أزكى التَّحايا، وبعد
أرجو أن تقتطعوا دقائق من وقتكم الثمين لقراءة هذه الرســـالة، وأن يتّسع صدركم لسماع هذا النقد الذي يقع على أثر حرصكم على جودة الإنتاج الدرامي التلفزي الأمازيغي.
بدا لي مناسبا أن أبدأ حديثي بمقطع دالّ فاهَ به غابرييل غارسيا ماركيز، في إحدى الورشات التكوينية التي أشرف على تأطيرها في مجال السيناريو لفائدة كَتَـــــــبَة سيناريو محترفين، حيث قال:
“نصفُ الحكايات التي بدأتُ بها تكويني سمعتها من أمي. إنها الآن في السابعة والثمانين، وهي لم تسمع قطّ أي كلام عن الخطاب الأدبي، ولا عن تقنيات السرد، ولا عن أي شيء من هذا القبيل، لكنها تعرف كيف تهيّئ ضربة مؤثرة، وكيف تخبئ ورقة “آس” في كمّها أفضل من الحواة الذين يخرجون مناديل وأرانب من القبعة.
أتذكر أنها كانت تروي لنا شيئا في إحدى المرات، وبعد أن أتت على ذكر شخص ليس له أي علاقة بالموضوع، واصلت حكايتها بسعادة كبيرة، دون أن تعود إلى الحديث عنه، إلى أن وصلت إلى النهاية تقريبا، باف! ثم ظهر ذلك الشخص من جديد -ولكن في لقطة قريبة الآن، إذا صحّ قول ذلك-، فسيطر الذهول على الجميع، وتساءلت أنا: أين تعلمت أمي هذه التقنية (..)؟ إن القصص بالنسبة إليَّ مثل ألعاب، وتركيبها بهذه الطريقة أو تلك هو أشبه بلعبة (ماركيز، 2008: 261).
لا شك أن نباهتكم قد تفطنت إلى ما أرمي إليه من عرض هذا المقتطف. إن كثيرا من الأعمال الدرامية التي تحظى بدعم الإنتاج المخصص لقناة الأمازيغية، لا تتوفر فيها الشروط الضرورية المؤسِّـــسة للنوع الدرامي الذي تدّعي الانتماء إليه؛ وأعني شروطا حدسية بسيطة وأساسية يكتسبها صانع الدراما دونما إدراك موازٍ، ولا يحتاج تعلُّمها إلى مدرسة ومعلم، وإحداها قانون “الزرع” الذي استضمرته والدة ماركيز، وعملت به دونما إيعاز من خبير أو أستاذ.
أتابع منذ سنوات ما تعرضُه قناتُكم من أفلام ومسلسلات، وأقف مرارا على هُزال مستفزّ على مستوى مبنى هذه الأعمال ومعمارها الدرامي، حتى أني لا أجد حرجا في القول إن بعض سيناريوهاتها مكتوبة بصيغة أشبه ما تكون بالتداعي الحر، بحيث ينطلق الكاتب من نقطة ثم يسير إلى الأمام على نحو خطي لا يدرك معها غاية ولا نهاية، إلى أن يداهمَه قيدُ الوعاء الزمني فيعمد إلى “تخريجة” لا يخفى عنها الاصطناع، أو يستدعي قوى نمطية (خارقة) لإنقاذ نفسه من الورطة سيرا على أثر أقدم المحكيات الإنسانية، أو يتابع سيره في عرض الأحداث بغير قُــــفلٍ يغلقُ تعاقُـــبَها سوى جينريك النهاية.
إنها كتابات بغير مخطط، فهل يجوز كتابة سيناريو بغير مخطط؟ بغير النخاع الشوكي للإبداع بتعبير غارسيا ماركيز؟ بغير امتلاك تصور قبلي للعلاقات وتطور المواقف، والتذبذبات، والإيقاعات، والنبرات؟ بغير امتلاك الدليل الموجه لتطور أحداث السيناريو؟ أعرفُ أن النّقيصة هذه ليست حكرا على الدراما الأمازيغية، فهي تمسّ مجمل الإنتاجات الدرامية المغربية، وكلنا يدرك أن المعضلة الكبرى للإبداع الدرامي المغربي تكمن في ضعف الكتابة السيناريستية. غير أن الأزمة في الإنتاج الأمازيغي أفدحُ وأفظعُ، والمشكلة أشملُ وأشنع. وهي ما تزال على حالها أو تزيد رغم انصرام السنوات، وتراكم الانتاجات.
