منذ سنوات يثار نقاش عمومي جامح حول الإبداع بالأمازيغية في المناطق الناطقة بتشلحيت، محور ذاك النقاش ملفان، ملف الشعر وملف الأغنية.
في الجنوب الناطق بتشلحيت تحيل لفظة تامديازت حديثا، كما أمارك المصطلح المتداول منذ الأزل، على الشعر، وتحيل لفظة أمارك على الشعر مصحوبا بالأداء والموسيقى والإيقاع.
ولكي ندقق المصطلحات، سنوظف تامديازت للدلالة على الشعر، وأمارك للدلالة على الأغنية.
وللتعمق في الموعين نطرح السؤالين التاليين:
- هل كل ما يتم إنتاجه في الجنوب الناطق بتشلحيت ويضمن بين دفتي ما يسمى دواوين شعر أم أن الشعر منه براء؟
- هل الأغنية في الجنوب على الدرب الصحيح للمساهمة في انعتاق اللغة والثقافة الأمازيغيتين؟
- أي سبيل للرقي بحقلين إبداعيين من أكثر الحقول قربا لقلوب الأمازيغ أي الشعر والأغنية؟
- الشعر أو تامديازت
تجدر الإشارة إلى أن مصطلح تامديازت متداول بمناطق الجنوب الشرقي والوسط، ووظف من قبل الحركة الأمازيغية في الجنوب للإحالة على الشعر، علما أن مصطلح أمارك هو المتداول بهذه الدلالة وبدلالة الغناء، ولكن ضرورة المقام تقتضي توظيف المصطلح الأول للإحالة على الشعر منفردا، والثاني للإحالة على الأغنية.
كانت الضرورة تقتضي أن يثبت الفاعلون الحقوقيون والسياسيون والثقافيون في صفوف الحركة الأمازيغية الوجود بالكتابة، فقد كان من بين ما تجابه به المطالب الأمازيغية غياب المكتوب. وقد خلف الرعيل الأول من المناضلين الأمازيغ رصيدا مكتوبا لا بأس به يمكن تصنيف جزء كبير منه ضمن الكتابة النضالية.
إلا أن سنة 2001 ستشهد انعطافة رسمية استجابت من خلالها الدولة لعدد من المطالب الأمازيغية، فأضحى ضروريا القطع مع مرحلة ما قبل الإقرار بالمطالب، والعبور نحو مرحلة أخرى في صلبها خدمة الأمازيغية بالبحث والتأليف الجادين والجيدين.
من بين الحقول التي شهدت إسهالا في الكتابة والنشر حقل الشعر، فبينما تعرف الأصناف الأدبية الأخرى إقبالا ضعيفا، كالرواية والقصة والمسرح..، وهو ما يثبته عدد المنشورات، تضاعف عدد الدواوين خصوصا بعد 2010، وهي الظاهرة التي يمكن أن تلمس لها تفسيرا في ظن البعض أن الشعر سهل. فهل كل ما تم ويتم إنتاجه يمكن أن يسمى شعرا؟
في الجنوب الناطق بتشلحيت، خصوصا أكادير، تناسلت الإصدارات التي توسم بالدواوين خلال السنوات المذكورة، ولأن الظاهرة أضحت تشكل خطرا على واقع الإبداع الشعري بالأمازيغية، ارتفعت أصوات غيورة على هذا اللون الأدبي لقول كفى للتفاهة وللردءاة وللضحالة وتشجيع التطفل.
فقد صار بإمكان أي كان أن يرصف عشرة أسطر في غير تناسق، ودون أن تكون له دربة، ودون أن تكون له ثقافة شعرية، ودون أن يكون قد قرأ ولو نصا واحدا، أضحى بإمكانه أن يرصف الكلمات جنب بعض ويجمع بضعة ما يراه نصوصا فيجد ما خربش سبيله للنشر، بل إنه يصفق له من قبل من لا صلة لهم بالشعر.
ولتبرير ما يقومون به، وبعد أن ضاق الخناق وارتفعت صرخات النجدة، يستدعي المتشاعرون مبررات الحداثة والحرية والقطع مع التقليد، والتقليد المقصود هنا أوزان وأبحر الشعر الأمازيغي المتوارثة منذ قرون بعيدة.
