اشرنا في الجزء السابق لبعض المعطيات التي أربكت رئيس الحكومة في القدرة على إخراج قانون تنظيمي للمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية ينسجم مع منطوق الدستور، لكن لفهم سياق تطور هذه الارتباكات لا بد لنا من الرجوع إلى السياقات التي تم فيها اعداد مشروع القانون التنظيمي هذا.
ثالثا: صيرورة إنتاج القانون التنظيمي للمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية:
بالرجوع إلى البدايات الأولى التي رافقت تفكير حكومة بنكيران في إعداد مشروع القانون التنظيمي للمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، أسندت هذه الحكومة مهمة الإشراف على إعداد هذا المشروع لوزارة الثقافة كما يتضح من مخططها التشريعي (2012-2016)، وذلك استنادا لاختصاصات هذه الوزارة المنصوص عليها آنذاك في المرسوم الوزاري رقم 328-06-2 بتاريخ 10 فبراير 2006. وهكذا أعدت هذه الوزارة ورقة تقديمية بشأن احدث المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية متضمنة لرؤية وتصور الوزارة لهذا المجلس نشرته الوزارة عام 2013 بموقعها الالكتروني.
وتصور، وان كان لم يفصل المعطيات بشكل دقيق، فانه حاول قدر المستطاع أن يكون منسجما مع المضامين الدستورية، ففي المحور الرابع من هذه الورقة والتي انصبت أساسا على المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، أشارت الوزارة إلى عدد من الرهانات والإشكاليات التي يطرحها إحداث هذا المجلس، واعتبرت بأن إنشاء هذا المجلس هو في حد ذاته رهان جديد «هو فرصة لمعالجة الإشكاليات العالقة والمساهمة في البحث عن الحلول القانونية والمؤسساتية القمينة بتفعيل مضامين الدستور»، وقد اعتبرت الوزارة بأن هناك ثلاث رهانات أساسية يجب الوعي بها، الرهان الأول يتعلق بالرهان التشريعي، «ويتعلق هذا الرهان برفع الالتباس حول السياسة اللغوية وتيسير معالجة مسألة انسجام السياسة اللغوية والثقافية، وهو ما يستدعي وضع قانون إطار للغات لتطويرها وضمان انسجامها»، أما الرهان الثاني فيتعلق بالتنوع الثقافي، في حين ينصب الرهان الثالث على ضرورة معالجة الإشكاليات الأفقية (يمكن الرجوع لورقة الوزارة قصد الاطلاع على التفاصيل).أما بخصوص تصور الوزارة لتركيبة المجلس، فقد أشارت هذه الورقة التقديمية إلى أن المجلس يضم ممثلين عن المؤسسات المعنية، والفعاليات اللغوية والثقافية، وقد حددت هذه المؤسسات في صنفين: مؤسسات معنية، وتتضمن مختلف الوزارات المعنية ولاسيما المكلفة منها بالقطاعات التالية: الثقافة والتربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي والأوقاف والشؤون الإسلامية والاتصال والشباب والرياضة، والمؤسسات العمومية التالية: المجلس العلمي الأعلى وأكاديمية المملكة المغربية وأكاديمية الحسن الثاني للعلوم والتقنيات وأكاديمية محمد السادس للغة العربية ومعهد الدراسات والأبحاث للتعريب والمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية (وقد سمته الورقة بالمعهد الوطني للثقافة الأمازيغية، ولا نعتقد أن هذا الخطأ عفوي مادامت كل المؤسسات الأخرى تمت تسميتها بأسمائها الصحيحة) والمعهد الملكي للدراسات الإستراتيجية والرابطة المحمدية للعلماء والمجلس الوطني لحقوق الإنسان والمجلس الأعلى للتعليم والمجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي ورؤساء بعض الجامعات المغربية. أما المؤسسات التمثيلية فتتكون من ممثلين عن مجلسي النواب والمستشارين. في حين تتكون الفعاليات اللغوية والثقافية من جمعيات المجتمع المدني المعنية بالشأن اللغوي والثقافي، وضمنها الهيآت المهنية ) قطاعات
الكتاب والنشر والسينما والمسرح و والموسيقى والرقص والفنون التشكيلية(، ومؤسسات القطاع الخصوصي التي تعنى برعاية الثقافة والإبداع وبعض الشخصيات الوازنة في مجالات اللغات والفكر والفنون والثقافة.
