إلى أي حد مكن ترسيم الأمازيغية من تغيير عقليات صناع السياسات العامة والعمومية  بالمغرب؟

منذ خطاب أجدير في أكتوبر 2001 والى حدود يونيو 2019، ظلت الحكومات المتعاقبة على المغرب تتعامل مع الأمازيغية بنوع من الإقصاء والتهميش المتعمد وفي أحسن الحالات باللامبالاة. فإذا كان الخطاب الملكي ل 30 يوليوز 2001 بمناسبة عيد العرش وأيضا خطاب 17 أكتوبر من نفس السنة وما رافقه من إصدار ظهير المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، وقبل ذلك ما طرحه الملك من مفهوم جديد للسلطة في خطاب أكتوبر 1999، فان عقليات النخب الحزبية المغربية ظلت متشبثة بمخلفات ما قبل العهد الجديد ولم تستطع استيعاب المفاهيم الجديدة المتعلقة بالتنوع الثقافي والتعدد اللغوي وفي الجوهر لم تستطع استيعاب مفاهيم المواطنة التي بدونها تبقى شعارات الدمقرطة خاوية المضمون. فأهم ما ميز السياسات العامة والعمومية التي تم صنعها خلال هذه الفترة هو عدم أخذها في الحسبان للتوجهات الكبرى للمشروع المجتمعي الذي رسمه الملك لمغرب المستقبل، وفي صلبه إعادة الاعتبار للمكون اللغوي والثقافي الأمازيغي.

فلا السياسة التعليمية استطاعت إدماج الأمازيغية في المنظومة التربوية وعلى مستوى التعليم العالي إدماجا كليا وفق مناهج دراسية جديدة مكرسة لهذا التوجه الجديد، ولا السياسة الثقافية استطاعت نقل التعامل مع الثقافة الأمازيغية من المستوى الفلكلوري المعهود إلى المستوى التنموي الجديد، ولا  السياسة الاعلامية استطاعت إنتاج منظومة مكرسة للتنوع الثقافي والتعدد اللغوي، ولعل إخراج القناة الثامنة تم بمشقة الأنفس ووفق دفتر تحملات لا يعكس طموحات الفاعلين في الحقل الأمازيغي، ولا السياسة الترابية الجديدة أو ما سمي بالجهوية المتقدمة استطاعت تكريس التنوع اللغوي والثقافي.

وكان من المرتقب أن تتغير التوجهات الحكومية بعد دستور 2011 الذي أعاد الاعتبار لكل المكونات الثقافية واللغوية الوطنية، وذلك عبر إنتاج سياسات متناسقة مع النص الدستوري، لكن مع الأسف حكومة عبدالاله بن كيران الأولى والثانية لم تستطع تجاوز منطق ما قبل 2011 إلا على مستوى الخطاب، ذلك أن البرنامج الحكومي الذي ألقاه رئيس الحكومة أمام ممثلي الأمة حمل الكثير من النقط الايجابية المنسجمة مع الدستور من قبيل إخراج جميع القوانين التنظيمية المنصوص عليها دستوريا خلال الولاية الأولى من حكومة بنكيران وفقا لمنطوق المادة 86 من الدستور. لكن على المستوى العملي، ظلت العقليات المحافظة من داخل الحكومة تعاكس الدستور وفي أحسن الحالات تتماطل في الالتزام بما صرح به رئيس الحكومة. فعدم القدرة على إخراج القانونين التنظيمين المتعلقين بكل من تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية وبالمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية المنصوص عليهما في الفصل 5 من الدستور، إن دل على شيء إنما يدل على عدم قدرة النخب الحاكمة على تغيير تمثلاتها السلبية تجاه المكونات اللغوية والثقافية المغربية وعلى رأسها الأمازيغية. والأخطر من ذلك أن كل من كان يطالب بتفعيل الدستور بخصوص الأمازيغية يواجه بمبرر عدم إمكانية ذلك مادام القانون التنظيمي المتعلق بها لم يصدر بعد.