ولتبرير ما يقومون به يتدخل الكثير ممن لا صلة لهم بالشعر ممن يظن نفسه متخصصا، فهل كل من يغار على الأمازيغية متخصص في فصل الشعر عن غير الشعر؟
إن الجدال حول الشعر وغير الشعر من اختصاص الضالعين في الشعر والراسخين في الشعر، المحيطين بقواعد صناعة الشعر ومقوماته، مقومات الشعر الثلاثة الصوتية والدلالية والتركيبية، إن اقتصر على الأولى فهو شعر صوتي، وإن اقتصر على الثانية فهو شعر دلالي، وإن أحاط بالثلاثة جميعا فهو الشعر الكامل حسب جون كوهين في بنية اللغة الشعرية.
إن الشعر الكامل هو القوي صوتا ودلالة وتركيبا، ومن نماذجه منجز أزايكو وألبنسير وحماد أمنتاك وأهروش…وإن غير الشعر هو كل ما أنجز من قبل مدعي الحداثة والقطع مع التقليد والقيود، فهل يمكن لامرء أن يكسر قيودا لا يعرفها كما قال الأستاذ عبد الرحمان واد الرحمة؟
إن القطع مع التقليد يقتضي أن يثبت دعاة تاترارت أنهم يتقنون ما يسمونه بالتقليد أي الأوزان، والبنية التركيبية للنص الشعري المختلفة تماما عن بنية النص المنثور، أن يبني كل منهم نصا بمقومات دلالة النص الشعري المتناغم مع وعاء الثقافة الأمازيغية، أن يسنج كل منهم على الأقل نصا في أحد أبحر الشعر الموزون بكل مقوماته، لأن كل موزون ليس شعرا كما يقر بذلك الراسخون الحقيقيون في عالم الشعر، وإن القطع مع التقليد يقتضي أن يصف الأتراريون ما يقومون به ، فأي خيط ناظم يجمع بين نصوص نفس الأتراري؟ وأي خيط ناظم يجمع بين كل منجزات الأتراريين إلى اليوم، والتي لا توجد إلا في أكادير والنواحي، بينما باقي المناطق تحافظ على صلتها بالمتوارث مع التطلع لتجويده.
من المثيرات للضحك أن بعض الأتراريين يدعون أن الشعر الموزون في الجنوب لا يقبل عليه إلا الجهلة والأميون، ويسمونه بأمارك ن إيمكساون، بمعنى أن تاترارت هي قصيدة المثقفين والنخبة، فهل أزايكو من إيمكساون، وماهي المستويات العلمية لشعراء تاترارت المثقفين؟
ومن المثير للشفقة أن عددا من الأتراريين يسرقون أعمال وجهود الآخرين من الثقافات الأخرى، يترجمونها الترجمات السمجة وينسبونها لأنفسهم جورا، وهو ما أقرت به تاترارتية على أمواج إحدى الإذاعات خلال لقاء أجري معها.
- أمارك/ الأغنية
لا يختلف وضع الأغنية/ أمارك في الجنوب الناطق بتشلحيت عن نظير الشعر المسمى تاترارت به.
لقد عاشت الأغنية بتشلحيت فترة ازدهار مع تنافس الشركات المحتضنة للمنتوج، ورغم ما يمكن أن يقال عن مساهمتها في تدني المستوى في بعض الأحيان، تبقى الشركات المستثمرة في المادة الغنائية بأكادير والنواحي المساهم الأول في ما بلغته من تطور إلى غاية 2010، ولعبت على الأقل دور الرقابة لعقدين على ما يبلغ المتلقين.
ستتوالى الضربات على القطاع، بين قرصنة وطفرة تيكنولوجية لم يحسن الناس توظيفها، وتطفل من قبل من لا صلة لهم بالميدان، لتتوقف أغلب الشركات عن العمل، ويحاصر الفنانون الحقيقيون، ويترك الفنان وجها لوجه مع الفاقة وشظف العيش، بعد أن كانت الشركات رغم ما يمكن أن يقال عن الاستغلال أيضا، ضامن بقائه وفنه لثلاثة عقود متوالية.
ولأن الفنان فنان، وأتحدث هنا عن الفنانين الحقيقيين استمر عدد منهم في الحضور في اللقاءات والمهرجانات والمناسبات، كمصدر وحيد لضمان تكاليف معيشهم اليومي، توجه أغلبهم ممن يتوفرون على بعض الإمكانات وأسباب البقاء نحو اليوتوب، وتناسلت القنوات، واضحى الجميع يتنافسون على المشاهدات واللايكات والطوندونس.