إذن يبدو من خلال هذه التركيبة المعتمدة من قبل وزارة الثقافة في رؤيتها، أنها تعاملت مع العبارة الدستورية «يضم كل المؤسسات المعنية بهذه المجالات» تعاملا واسعا فضفاضا، ينسجم مع لفظة «كل»، حيث شملت المؤسسات (المعنية والعمومية) والمؤسسات التمثيلية ومؤسسات القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني، هذا فضلا عن بعض الشخصيات المهتمة باللغة والثقافة. لكن الملاحظ في تصور الوزارة هذا أنها قسمت المؤسسات إلى قسمين «مؤسسات معنية» و«مؤسسات عمومية»، وهذا في حد ذاته يثير غموضا ارتباكا بين منطوق الدستور«كل المؤسسات المعنية» ومنظور الوزارة «المؤسسات المعنية هي فقط القطاعات الوزارية المعنية»، أما الملاحظة الثانية هو أن التعامل الفضفاض للوزارة مع العبارة الدستورية «يضم كل المؤسسات»، سيؤدي إلى تمييع المجلس وعدم القدرة على التحكم في تركيبته، ذلك أنه لا تخلو مؤسسة من الأبعاد والحمولات اللغوية والثقافية، وقد يكون هذا التعامل الفضفاض للوزارة مع مفهوم المؤسسات نتاج قراءة معينة للدستور، ونحن نعتقد بأن المشرع الدستوري حينما أورد عبارة «يضم كل المؤسسات المعنية بهذه المجالات» كان في نيته استحضار المؤسستين الرئيسيتين المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية وأكاديمية محمد السادس للغة العربية أمام معهد الدراسات والأبحاث للتعريب فهو مؤسسة منتهية مهامها بنص إحداث الأكاديمية (يمكن الاطلاع على ما أوردناه في الجزء الثالث من هذا المقال). وعموما فجل هذه الملاحظات سيتم تداركها أثناء إعداد المشروع.
إذن انطلاقا من هذه الورقة التقديمية ستقوم وزارة الثقافة بالإشراف على إعداد مشروع القانون التنظيمي رقم 04.16 المتعلق بالمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، وسيقوم وزير الثقافة السيد محمد الأمين الصبيحي بعرضه، فهل التزمت الوزارة برؤيتها في إعداد مشروع القانون التنظيمي في نسخته الأولى؟
بقراءة دقيقة ومتأنية لمحاور ومواد هذا المشروع يتبين بالملموس بأن الوزارة لم تكن منسجنة مع رؤيتها في إعداد هذا المشروع، ولم تلتزم بما صرحت به في ورقتها التقديمية من تفعيل مضامين الدستور، بمعنى آخر أن العقليات التي ساهمت في صياغة مشروع القانون هذا كان همها الأساسي هو تكريس توجهاتها الإيديولوجية أكثر من تفعيل الدستور، فحتى وان كان السيد محمد الأمين الصبيحي وزير الثقافة ينتمي لحزب التقدم والاشتراكية المعروف عنه مواقفه الايجابية تجاه الأمازيغية ، فان هذا الحزب يشتغل في حكومة يرأسها حزب معروف عنه مواقفه العدائية تجاه الأمازيغية.