يجب أن يدرك المتجاسرون الذين يتقدمون للاستفادة من دعم الإنتاج الخاص بالقناة أن السيناريو مضمار موهبة وصناعة في آن معا، وأنه مجال اشتغال عقلي هادئ وتركيز طويل، لا محيدَ فيه عن البناء والهدم، والكتابة والحذف، والتدقيق وطول المراجعة، ولا بدّ فيه من الاهتمام بأدق التفاصيل، وصيغ عرضها على شبكة السيناريو المركبة، تماما كما لو أن الأمر يتعلق بسلسلة تفاعلات كيميائية يقود أحدها إلى الآخر، بحيث لا سبيل إلى تعديل المقادير وزمانها إلا بمقدار ضئيل يكشف عن اجتهاد الكاتب وطول بحثه عن مخارج. ثم إن كتابة السيناريو ليست كتابة خطية تعاقبية تسير إلى الأمام، بل كتابة متعددة الأبعاد والأزمنة والعلاقات، يفرض فيها اللاحقُ سابقَهُ مثلما يفرض السابقُ لاحقَه، على نحو شديد الدقة والتركيب.
يجب أن يكـــفَّ هؤلاء عن كتابة الشعر. إن السيناريو ميدانُ الوعي وسبق القصد والإصرار، لا ميدان الالتماعة والإشراقة والفلتة والكهربة وربّات العبقرية والإلهام، ولا ميدان الكلام واللغو أيضا. نعم، لقد تابعت أعمالا معروضة على قناتكم تغدق مشاهدُها بالكلام وبوحِ الخواطر، وفائضِ الحوارات والدردشات العادية والشاعرية. بمعنى أن أصحابَها غير مستوعبين معنى الكتابة التي تتوق التحول إلى صورة، وغير حريصين على جعل الصورة في قلب ميثاق عقد التواصل بين المبدع والمتلقي. وباختصار أقول: “إنهم غير مدركين المسافة بين أجناس الإبداع الفني المختلفة.”
لا يجوز بأي حال تعميمُ الأحكام، وسحبُها على كل الإنتاج الدرامي الأمازيغي الذي تراكم بفضل إنتاج القناة، ثمة بالتأكيد أعمال جيدة تكشف عن تمثل واستيعاب ملائمَين لشروط الكتابة والإخراج، غير أنها قلّة قليلة، أما الإنتاج الغالب فما يزال دائرا في محيط أفلام الفيديو، لا يميزه عن إبداع الهواية والبدايات غير الإضافات الفنية التي جلبتها الأجهزة والتقنيات الحديثة المستعملة في التصوير والمونتاج وغيرها من العمليات المعروفة.
إذا كان هذا حال الجانب الفني والمعمار الدرامي لهذا الإنتاج، فماذا عن الهوية؟ هل تملك الدراما التلفزية الأمازيغية هوية تميزها عن غيرها؟ ثم هل يجب أن تملك الدراما الأمازيغية هذه الهوية؟
لا شك أنكم تشاطرونني الرأي أن المطلوب أن تتمايز هذه الدراما عن نظيرتها الناطقة بالعربية المغربية، وإلا فما الداعي إلى إنشاء قناة خاصة بالأمازيغية، طالما يمكنُ الاكتفاءُ بترجمة الإنتاجات المغربية ودبلجتها إلى الأمازيغية ليتحقق التواصل مع الجمهور الناطق بالأمازيغية.
لكن، ما المقصود بالهوية والتمايز؟ هل المقصود أن تعرضَ الأعمالُ الدرامية، بين الحين والآخر، مشاهدَ من أشكال تعبير أمازيغية (طقوسية أو فلكلورية) بطريقة الحشو التسجيلي؟ أو أن تَجريَ أحداثُها بفضاءات أمازيغية قروية؟ أم يكفي أن يكون لسان الحوار فيها أمازيغيا؟
واضحٌ أن موضوعَ الهوية أكبرُ من أن يُحاط به في رسالة أو مقال، وأعقدُ من أن يُـــلمّ به باحث فرد مهما رَحُبت مداركه ومهاراته. غير أن ذلك لن يحول دون مشاركتكم رؤيتي وفهمي لمسألة الهوية الثقافية التي تميز الأعمال الدرامية.