وعموما يبدو أن الأمازيغية كانت آخر شيء يفكر فيها بن كيران خلال رئاسته الأولى للحكومة (2012-2016) إذ لم يفتح المجال لتلقي اقتراحات فعاليات المجتمع المدني بخصوص القانون التنظيمي للأمازيغية الا قبيل نهاية الفترة الحكومية، بل الأخطر من ذلك كان الحزب الذي ينتمي اليه قد غرس عدد من الجمعيات واستغلها في تقديم اقتراحات تنسجم ليس مع الدستور ولكن مع التوجهات الإيديولوجية للحزب وتياره الدعوي.

واليوم وبعد مخاض عسير تمت المصادقة البرلمانية على نصي القانونين التنظيميين السالفي الذكر، وبعدما تم نشر القانون التنظيمي المتعلق بمراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية بالجريدة الرسمية، وفي انتظار اكتساب القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية قوته القانونية وفقا لما هو منصوص عليه في الدستور فيما يتعلق بالقوانين التنظيمية، نتساءل مسبقا هل عكس هذين القانونين التنظيميين إرادة المشرع الدستوري؟ أم أن هذه الإرادة تم توجيهها وفقا لتمثلات صناع القرار؟ ومهما كان الأمر فهل سيتمكن صناع السياسات العامة والعمومية بالمغرب من إنتاج سياسات منسجمة مع المنطلقات القانونية المنصوص عليها في هذين القانونين التنظيميين؟ أم أن عقلية الوحدة والانصهار والذوبان ستهيمن في توجيه مسار السياسات الوجهة المعاكسة لإرادة المشرع الدستوري؟ لكن السؤال الأهم الذي يجب أن ننطلق منه هو إلى أي حد استطاع خطاب أجدير تغيير تمثلات النخب السياسية من الأمازيغية؟

أولا: إلى أي حد استطاع خطاب أجدير تغيير تمثلات النخب السياسية بخصوص الأمازيغية؟

يعتبر خطاب الملك محمد السادس الذي ألقاه في منطقة أجدير في 17 أكتوبر 2001 خطابا ثوريا تاريخيا بما للكلمة من معنى، انه محطة مفصلية بين فترة سابقة تميزت بنهج سياسات ﺇقصائية للمكون اللغوي والثقافي والهوياتي الأمازيغي، وفترة لاحقة يتوخى منها الاعتراف الرسمي بالمكون الأمازيغي وإعادة الاعتبار له عبر إدماجه في كل المشاريع الكبرى للدولة. فالخطاب الملكي إذن كان رسالة موجهة لجميع المغاربة بدون استثناء، لكن المستهدفون الأساسيون من هذا الخطاب هم النخب السياسية الكفيلة بترجمة الخطاب الملكي الى برامج عمل. لكن ما يؤاخذ على جل هذه النخب مواقفها المعادية للأمازيغية خصوصا وللتعدد اللغوي والتنوع الثقافي بصفة عامة. وإذا كانت جميع التصريحات الصحافية لزعماء الأحزاب والنقابات المغربية قد أشادت بالخطاب الملكي، فانه عمليا ظلت عدد من هذه النخب متشبثة بتمثلاتها السابقة عن خطاب أجدير.