ولأن الغاية تبرر الوسيلة، أضحى الوصول إلى أكبر عدد من المشاهدات وبالتالي المكسب هو الهدف مرة أخرى عوض الجودة، وتنافس الفنانون الذين سيحدثون قنوات على اليوتوب في توظيف كل شيء وأي شيء من أجل تحقيق الربح، فتمت التضحية بالمحتوى الهادف للنص الشعري من قبل الكثيرين بحجة يرددها أغلبهم ومؤداها أن هذا ما يريده المتلقي، وهي الحجة التي وظفت قبلا من قبل شركات الإنتاج التي دمرت الأغنية الأمازيغية في عز الحاجة إلى الجودة، وضحى العديدون باللغة الأمازيغية بتوظيف الدارجة والكثير مما ليس أمازيغيا من الألفاظ في نصوصهم، مع استمرار تعريب المفردات الأمازيغية المتداولة واستبدالها بمفردات من الدارجة أو العربية الفصحى، ظنا من الفنان أنه يأتي بالجديد، وهو ما يذكرني بواقعة طريفة مع فنان أداء أبدى ملاحظة على نص من نصوصي بالقول أن ءِيكُوتِنّْ التي دلالتها يات ترى كلمة عتيقة لا يليق به أن تتواجد ضمن نص سيؤديه، والوقائع كثيرة في هذا الباب.
قبل ثلاث سنوات، سيخلق المكتب المغربي لحقوق المؤلفين الحدث، وسيشرع في تسوية المستحقات المالية للفنانين، سيسيل لعاب الجميع مرة أخرى، ستنتعش استوديوهات التسجيل، ويشتغل كتاب الكلمات والملحنون والعازفون وأصحاب الإيقاع، ستفتح أبوابها في بعض الأحيان ليلا ونهارا دون توقف، والنتيجة إسهال في الفنانين الورقيين، وفقر في الفنانين الحقيقيين.
لقد هجر الحرفيون محلاتهم، وهجر التجار متاجرهم، وحج الناس من كل فج عميق نحو استوديوهات أكادير وإنزكان والدشيرة وتيزنيت، فكل من سمع بحكاية صرف المكتب المغربي لحقوق المؤلفين تعويضات للفنانين سارع لترك مهنته على أمل أن ينعم بأجرة من المكتب تكفيه عناء الاستيقاظ يوميا للاشتغال في الورشة، وهو العمل الذي سيعوضه بمهن الفنان، فهل هو فعلا فنان؟
فانهالت الضربات على جثة الأغنية الأمازيغية من كل جانب: قرصنة وانتحال، فسعي نحو تحقيق الربح من منصات التواصل الاجتماعي، فرغبة في جني المال من عائدات المكتب المغربي لحقوق المؤلفين، فأي سبيل لإنقاذ جسد وروح الإبداع الأمازيغي؟
إن شروط الفنان وفق التصور العالمي أن يوهب المرء حبالا صوتية صالحة للغناء، بمعنى موهبة لا يمكن أن تختلق، وكفايات القياس والوزن والقدرة على السباحة على المقامات، علما أن الفنان عند الأمازيغ تتجاوز مواصفاته ذلك نحو القدرة على تأليف الكلمات والألحان والعزف على الأقل على آلة من الآلات، فضلا عن مؤهلات أخرى يكتسبها الفنان بين زملائه متدرجا من مرتبة إلى أخرى، فهل يتوافر في الفنانين المتكاثرين شيء مما ذكر؟
بلغت الأسماء المشهورة في سماء الأغنية الأمازيغية بتشلحيت تلك المرتبة بالتدرج، حيث يلتحق فرقة رايس ما ليتعلم أصول المهنة تباعا، فيتعلم أولا النقر على الآلات الإيقاعية، فالعزف على الآلات الوترية، ثم يجرب الغناء كمردد، وكل ذلك في مدرسة أغلب الفنانين الشعبيين أي الحلقة وتجوالهم، ثم الاشتغال في فرقة أحد المشاهير عازفا أو مرددا، قبل أن يستقر به الحال، إن نضجت الظروف، على تشكيل فرقته الخاصة، والانطلاق نحو الشهرة والجاه والمال. فهل فنانو الأستوديو يتوافر فيهم ولو نزر يسير مما ذكر؟
إن الرغبة في الكسب من قبل أرباب الشركات سابقا والأستوديوهات والمؤلفين حاليا، وسوء الفهم الكبير لرسالة ومهام المكتب المغربي لحقوق المؤلفين، وعطالة أستوديوهات التسجيل بعد انتكاسة العقد الأول من هذا القرن والتي أدت إلى إغلاق أغلب شركات الإنتاج أبوابها والتوجه نحو مجالات أخرى للاستثمار، وحاجة كتاب الكلمات والملحنين والعازفين وكل مهنيي القطاع إلى مورد عيش، شروط أفرزت فنانين من نوع جديد، فنانون بالاسم فقط تتم صناعتهم صنعا، ويرمون في أتون المحرقة رميا.