يجب أن أقول أولا إن لغة الحوار هي آخر ما يمكن الاعتداد به في مسألة الهوية، أما تكريس الفضاء القروي بوصفه فضاء أمازيغيا نمطيا ففيه تكريس لأمازيغية جامدة محنّـــطة لا تتطور ولا تتفاعل، وتزكية للرؤية الفولكلورية التي تجتزئُ التعبيرات الثقافية الأمازيغية وتقتطعها من محيطها الثقافي والإنساني الحي، وتلقي بها أمام عين المتفرج الباحث عن إشباع حاجته من الغرائبية.
إن الهوية الأمازيغية كيان حيّ، عابر للزمن والفضاء السكني (قرية، مدينة)، نشيط ومتجدد، وحضورها في عمل درامي تلفزي يجب أن يكون موضوع وعي عميق بهذه الروح، وإدراك للحيوية التي يجب أن تكون عليها هذه الهوية، من حيث اعتبارها رؤية للذات والوجود، وتمثلا لصفات النوع، وتوزيعا للعمل والفضاء بين الجنسين، وقيما اجتماعية تعيش في محك التحولات التي تجري اليوم في جسد المجموعات الأمازيغية المختلفة، وما تفرضه من أشكال الاستيعاب والتجاوز والتكيف، ثم بوصفها تعبيرات ثقافية يمارسها فاعلون اجتماعيون أحياء، وأكرر لفظ الأحياء تأكيدا وتعزيزا، منخرطون في معترك الحياة، يملكون مشاعرَ ومطامحَ وأوهاما، تجري بينهم صراعات طبيعية وفقا لقاعدة المصلحة والرغبة في إثبات الذات.
يجب على منتج العمل الدرامي الأمازيغي أن يلتقط نبض الدينامية التي تجري في قلب هذه المجموعات، دون أن يسقط في خطإ الماضوية التي تقدّس السّلف وتنظر إلى التاريخ بفائض الحنين، ولا أن يبالغ في جلد الذات وانتقاد القيم القديمة والمستجدة، كما يفعل أنصار الفن الرّسالي. كما يتوجب عليه ألا يجعل من الخصوصية الثقافية الأمازيغية هاجسا يسعى إلى إبرازه كما لو كانت عنصرا مستقلا بذاته، مُستـــــترا يحتاج إلى كشف، لأن الخصوصية موضوع الحديث ليست عناصر مفصولة عن الواقع المعيش وتفاصيل الحياة اليومية، فهي من قبيل الأنساق الثقافية الحاضرة بالقوة في كل حركات المرء وسكناته، لذا يجب أن تندرج في تفاصيل القصة والمشاهد، وأن “تُمارَسَ” بغير سبق إرادة أو تصنع، في اندغام مع نسيج الأحداث المتعاقبة، لا أن تأتي في شكل شذرات ملقاة هنا وهناك على سبيل الزينة والزخرفة.
هل تكشفُ الأعمال الدرامية الأمازيغية عن تمثّـــلٍ للهوية على نحو ما أعرضه وأتصوره؟ نعم، ثمة أعمالٌ تُـــــــستشَفُّ بصمتُها الثقافية على نحو لافت لا تخطئه عين المتتبع اللبيب، لكن كثيرا منها فاقدة لأي خصوصية أو بصمة، ليس فيها من الأمازيغية سوى الحوار الذي يجري بين الشخصيات، وهو حوارٌ كثيرا ما يكون مكتوبا بغير الأمازيغية في أصله، لذلك يأتي نمطيا جافا موغلا في الوظيفية، لا يشتمل حتى على خصوصية الصوت الفردية والثقافية التي ينبغي أن تميز كلام كل شخصية على حدة.
ما تزال بالبال ملاحظاتٌ أخرى عديدةٌ أود مقاسمتَــــكم إياها، تخصّ أعمالا بعينها، لكني أتفهم التزاماتكم المهنية العديدة، لذا أفضل أن أفــــردَ لها مقالاتٍ خاصّة، أعدكم أن أنشرها تباعا، إذا آنَـــسْتُ منكم ما يوحي بتقدير النقد وتحفيز كُـــــتّابه.
ختاما، أرجو أن يكون قولي خفيفا شفيفا، وأن تجدوا سبلا إبداعية سريعة إلى تطوير المستوى الفني للإنتاج الدرامي الأمازيغي، بما يليق بهذه الثقـــافة الحية التي طال مقامُها في أصقاع الهامش، وما يناسبُ نباهتكم وسعة خبرتكم وإلمامكم بخبايا ميدان الإعلام السمعي البصري.
وتقبلوا مني فائق آيات التقدير، وأزكى التّــــــحايا والأماني، والسلام.