرالية، ورغبتها في توسيع نفوذ هذ الحلف هو سبب النزاع الروسي الأوكراني.
انتهاء الحرب في أوكرانيا، والعودة إلى المفاوضات من أجل منع الناتو من التغلغل، سيكون إذلالا لأمريكا وحلفائها الأوروپيين المغلوب على أمرهم. لذلك لا ينبغي التخوف كثيرا من “فقدان” الحليف الأمريكي. تستطيع أمريكا أن تنتقم من روسيا ب”العقوبات الإقتصادية” لأنها تعلم أن هذه “العقوبات” تعطي الإنطباع بتضرر الإقتصاد الروسي (“سقوط” الروبل أمام الدولار الأمريكي)، لكنها لا تستطيع أن تنتقم منها عسكريا (فهي تخاف من العدة النووية لروسيا)، كما لا تستطيع أن تنتقم بعقوبات اقتصادية حقيقية كالامتناع عن استيراد الغاز (فهذا مستحيل أوروپيا وأمريكيا). لذلك فإن نهاية النزاع سيكون باستسلام كييڤ. ولذلك أيضا فالإستعداد لإقامة علاقات منتجة مع روسيا ينبغي أن يبدأ من اليوم.
حكومة بايدن تعترف بمغربية الصحراء اضطرارا وليس اختيارا. لا ينبغي أبدا أن نثق في حكومات من هذا النوع. ينبغي دائما أن نراهن على بناء علاقات قوية مع العمق الأمريكي: أمريكا رجال الأعمال، والمثقفين، والسياسيين الأذكياء، والمؤثرين في الرأي العام، وليس في السياسيين الطائشين.
قبل أيام قليل جاء سفير أمريكي (عضو سابق في حركة بلاك لايف ماترز) إلى إحدى الجامعات المغربية يحدث الطلبة عن “دور السود في التاريخ”. مثل هذه “الأنشطة” تهدف إلى إسقاط الصراعات الداخلية التي يفتعلها الحزب الديموقراطي في حربه مع خصومه السياسيين على ثقافات أخرى لا علاقة لها بهذا الصراع. ينبغي أن نكون حذرين من هذه الأنشطة الملغومة.
أمريكا اليوم تحكمها أيديولوجية شريرة يُراد لها أن تنشر باستعمال حلف الناتو .. هذا هو السبب البنيوي المحدد للحرب الروسية الأوكرانية التي أتمنى أن تتوقف في أقرب الآجال.