وهكذا فبتحليلنا للجوانب الشكلية والمضمونية لهذا المشروع، يتبين بالملموس مدى التعامل الغير المتساوي بين اللغتين الرسميتين للمغرب، وأيضا المؤسستين الوصيتين عن هاتين اللغتين، من قبل من سهر على صياغة هذا المشروع. فعلى سبيل المثال كل المواد التي تحدثت عن هاتين المؤسستين تذكر في البداية أكاديمية محمد السادس للغة العربية ويأتي المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية في نقطة ثانية (المادة 6) والفرع الأول خصص للأكاديمية في حين تم تناول المعهد في الفرع الثاني من المشروع، من وجهة نظرنا هذا التقديم ليس بريئا بل يخفي في طياته ما يخفيه، والمادة الوحيدة التي تم فيها تقديم المعهد على الأكاديمية هي المادة الأخيرة (المادة 51) بمناسبة الحديث عن نسخ نص الظهير الشريف رقم 1.01.299 القاضي بإحداث المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، وكأن الساهرين على إعداد هذا المشروع كانوا ينتظرون الفرصة للتخلص من هذه المؤسسة.
أما إذا تصفحنا مهام كل من المعهد والأكاديمية، فستتضح طبيعة عقليات صغات المشروع، ولعل أول ملاحظة نبديها بهذا الخصوص هو أن المادة 12 المتعلقة بمهام أكاديمية محمد السادس للغة العربية والمادة 14 المتعلقة بمهام المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، وان كانت قد تضمنت مضامين متشابهة إلى حد ما، إلا أن الفقرة الأولى من المادة 12 تعاملت مع اللغة العربية «باعتبارها لغة رسمية للدولة»، وهذا الأمر لا نجده في الفقرة الأولى من المادة 14، حيث نجد فقط الإشارة إلى أن المعهد عليه «اقتراح التدابير التي يتعين اتخاذها من أجل تفعيل طابعها الرسمي في مجال التعليم ومجالات الحياة العامة ذات الأولوية»، لكن أخطر أمر ورد في هذا المشروع هو المادة 13 التي أشارت إلى إعادة تنظيم المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية.
وبخصوص التركيبة المقترحة في مشروع القانون التنظيمي هذا، فقد أشارت المادة السادسة من الباب الثالث منه والمتعلق بتأليف المجلس، إلى أن هذه المؤسسة يتألف من 25 عضوا فضلا عن رئيس المجلس الذي يعين بظهير شريف، هؤلاء الأعضاء مقسمون الى خمس فئات: الفئة الأولى تضم الخبراء وعددهم ستة (6) يعينهم الملك، الفئة الثانية وتضم تسعة (9) أعضاء يتوزعون على نوعين من المؤسسات والهيئات: خمسة (5) أعضاء يمثلون مؤسسات وهيئات المجلس وهم: مدير أكاديمية محمد السادس للغة العربية، مدير المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية (المشروع استبدل اسم العميد بالمدير)، مدير الهيئة الخاصة بالحسانية واللهجات والتعبيرات الثقافية المغربية، مدير الهيئة الخاصة بالتنمية الثقافية وبحفظ التراث ومدير الهيئة الخاصة بتنمية استعمال اللغات الأجنبية، وأربعة (4) أعضاء يمثلون المؤسسات الوطنية التالية: المجلس الوطني لحقوق الإنسان، المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، أكاديمية المملكة المغربية والمجلس الملكي الاستشاري للشؤون الصحراوي. أما الفئة الثالثة فتضم ممثلي الإدارات العمومية، وهم أربعة (4) يمثلون السلطات الحكومية المكلفة بالتربية الوطنية، التعليم العالي، الثقافة والاتصال. والفئة الرابعة هي ممثلي الجامعات ومؤسسات التكوين في مجال المهن الفنية، وقد حدد عددها في اثنين، ممثل لكل طرف. إما الفئة الخامسة والأخيرة فتشمل ممثلي الجمعيات والمنظمات غير الحكومية، وقد حدد هذا المشروع عددهم في أربعة (4) ممثلان يعينان من قبل رئيس الحكومة، ويتعلق الأمر بممثل عن الجمعيات والمنظمات غير الحكومية الأكثر عطاء في مجال الدراسات والأبحاث اللغوية، ممثل عن الجمعيات المهنية في قطاع الثقافة والفنون.أما العضوان الآخرين فيعين كل واحد منهما رئيس مجلس النواب (ممثل عن الجمعيات والمنظمات غير الحكومية الأكثر عطاء في مجال الدراسات والأبحاث اللغوية) ورئيس مجلس المستشارين (ممثل قطاع المقاولات العاملة في مجال الصناعة الثقافية والإبداعية).