هذه المواقف المعادية للأمازيغية من طرف النخب السياسية المغربية المتشبعة بالإيديولوجيات العرقية والدينية الشرقانية حتى النخاع، تم التعبير عنها في عدة مناسبات، إما عبر إطلاق تصريحات صحافية هنا وهناك، أو عبر عرقلة برمجة وتنفيذ البرامج الكفيلة بإدماج الأمازيغية في مجالات الحياة العامة، أي وضع (لعصا فالرويضة) على حد تعبير المغاربة. وهكذا فعلى مستوى التصريحات، فقد استغلت هذه النخب القولة الملكية (الأمازيغية ملك لجميع المغاربة) استغلالا سيئا مناقضا للتوجهات الملكية، فقد ركبوا على هذه القولة التي وردت في خطاب العرش ل30 يوليوز 2001 وكذا في خطاب أجدير ل 17 أكتوبر من نفس السنة، للحيلولة دون تحقيق ما يصبو إليه الملك ومعه النخب الأمازيغية وكذا النخب الأخرى المتشبعة بالديمقراطية، من إعادة الاعتبار للأمازيغية لغة وثقافة وهوية. وهكذا فعلى المستوى اللغوي تم إلقاء تصريحات معادية لحرف تيفيناغ المعتمد رسميا لكتابة اللغة الأمازيغية باعتباره الحرف الأصلي ذي الحمولة التاريخية والرمزية والهوياتية للشعب الأمازيغي في ربوع بلاد تامزغا أي شمال أفريقيا. وهكذا وجدنا مثلا بنكيران يسخر من حرف تيفيناغ ويصفه بالحرف د (الشينوا)، ومثل هذا الموقف المعادي لحرف تيفيناغ الصادر عن بنكيران يعكس في العمق ما يكنه التيار الإيديولوجي الذي ينتمي إليه بنكيران من عداء للأمازيغية، ولكنه في نفس الوقت يعتمد تيفيناغ في كتابة اسم الحزب وفي الدعاية الانتخابية.

كما برزت على السطح عدد من النخب السياسية الرافضة لدسترة الأمازيغية، وفي أحسن الأحوال دسترتها كلغة وطنية،  على سبيل المثال مواقف عباس الفاسي الأمين العام السابق لحزب الاستقلال، وزعماء حزب الطليعة وغيرهم. وعموما فان مختلف تصريحات بعض النخب السياسية المغربية أبرزت بوضوح بأنها نخب ذات عقلية متجاوزة، تجاوزها خطاب أجذير بسنوات ضوئية، إذ أنها لم تستوعب ما حصل ولا بذلت مجهودا لتغيير تمثلاتها المستقاة من مرجعية الظهير الفرنسي المسمى ظلما وعدوانا (ظهيرا بربريا). بل أكثر من ذلك تم تأسيس جمعيات ظاهرها الدفاع عن اللغة العربية وباطنها محاربة الأمازيغية.

أما على مستوى عرقلة البرامج الكفيلة بإدماج الأمازيغية في مجالات الحياة العامة المنصوص عليها في الظهير الملكي المحدث للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، وبصفة خاصة في مجالي التعليم والإعلام. فنشير في البدء إلى أن أي مشروع يحتاج إلى موارد مالية ومادية وبشرية لتنزيله، لذلك فان قانون المالية السنوي يكون بمثابة مرآة يتضح من خلاله توجهات السياسة العامة للدولة وكذا السياسات العمومية والقطاعية. وعلى هذا المستوى يتضح موقف النخب السياسية المشاركة في تدبير الحياة العامة من الأمازيغية. فلناخذ كمثال قطاع الإعلام، فالكل لازال يتذكر كيف كانت عدد من النخب السياسية سواء على مستوى الحكومة أو على مستوى البرلمان بغرفتيه ترفض تخصيص ميزانية لإنشاء قناة تلفزية أمازيغية، إذ لم تخرج هذه القناة إلى الوجود إلا بعد تدخل السلطات العليا بالبلاد وبميزانية محدودة. وعلى هذا المستوى كذلك، وحتى وان كانت دفاتر تحملات القطب العمومي والخاصة قد نصت على تخصيص برامج مهمة للأمازيغية، الا أن لا القنوات التلفزية ولا الإذاعية احترمت وتحترم دفاتر تحملاتها، بتعبير آخر هناك عقليات متحكمة في القطاع تعرقل بناء المغرب الجديد المتنوع ثقافيا والمتعدد لسنيا.