فكل من توافر له الآن مبلغ من المال مهما بلغت بساطته، يمكنه أن يتوجه إلى أقرب استوديو، فيقتني كلمات ولحنا، ويدخل قاعة التسجيل ولو لم يكن يتقن الأداء، فيستغرق منه كل شيء من تسجيل وميكساج مئات الدقائق، يحمل منجزه على إحدى الدعامات مشريحة التخزين كارط ميموار، أو يبعث له عبر الواتساب، ليصبح فنانا يفتح قناة على اليوتوب ويبعث بأعماله للمكتب المغربي لحقوق المؤلفين قصد الحصول على مانضة حسب ظنه، وهي الظاهرة التي نضيفها لظاهرة شهدتها الساحة الفنية طيلة العقد الأول والثاني من هذا القرن، حيث كانت أصوات معلومة لفنانين، لا يريدون الظهور لسبب من الأسباب، تلصق عليها عشرات الصور لوجوه لا يربطها بالفن إلا كل الخير، فأصبح لدينا من ايسار عشرة ومن تاجديكت العشرات…، وهي الكارثة الأخرى التي أسهمت في تدني مستوى الأغنية الأمازيغية والتي وراءها جشع شركات الإنتاج غير المسؤولة.
إن فناني الأستوديو يجدون أنفسهم في أوضاع لا يحسدون عليها كلما اضطروا للوقوف أمام الجمهور في غياب ما تتيحه التيكنولوجيا من مؤثرات صوتية، وهي الحالة التي وجد فيها عدد ممن يظنون أنفسهم فنانين محرجين عند أو امتحان في الهواء الطلق وأمام الجمهور، وإن لصوص الملكية الفكرية مدعوون للتوقف عن نسب أعال الناس لهم جورا، وإيتاء ذوي الحقوق حقوقهم، فالفنان أخلاق، ومن حسن الحلق إيتاء كل ذي حق حقه.
إن الوضع الحالي، فضلا عن تفشي السرقات الأدبية بين بعض الفنانين الذين يظنون أنفسهم كبارا، رغم كونهم صنعوا شهرة موهومة على ظهور المبدعين الحقيقيين كأحمد بيزماون وأنشاد وألبنسير وبلفقيه وعبد الغني لانصار وغيرهم كثير دون أن يوتوهم حقوقهم، ورغم ما يواصلون القيام به من إساءة في حق هذه الأغنية.
- ما الحل؟
إن هذا الوضع يدعونا جميعا، كل الغيورين الحقيقيين، إلى حماية الإبداع الحقيقي وتشجيعه، إلى وقفة تأمل، إلى مبادرات فردية وجماعية، إلى نقاش عمومي مستفيض، إلى إطار حر ونزيه وغيور على حقول الإبداع بالأمازيغية وفي صلبها الشعر والأغنية، مبادرات تخاطب المبدعين من شعراء وكتاب كلمات وملحنين وعازفين، عبر تشجيع الجودة والإتقان، ومحاربة التطفل والرداءة والضحالة، عبر تحفيز المبدعين الحقيقيين، عبر حماية حقوق المؤلفين من السرقة التي يمتهنها البعض، عبر وقف نزيف صناعة الكتاب والشعراء والفنانين صنعا، عبر الترافع من أجل خلق مؤسسات وهيئات ترعى الإبداع الحقيقي وتترافع من أجله وتحميه من كل أشكال التطفل والاستغلال أيا كانت أساليبه وأهدافه ومراميه.