ومهما كان الحال، فان هذه النسخة الأول من مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، لم تتعرض لانتقادات كبيرة من قبل مختلف الفاعلين، خاصة وأنها نصت في الفقرة الأخيرة من المادة 51 على حل معهد الدراسات والأبحاث والتعريب (حسب الصيغة التي كتبت به في المشروع).
وذلك فقد ظل هذا المشروع يتجول بين رفوف الحكومة والبرلمان، قبل أن تصدر النسخة التي وافق عليها مجلس النواب في إطار قراءة ثانية بتاريخ 26 يوليوز 2019، والتي احتفظت بنفس عدد المواد (51)، لكنها أضافت بعض التعديلات، حيث عدلت المادة ستة بأن رفعت من عدد أعضاء المجلس إلى تسعة وعشرين (29) بدل خمسة وعشرون، وذلك بإضافة أربعة أعضاء لممثلي الجمعيات والمنظمات غير الحكومية، وأضافت فقرة أخيرة في المادة 51 أشارت فيها إلى أن الموارد البشرية التي تزاول مهامها بمعهد الدراسات والأبحاث والتعريب تستفيد من نفس المقتضيات المنصوص عليها في المادة 49 من هذا القانون التنظيمي (هذه المادة تتعلق بوضعية الموظفين والمستخدمين المزاولين مهامهم بالمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية)، هذه الفقرة المضافة لا معنى لها مادامت الفقرة قبلها نصت على حل معهد التعريب، لكن يبدو أنها كانت مؤشرا أوليا عن رغبة بعض الأطراف في إحياء هذا المعهد، وهذا ما تم بالفعل، فباطلاعنا على المشروع كما صادق عليه مجلس المستشارين في إطار قراءة ثانية، وذلك بتاريخ 31 دجنبر 2019، نجده قد قص الفقرتين الأخيرتين من المادة 51، بمعنى آخر أبقى معهد الدراسات والأبحاث للتعريب حيا يرزق ومستقلا عن المجلس.
هذا التعديل الأخير عكس بوضوح التوجهات الخفية لصناع القرار الذين تماطلوا ولمدة طويلة في إخراج القانون التنظيمي هذا، الذي يعد من القوانين المهيكلة، والذي كان يفترض أن يصدر خلال الولاية الأولى لحكومة بنكيران، طبقا للفصل 86 من الدستور، لكن هذا لم يتم. فتماطل أصحاب القرار هو في حد ذاته قرار كانت غايته هو إبقاء المعهد الملكي في وضع لا يحسد عليه، وثانيا هو السعي ما أمكن إلى إخراج قانون تنظيمي يخدم الأجندات الإيديولوجية للأطراف التي أبدت مواقف سلبية من إحداث المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية منذ 2001. واليوم نرى ونسمع كيف تدافع هذه الأطراف عن ضرورة الإسراع في إخراج هذا القانون التنظيمي، فعلى سبيل المثال، نقرأ ما أوردته الجريدة الالكترونية العالم الأمازيغي من أن السيد محسن مفيدي عضو فريق العدالة والتنمية بمجلس النواب يصرح بما يلي «من غير المقبول أن يظل مشروع القانون التنظيمي لمدة أربع سنوات داخل البرلمان»، ونحن متأكدون أن هذا البرلماني يعلم جيدا أن سبب التماطل في إخراج هذا القانون التنظيمي يرجع أساسا إلى مواقف الحزب الذي ينتمي إليه، وبصفة خاصة مواقف بعد الإله بن كيران.
ويبدو أن الحكومة الحالية التي يرأسها سعد الدين العثماني مصرة هي الأخرى على إخراج هذا القانون التنظيمي في صيغته المعدلة، فهذه الحكومة وجدت صيغة ذكية لكنها تحمل في طياتها توجها إيديولوجيا مخالفا تماما لكل التوجهات التي عرفها المغرب بهذا الخصوص، وهذه الصيغة عبر عنها السيد حسن عبيابة وزير الثقافة والشباب والرياضة الناطق الرسمي باسم الحكومة، وهو من حزب الحركة الشعبية، الحزب الذي ركب عبر تاريخه الطويل على الأمازيغية دون أن يقدم لها شيئا، فقد أشار السيد الوزير إلى أن معهد الدراسات والأبحاث للتعريب هي مؤسسة تابعة لجامعة محمد الخامس وبالتالي فهي غير معنية بهذا القانون التنظيمي.
ومن حسن الحظ، فان مواقف فريق التجمع الدستوري بمجلس النواب، وان كان مشاركا في الحكومة، حالت لحدود الساعة دون إخراج هذا المشروع في صيغته المعدلة.فالمشروع لازال لم تحسم فيه لجنة النعليم والثقافة والاتصال بمجلس النواب بفعل التجاذبات بين طرفين، طرف يسعى إلى إفساح المجال لمزيد من النقاش حول مستقبل المعهد ويتزعمه حزب التجمع الوطني للأحرار، وطرف متعطش لإقبار هذه المؤسسة عبر تذويبها في المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية ويتزعمه حزب العدالة والتنمية. ولولا ضغط فريق التجمع الدستوري (الأحرار والاتحاد الدستوري) من أجل تأجيل الاجتماع الذي كان مقررا يومه الأربعاء 29 يناير 2020 ثم بعده يوم الاثنين 3 فبراير، على مستوى لجنة التعليم والثقافة والاتصال بمجلس النواب، حيث كان من المقرر الحسم النهائي في مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، فحزب الأحرار إذن يجابه مخطط إقبار المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية الذي يسعى حزب العدالة والتنمية ومن يسير في فلكه لتحقيقه.
من طبيعة الحال، فان المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية الذي ظل مكبلا منذ وصول الإسلاميين إلى السلطة، لم يصمت لهذا الوضع، فلأول مرة نجد عميد المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، يتكلم بلغة لم نعهدها فيه سابقا، لغة جريئة تدرك أبعاد ومخاطر تفعيل هذا القانون التنظيمي بصيغته الحالية، فالسيد أحمد بوكوس يعتبر أن «الأمر لا يبش بخير بحكم دمج المؤسسة بموردها المالية والبشرية كاملة، بالإضافة إلى تجربته في مجال تهيئة اللغة والثقافة وغيرها»، ويضيف أيضا بأن مشروع القانون التنظيمي هذا ضد المعهد، حيث «سيتم تقلص مهامه وموارده وممتلكاته، وبالتالي نتخوف من تقزيم المؤسسة، ومن أن تحرم من أدوارها الكبرى التي أسندها إليها الظهير الشريف»، ولم يفت بوكوس أن يشر إلى الضرر الذي لحق المعهد منذ 2012، أي منذ رئاسة حزب العدالة والتنمية المعادي للأمازيغية لأول حكومة بعد دستور 2011، برئاسة عبدالاله بن كيران، حيث ذكر العميد ما يلي: «بالفعل تضرر المعهد من ذلك، لأنه بقيت منذ 2012 حالة اضطراب على مستوى الموارد البشرية التي تعاني هوسا بشأن المستقبل والمصير».
وقد اعتبر السيد العميد أن التعديل الأخير الذي أقدمت عليه حكومة سعد الدين العثماني بخصوص المادة 51 من مشروع القانون التنظيمي هذا، حيث عملت الحكومة على الاحتفاظ بمعهد الدراسات والأبحاث للتعريب مستقلا، أن دوافعه «لا تتعلق باستراتيجية الدولة، يمكن أن تكون هواجس أخرى غير مرتكزة على أرضية سليمة ومنطقية، لأنها تخلق خللا وتضرب عرض الحائط ما تم اقتراحه من لدن اللجنة الأولى التي تولت صياغة مسودة المجلس الوطني للغات، اليوم نفاجأ بهذا القرار غير المفهوم»، وإذا كان السيد العميد يتفاذى ذكر هذه الهواجس الأخرى التي تحكمت في هذا التعديل، فإننا كباحثين، تتبعنا مواقف مختلف الأحزاب المشكلة للحكومة من الأمازيغية بصفة خاصة ومن التعدد اللغوي والثقافي بصفة عامة، جعلتنا نستنتج بأن الهاجس الأساسي المتحكم في عقليات صناع هذا التعديل هي التعامل مع اللغة العربية والثقافة العربية ليس باعتبارهها مكونين من المكونات اللغوية والثقافية الوطنية، ولكن السعي ما أمكن إلى الاستمرار في نهج سياسة التعريب الهوياتي، وربط المغرب بالمشرق ربطا تبعيا وفق ما تعلموه في إيديولوجياتهم المنتوحة من مصدر واحد معروف.
وهذا ما دفعهم إلى الرغبة في إحياء معهد التعريب. بمعنى آخر أن عقليات صناع القرار ظلت في جوهرها متمسكة بتلك القناعات التي ترسخت لديها، وتنتظر فقط الفرص المواتية كي تكشف عنها جهرا. هذه الهواجس لا تبرز فقط في الاحتفاظ بمعهد التعريب، ولكنها تظهر جلية في مضامين مشروع هذا القانون التنظيمي، المهام الموكولة للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية وتلك الموكولة لأكاديمية محمد السادس للغة العربية، وفي هذا الصدد يقول عميد المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية: «قراءة متأنية لمشروع القانون تكشف بوضوح أنه يعتمد على مقاربة تضع العربية في كف أقوى، وتضع الأمازيغية في الكف الآخر، حيث أن أكاديمية محمد السادس للغة العربية لها مهام قوية وذات وقع كبير في صياغة التوجهات وتتبع ما تم انجازه في مجال تهيئة اللغة (…) هذا الأمر لم يسند للمعهد بل تم تجريده من مهامه». إذن هذه بعض الانتقادات الجريئة التي ذكرها عميد المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية في حوار له مع جريدة هيسبريس الالكترونية أجراه معه نورالدين اكجان، (الحوار منشور يوم الثلاثاء 7 يناير 2020 على الساعة العاشرة صباحا). ولعل أهم ما جاء في الحوار هو إدراك عميد المعهد «بدون سند سياسي من قوى وفاعلين يتواجدون بالسلطة التنفيذية والتشريعية، الأمازيغية ضعيفة.
هذا المستجد يكشف كذلك أن عمل المجتمع المدني لوحده أمر غير كاف. الترافع شيء أساسي لكن نتائجه لا تنعكس على عمل الأحزاب السياسية. ليس هناك تكافؤ بين القوى المساندة للعربية والأخرى الداعمة للأمازيغية، يجب إعادة التفكير في طريقة اشتغال النخب السياسية، ويطرح هنا سؤال آخر هو ما هو الوزن السياسي للقضية الأمازيغية على اعتبار أنها قضية سياسية؟ هكذا تم التعامل معها سنة 2001، ثم وجدت لها الدولة حلا ثقافيا، والآن يتبين أن هذه المقاربة تتجه نحو النفق، وبالتالي لا بد من إعادة النظر وتمتيع المعهد من سند سياسي قوي».(يتبع)
د.عبدالله اكلا
باحث في الفعل العمومي الوطني والترابي.