أما على مستوى التربية والتعليم، فإذا كان وزير التربية الوطنية والشباب السيد لحبيب المالكي قد سارع منذ 2003 إلى إخراج مذكرة متعلقة بمسارات إدماج اللغة الأمازيغية في التعليم، حيث وضع سنة 2008/2009 بمثابة السنة الدراسية التي ستكون فيه الأمازيغية قد عممت على جميع مستويات التعليم (الابتدائي/الاعدادي/التأهيلي). لكن هذا المبتغى بدا ومن أول وهلة أنه يستحيل تحقيقه ما دامت الوزارة الوصية ومعها الحكومة لم تخصص موارد مالية لتكوين الموارد البشرية الكفيلة بتدريس الأمازيغية. بل أكثر من ذلك ظلت متشبثة بمنطوق الميثاق الوطني للتربية والتكوين بخصوص الأمازيغية (لهجات للاستئناس)، وظلت الاتفاقية الإطار التي وقعتها مع المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية حبرا على ورق. ولعل عدد المناصب المخصصة سنويا لأساتذة اللغة الأمازيغية والتي لم تتجاوز واحد في المائة من مجموع توظيفات وزارة التربية الوطنية لخير دليل على ما يكنه المسؤولون من نظر استصغارية للأمازيغية. أما على مستوى العقليات المتحكمة في وزارة الداخلية، فنسجل بأنه رغم التقدم الذي تحقق على مستوى الاعتراف بالأسماء الأمازيغية على المستوى القانوني، فانه عمليا لازالت بعض العقليات البائدة من ضباط الحالة المدنية ترفض تسجيل المواليد الجدد ممن يختار لهم أهلهم أسماء أمازيغية، لكن يبدو عمليا أن هذه العقليات بدأت تنقرض تدريجيا.

وعموما فقد سجلت المرحلة الممتدة من خطاب أجدير الى حدود 2011 تواجد عقليات مقاومة للتوجهات الجديدة للمغرب الجديد كما أرسى أسسه الملك محمد السادس في خطاب العرش ليوليوز 2001. عقليات حاولت بمختلف الوسائل الحيلولة دون تحقيق مغرب المساواة، مغرب يتسع لجميع أبنائه، لأن حاملي هذه العقليات ألفوا ومنذ مدة ليست بالقصيرة الاغتناء من الإيديولوجيات الشرقانية، كما كسبوا مع مرور الوقت مكاسب مادية ورمزية صعب عليهم التفريط في جزء منها. وهذه العقليات ستبرز مرة أخرى وبقوة خلال فترة إعداد دستور 2011. ذلك أنها – ولحسن الحظ- وجدت نفسها ملزمة بالتوجهات الكبرى التي تضمنها الخطاب الملكي ل 9 مارس 2011، والتي أكدت على ضرورة دسترة الأمازيغية. فهذه العقليات وحتى وان قبلت عن مضض دسترة الأمازيغية، فقد ناضلت وبقوة كي تعتبر كلغة وطنية فقط، ولما قرر المشرع الدستوري اعتماد صيغة المساواة اللغوية بإشارته إلى أن اللغتين العربية والأمازيغية لغتين رسميتين، فان هذه العقليات لم يهدأ لها بال حتى فصلت بين اللغتين بدون أن تدرك مخاطر ذلك على مستقبل المغرب، ومارست مرة أخرى حيلة قانونية للتماطل وهي حيلة ربط رسمية الأمازيغية بالقانون التنظيمي. واستمرت هذه العقليات المدبرة للشأن العام في تماطلها البادي للعيان، حيث تم إصدار كل القوانين التنظيمية في أوانها وفقا لمنطوق الفصل 86 من الدستور، إلا القانونين التنظيميين المتعلق كل واحد منهما: بالمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية والقانون التنظيمي المتعلق بمراحل التفعيل الرسمي للأمازيغية. فهذا القانون التنظيمي الأخير لم ير النور الا في نهاية شهر شتنبر 2019، أما الأول فلا زال موضع تجاذبات إيديولوجية بين هذه العقليات التأحيدية والأطراف الأخرى المتمسكة بمنطوق الدستور.

(يتبع)

د.عبدالله اكلا

باحث في الفعل العمومي الوطني والترابي.

اقرأ أيضا

جزائريون ومغاربة يتبرؤون من مخططات النظام الجزائري ويُشيدون بدور المغرب في تحرير الجزائر

أثنى متداخلون مغاربة وجزائريين على دور المقاومة المغربية في احتضان الثورة الجزائرية ودعمها بالمال والسلاح، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *