إلى أي حد مكن ترسيم الأمازيغية من تغيير عقليات صناع السياسات العامة والعمومية  بالمغرب؟ (تابع)

ثانيا: الأمازيغية المرسمة وصنع السياسات العمومية والعامة من قبل حكومة سعد الدين العثماني:

مؤخرا قدم وزير التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي السيد أمزازي تهنئته للمغاربة بمناسبة حلول السنة الأمازيغية الجديدة 2970، باللغة الأمازيغية وبحرفها تيفيناغ، هذا الحدث لقي ترحيبا كبيرا من قبل عدة مواطنين وتناقلوه على مواقع تواصلهم الاجتماعي، ونحن نثمن عاليا هذه الالتفاتة الجريئة التي لها أكثر من رمزية. مع العلم أنه قبل هذا الحدث، كان رئيس الحكومة الحالي السيد سعد الدين العثماني قد افتتح برنامجه الحكومي بالتحية بالأمازيغية كذلك، كما أجرى حوارات صحفية بنفس اللغة، وقد استشفينا من هذه المبادرات إرادة حكومية للتعامل بعقلية ايجابية مع مختلف المكونات اللغوية والثقافية المغربية وعلى رأسها اللغة والثقافة الأمازيغيتين.

وبالمقابل سجلنا  تجرأ أحد أعضاء مجلس النواب من حزب الحركة الشعبية،   على مقاطعة زميل له ألقى كلمته باللغة الأمازيغية بدعوى عدم فهمه لكلامه، فهو لا يفهم «الشلحة» على حد تعبير العضو المقاطع، وكان رد رئيس مجلس النواب السيد الحبيب المالكي، هو أن النائب البرلماني سيترجم ما قاله بالأمازيغية إلى العربية. هذه السلوكات تعكس نوعا من التخبط في التعامل مع اللغة الأمازيغية بمزاجية كبيرة، في الوقت الذي كنا ننتظر مباشرة بعد صدور دستور 2011 أن يقدم البرلمان بمجلسيه على إدراج اللغة الأمازيغية كلغة للتواصل الكتابي وأيضا كلغة لطرح الأسئلة الشفوية وللمناقشة على مستوى اللجان، في قانونيهما التنظيميين وأيضا في نظاميهما الداخليين، لكن لا شيء حدث، فحليمة ظلت على عادتها القديمة على حد قول العرب، وبدا أن من يفترض فيهم أن يكونوا ممثلين للأمة بعيدين كل البعد عن الانخراط الايجابي في بناء المغرب الجديد بعقلية جديدة.

هذا الأمر له ارتباط كبير بوضع الأحزاب «السياسية» المغربية التي أصبحت تعاني من أعطاب كثيرة تجعلها غير قادرة وربما غير راغبة في استقطاب النخب المنشبعة بالقيم الديمقراطية وذات الكفاءات العالية. وبالمقابل الدولة بمعية هذه الأحزاب حرمت، ومنذ صدور قانون الأحزاب سنة 2007، هذه النخب من تأسيس أحزاب سياسية تعبر عن توجهاتها في إطار الليبرالية السياسية، وتم تكريس هذا الحرمان دستوريا في دستور 2011، وهو أمر غير منطقي ولا ينسجم مع أحد المبادئ المكرسة دستوريا والمتمثل في مبدأ الخيار الديمقراطي، فالديمقراطية تفرض ترك المجال مفتوحا للمواطنين والمواطنات لتأسيس أحزاب تعبر عن توجهاتهم، وصناديق الاقتراع هي الحكم، أما أن تمنع تأسيس الأحزاب بقوانين، يعني أنك تقتل التنافسية السياسية الكفيلة وحدها بانخراط الشباب في الحياة السياسية من جهة، وإجبار الأحزاب السياسية على تجويد أدائها وتنافسيتها في استقطاب النخب من جهة ثانية، أما أن توصد الأبواب على تأسيس الأحزاب، فأنت تقتل أحد مرتكزات الديمقراطية كما نظر لها كبار الفقهاء، ونشير في هذا الصدد إلى أن عدد كبير من الدول الديمقراطية تتيح المجال لمواطنيها لتأسيس الأحزاب السياسية، خذ مثلا جنوب أفريقيا، إذ يمكن لشخصين فقط أن يؤسسوا حزبا، فدستور جنوب أفريقيا لسنة 1996 ينص في مادته 19 على ما يلي: «لكل مواطن الحق في أن يختار بحرية توجهاته السياسية بما في ذلك: أ- الحق في تأسيس حزب سياسي، ب- المشاركة في أنشطة حزب سياسي أو إلحاق أعضاء به، ج- الدعاية لحزب سياسي أو قضية»

بل حتى الدستور الفرنسي الذي صغنا دساتيرنا السابقة على  على منواله ينص في مادته الرابعة على حرية تأسيس الأحزاب ويحدد مهامها بالعبارة التالية «تشارك الأحزاب والمجموعات السياسية في ممارسة حق الاقتراع. ويتم تشكيلها وتمارس أنشطتها بكل حرية. ويتعين عليها احترام مبادئ السيادة الوطنية والديمقراطية. (…) تكفل القوانين حق التعبير عن الآراء المختلفة والمشاركة العادلة للأحزاب والجماعات السياسية في الحياة الديمقراطية للأمة».

نقول هذا الكلام لأن ما تعرض له  الحزب الديمقراطي الأمازيغي المغربي  من حل وإبطال، يعكس في جوهره مدى الخوف الذي يستشعر به صناع القرارات السياسية بالمغرب من الديمقراطية، ويطرح في نفس الوقت إشكالات عديدة لا يسع المجال للتفصيل فيها هنا، لعل من أبرز هذه الإشكالات النظر إلى الأمازيغية بمنظور عرقي وهذا يعاكس تماما منظورالحركة الأمازيغية للأمازيغية كثقافة وهوية ولغة، وحتى وثائق الحزب الديمقراطي الأمازيغي المغربي (كما اطلعنا عليها في الكتاب الذي ألفه عبدالله بوشطارت حول الامازيغية والحزب) لا تتضمن البتة ما يوحي بما ذهبت إليه وزارة الداخلية المغربية، ويتعارض كذلك مع منطوق الفصل الخامس من الدستور الذي يعتبر الأمازيغية «ملك لجميع المغاربة بدون استثناء». الإشكال الثاني يتعلق بالسماح لبعض الأحزاب المؤسسة إيديولوجيا على أساس الإسلام أو العروبة (حتى وان كانت قوانينها الأساسية لا تعبر عن ذلك بشكل واضح، فلا يستطيع أحد أن يفند كون حزب العدالة والتنمية حزب تأسس على أساس ديني، وحزب الطليعة تأسس على أساس إيديولوجيا العروبة) في حين منع أحزاب أخرى من الوجود، في الوقت الذي نجد في دول عريقة في الديمقراطية أحزاب دينية ولا يطرح الأمر أي مشكل (ألمانيا مثلا) مادام الكل متشبع بالديمقراطية، هذه إشكالات توضح بجلاء رغبة نخبنا السياسية في التحكم في اللعبة عبر اعتماد الديمقراطية على المقاس. نعم قد تكون تخوفات الدولة مشروعة ولها ما يبررها في المحطات التاريخية السابقة، أما بعد ما تمكن المغرب من تحقيق استقرار سياسي متين بفعل حنكة جلالة الملك محمد السادس وبعد نظره، فانه لم يعد هناك ما يخيف من فتح المجال أمام المواطنين والمواطنات من تأسيس أحزاب تعبر عن مصالحهم، مادامت ثوابت الأمة واضحة فقط يجب الالتزام بها، فلننظر مثلا إلى جارتنا مملكة اسبانيا حيث تواجد حزب جمهوري في ظل حكم ملكي، ورغم ذلك فهذا لا يطرح أي إشكال في استقرار النظام السياسي.

إذن هذا الوضع الحزبي لا يمكن إلا أن يملأ المؤسسات بنخب هم جلها هو الحفاظ على مصالحها ومكاسبها، وتحسين أوضاعها الاجتماعية. وقد رأينا ذاك الفيديو  المسرب لنواب الأمة وهم يحملون في أيديهم أكياسا من الحلويات، بل احدهم تجرأ على اخذ براريد الشاي من البرلمان، أثناء افتتاح الدورة التشريعية من قبل جلالة الملك، وهي صورة معبرة جدا عن وضع النخب البرلمانية،  صورة تكشف بوضوح عمن يساهم في التشريع  وفقا لقواعد اللعبة التشريعية في البرلمان المغربي، نعم إنها نخب لا تشبه النخب البرلمانية التي ألفها البرلمان المغربي منذ تأسيسه، ولكن الشيء الوحيد الذي لم يتغير فيها هو مواقفها المعادية للأمازيغية، ففي السابق كانت بعض تلك النخب تعبر عن هذه المواقف بشكل صريح أما اليوم فيتم التعبير عن ذلك بمواقف مستبطنة، وواحد من هذه النخب هو الذي منع زميله من إلقاء سؤاله بالأمازيغية.

لكن الموضوعية العلمية تقتضي منا أيضا أن نعترف ببعض التغيرات التي همت مواقف بعض الأحزاب المغربية من الأمازيغية، فعلى سبيل المثال حزب الاستقلال الذي يصفه  مناضلي الحركة الأمازيغية بكونه الحزب الأشد عداء للأمازيغية، كان أول حزب في المغرب يبادر إلى الاحتفال بالسنة الأمازيغية ويطالب الحكومة بجعل فاتح السنة الأمازيغية يوم عطلة مؤدى عنها، ولا يجب أن ننكر مواقف حزب التقدم والاشتراكية الايجابية من الأمازيغية منذ مدة ليست بالقصيرة، وأيضا مواقف حزب الأصالة والمعاصرة. إلا أن الحزب الذي يبدو حاليا مناصرا للأمازيغية هو حزب التجمع الوطني للأحرار، فبفضل مواقفه الجريئة تم خلخلة أوراق من يستبطنون العداء للامازيغية سواء من أحزاب الأغلبية أو المعارضة.

إذن أمام نواب الأمة هؤلاء المنتمون لهذه الأحزاب، سيلقي رئيس الكومة السيد سعد الدين العثماني برنامج حكومته في شهر أبريل 2017 تطبيقا لأحكام الفصل 88 من الدستور والمتعلق بالولاية التشريعية 2016-2021، هذا البرنامج نجده يشير في الهدف الأول (صون كرامة وحقوق المواطن وتعزيز الحريات والمساواة) من محوره الأول المتعلق بدعم الخيار الديمقراطي ودولة الحق والقانون وترسيخ الجهوية المتقدمة على أن الحكومة ستعمل على «- تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية للقيام بوظيفتها، بصفتها لغة رسمية عبر اعتماد القانون التنظيمي المتعلق بها والإسراع في تنزيله وفق منهجية تشاركية مع مختلف الفاعلين في مجال النهوض باللغة والثقافة الأمازيغيتين، وتعزيز المكتسبات في مجال النهوض بالأمازيغية في التعليم والإعلام.- اعتماد القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، بصفته مؤسسة دستورية وطنية مرجعية في مجال السياسات اللغوية والثقافية، مع الحرص على ضمان التكامل والانسجام مع مجموع المؤسسات والهيئات المعنية بالشأن اللغوي الوطني».

وإذا كان البرنامج الحكومي قد أورد نقط أخرى، فإننا سنتوقف عند هاتين التقطتين، فالأولى تتعلق بتفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية، حيث أشار رئيس الحكومة إلى الإسراع في تنزيل القانون التنظيمي المتعلق بهذا التفعيل، لكنه لم يحدد الغلاف الزمني لهذا الإسراع، مع العلم أن البرمجة الزمنية للحياة التشريعية مهمة للغاية، وهكذا مرت سنة 2017 دون جدوى تبعتها 2018 ولا حديث يذكر، وكادت 2019 تنتهي بدون أي جديد، لولى ما طرحه تصويت مجلس المستشارين على تعديل المادة 57 من قانون بنك المغرب، وذلك بالتنصيص فيها على استعمال الأمازيغية بحرفها تيفيناغ إلى جانب العربية في الأوراق النقدية، الشيء الذي لم يرتضه جل أحزاب الأغلبية ومعها حزب الاستقلال، بدعوى عدم صدور القانون التنظيمي المتعلق بمراحل تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية. وهنا سيبرز الدور المهم الذي لعبه حزب التجمع الوطني للأحرار عبر مساندته لتعديل مجلس المستشارين، الأمر الذي تطلب إرجاع مشروع القانون البنكي إلى اللجنة  المختصة بمجلس النواب لإعادة مناقشته من جديد، فما كان أمام الحكومة الا أن تخرج مرغمة القانون التنظيمي رقم 16-26 المتعلق بتحديد مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية وإدماجها في مجال التعليم وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية، والذي سيخضع للمسطرة الدستورية المتعلقة بالمصادقة على القوانين التنظيمية، قبل نشره بالجريدة الرسمية عدد 6816 بتاريخ 26 شتنبر 2019.

إذن كما يتضح مما ذكرناه أعلاه فان انتقال اللغة والثقافة الأمازيغيتين من الهامش إلى المركز، خلق ديناميات جديدة على مستوى صراع النخب في فرض أجنداتها اللغوية والثقافية، والتي في غالب الأحيان تنسى أو تتناسى منطوق الفصل الخامس من الدستور، بفعل مخلفات الماضي الممتدة الى الحاضر،  حيث تم إنتاج عقول متشبعة إما بالثقافة الشرقانية أو الغربانية، ولعل التوجهات المكرسة في الهندسة اللغوية المتعلقة بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، كما يتضح من القانون الاطار رقم 17-51، تبرز بشكل واضح هذه التجاذبات.

ومهما كان  الأمر، فان إقدام رئيس الحكومة على إصدار المنشور رقم 2018/16 بتاريخ 30 أكتوبر 2018، الموجه للوزراء وكتاب الدولة والمندوبين السامين والمندوب العام، والمتعلق بإلزامية استعمال اللغة العربية أو اللغة الأمازيغية وذلك قبل المصادقة على القانون التنظيمي للأمازيغية، والمنشور رقم 2019/19 بتاريخ 10 دجنبر 2019 الموجه للوزراء والمتعلق بتفعيل مقتضيات القانون التنظيمي رقم 26.16 المتعلق بتحديد مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية وكيفيات إدماجها في مجال التعليم وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية، وذلك تفعيلا للمادة 32 من هذا القانون التنظيمي والتي تنص على ضرورة «القطاعات الوزارية والجماعات الترابية والمؤسسات والمنشآت العمومية والمؤسسات والهيئات الدستورية بوضع مخطط عمل تتضمن كيفيات ومراحل ادماج اللغة الأمازيغية، بكيفية تدريجية، في الميادين التي تخصها، وذلك داخل أجل لا يتعدى ستة أشهر ابتداء من تاريخ نشر القانون التنظيمي بالجريدة الرسمية»، حيث جاء في المنشور«واعتبارا للدور الاستراتيجي للمخططات القطاعية في التفعيل السليم والأمثل لمقتضيات هذا القانون التنظيمي، فاني أطلب منكم موافاتي بمخططاتكم القطاعية، مصحوبة بجدولة زمنية تأخذ بعين الاعتبار التواريخ والآجال التي نصت عليها المادتان 31 و32 من القانون التنظيمي المذكور، وذلك في أجل أقصاه نهاية شهر يناير 2020»، يعتبر مؤشر ايجابي في التعاطي مع الأمازيغية، وها نحن ننتظر مدى وكيفية استجابة القطاعات الوزارية لهذا الطلب.

(يتبع).

د.عبدالله اكلا

باحث في الفعل العمومي الوطني والترابي.

اقرأ أيضا

ابن الشيخ: البرلمانية اليسارية نبيلة منيب تُغرد خارج سياق التاريخ والجغرافيا

اعتبرت أمينة ابن الشيخ، في تدوينة نشرتها على صفحتها في فيسبوك، أن تصريحات البرلمانية اليسارية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *