إلى أي حد مكن ترسيم الأمازيغية من تغيير عقليات صناع السياسات العامة والعمومية  بالمغرب؟ الجزء 5 (يتبع)

وما دمنا نتحدث عن المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، فانه لابد من الإشارة إلى أن هذه المؤسسة ما فتئت تقدم اقتراحاتها للسلطات الحكومية المعنية بخصوص النهوض بالأمازيغية، وذلك قبل دستور 2011، وقدمت أيضا مقترحا لحكومة بنكيران خلال الولاية الحكومية 2012-2016 أثناء إعداد مشروع البرنامج الحكومي، ونظرا لأهمية هذا المقترح، وحتى نتمكن من إدراك مدى اهتمام الحكومة برأي المؤسسة الوصية على الأمازيغية، فإننا ارتأينا إعادة نشره بالكامل، وهذا نص المقترح:

« في إطار تنزيل مقتضيات الدستور المغربي وتفعيلا لنصوصه المتعلقة بالأمازيغية، وانطلاقا من اعتقادنا الراسخ بكون اللغة الأمازيغية وثقافتها عنصرا مركزيا في هويتنا وحضارتنا المغربية، وتعزيزا للمنجزات المهمة التي تحققت في مجال النهوض باللغة الأمازيغية وثقافتها، وما تحقق من مكتسبات في هذا الباب، نؤكد على أهمية تثمين المجهودات التي بذلها المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية في ذلك. في هذا السياق، فإننا  نقترح جملة من التدابير الإجرائية لتفعيل ترسيم الأمازيغية كما هو منصوص عليها في المادة الخامسة من الدستور،  من خلال البرنامج الحكومي وخاصة منه ما يتعلق بالأمازيغية، وفق ما يلي:

1.في المجال  القانوني والتشريعي:

– العمل على تفعيل المادة الخامسة من الدستور، وذلك بإصدار القانون التنظيمي الخاص بالأمازيغية المُحدّد لشروط تأهيلها وعمليات إدماجها في المؤسسات العمومية؛
– العمل على تمكين المعهد من الاستمرار في مهامه والقيام بدوره الفعّال، سواء من خلال المجلس الوطني للغات المنصوص عليه دستوريا، أو من خلال الأوراش التي ستباشرها الحكومة في إطار السياسات العمومية؛
– ترصيد المكاسب والمنجزات التي عرفها مسلسل النهوض بالأمازيغية منذ إحداث المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية في مجالات البحث والتعليم والإعلام والثقافة.

  1. في مجال التربية والتكوين:

– إحداث جهاز إداري وقانوني ضمن هيكلة وزارة التربية الوطنية، من قبيل مديرية مركزية تختص بتدريس الأمازيغية لغة وثقافة داخل الوزارة الوصية؛
– بلورة  مخطط استراتيجي يقوم على مسوغات و منهجية منهاج تدريس الأمازيغية  الرامي إلى تعميم تعليم وتعلم الأمازيغية أفقيا وعموديا  بتوسيعه حتى يشمل كافة المتمدرسين على كافة المستويات مع تجويد تدريس اللغة الأمازيغية وثقافتها بتنسيق بين الوزارة الوصية والمعهد ؛
– تكوين وتوظيف ما يلزم من الموارد البشرية التربوية التي ستسند إليها مهمة تدريس الأمازيغية في مختلف أسلاك المنظومة الوطنية للتربية والتكوين؛ وذلك باستثمار الكفاءات التي تتخرّج  من مسالك الدراسات الأمازيغية؛
– اعتماد نظام التكوين  الأساسي والمستمر يتم تطويره في إطار تشاركي مع المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية والفاعلين في مجال التربية والتكوين؛
– إحداث شُعب للغة والثقافة الأمازيغيتين في الجامعات والمعاهد العليا ومعاهد تكوين الأطر؛
– إدراج مادة “الثقافة الجهوية” في برامج التربية والتكوين بمختلف جهات المملكة، على أساس أن تعكس هذه المادة تنوع المغرب وغناه الثقافي والحضاري.

3.في مجال الإعلام:

– إحداث جهاز إداري وقانوني ضمن هيكلة الشركة الوطنية، من قبيل مديرية مركزية تختص بالإعلام الأمازيغي، يتولى تدبير شؤون القناة الأمازيغية والإذاعة  الأمازيغية؛
– التزام القنوات التلفزية العمومية باحترام مقتضيات دفاتر التحمّلات للقنوات التلفزية والإذاعية؛
– العمل على تجويد الإنتاج والبرامج التلفزية والإذاعية الناطقة بالأمازيغية؛
– توفير المناصب المالية لتكوين وتوظيف إعلاميين أكفاء، مساهمة في إنجاح مشروع إدماج الأمازيغية في المجال السمعي البصري الوطني ؛
– توسيع مجال الأمازيغية بإدماجها في كافة القنوات التلفزية للقطب العمومي.

4.في مجال الثقافة:

– بلورة وتفعيل مخطط استراتيجي يروم إدماج المكوّن الثقافي الأمازيغي في السياسات العمومية  حتى يشكل رافعة من رافعات التنمية المستدامة؛
– إحداث جهاز إداري وقانوني ضمن هيكلة وزارة الثقافة، من قبيل مديرية مركزية خاصة بالثقافة الأمازيغية، يتولى تدبير شؤون البحث  الأثري وصيانة التراث الثقافي المادي وغير المادي؛
– إحداث متحف وطني ومتاحف جهوية؛
– العمل على الحد من تهريب كنوز التراث المغربي الأصيل؛
– دعم المبدعين والفاعلين والجمعيات وكافة العاملين في حقل الثقافة الأمازيغية؛
– إدراج أصناف الُثقافة الأمازيغية من كتاب ومختلف الفنون ضمن الجوائز الوطنية.

5.في مجال الحياة المجتمعية:
– العمل على رد الاعتبار للشخصية الثقافية الأمازيغية حتى تكون موضع اعتزاز لكافة المغاربة؛
– العمل على إلغاء قرار منع الأسماء الأمازيغية؛
– إلغاء قرارات منع وحضر الجمعيات الأمازيغية؛
– تعميم استخدام اللغة الأمازيغية في المرافق العمومية : مقدمة المنشآت، العلامات الطرقية، أسماء الأماكن والأزقة والشوارع، اللافتات، الوثائق الرسمية وغيرها».

هذه إذن هي المقترحات التي قدمها المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، باعتباره المؤسسة الرسمية الوصية على اللغة والثقافة الأمازيغيتين، لحكومة بنكيران قصد أخذها بعين الاعتبار في البرنامج الحكومي، وهي مقترحات تمثل الحد الأدنى لما يمكن المطالبة به، وهي كذلك مقترحات ارتكزت أساسا على نتائج تشخيص عدد من العوائق التي حالت دون تحقيق الأهداف المسطرة في ظهير إحداث المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، وأيضا انطلاقا من المستجد المتعلق بدسترة اللغة الأمازيغية كلغة رسمية إلى جانب العربية في الفصل الخامس من الدستور 2011. لكن مع الأسف هذه المقترحات وان كان قد تم الاستجابة لبعضها خطابيا، فإنها عمليا ظلت حبرا على ورق، وكأن الحكومة ترسل رسالة مشفرة للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية مفاذها نحن من يصنع السياسات وفق توجهاتنا وعقلياتنا وإيديولوجياتنا ومصالحنا.

فالحكومة لا  تستحضر المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية إلا أحست بأن الأمر يقتضي رمي المسؤولية لهذه المؤسسة أو إظهار نوع من التعاون والتنسيق معها،   إذ ذاك تركز على ترديد عبارة «بشراكة مع المعهد» ولسنا ندرك طبيعة هذه الشراكة، فمثلا حينما تم وضع الهندسة اللغوية، المعهد لم يؤخذ برأيه بخصوص الأمازيغية ( يمكن الرجوع إلى إستراتيجية المعهد بخصوص تدريس الأمازيغية والتدريس بها 2006)، فرئيس الحكومة أثناء حديثه عن مخطط العمل للفترة 2017-2021 في مجال تدريس اللغات ولغات التدريس، وذلك بمناسبة إلقاء كلمته أمام مجلس المستشارين، يوم الثلاثاء 19 يونيو2018، خلال الجلسة الشهرية المتعلقة بالسياسة العامة المتعلقة بتنمية اللغات والثقافة الوطنية السابق ذكرها. لم يذكر أبدا المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، وانما أورد بأن هذا المخطط  وضع انسجاما مع الرؤية الإستراتيجية لإصلاح منظومة التربية والتكوين (2015-2030)، وهو «يركز على التواصل الشفهي، وثلاث لغات في التعليم الابتدائي، ويتعلق الأمر بالعربية والأمازيغية لغتين رسميتين، والفرنسية كلغة الانفتاح، تضاف إليها الإنجليزية ابتداء من السنة الرابعة من التعليم الابتدائي في المدى المتوسط، ولغة أجنبية أخرى اختيارية ابتداء من السنة الأولى ثانوي تأهيلي».

وأضاف أن «الهندسة اللغوية ترتكز ، كما هي محددة في أفق الإصلاح التربوي الذي أرسته الرؤية الإستراتيجية، على ما يلي:

  • اعتبار اللغة العربية لغة إلزامية في كل مستويات التعليم المدرسي، بوصفها لغة مدرسة ولغة تدريس؛
  • تعميم تدريس الأمازيغية في السلك الابتدائي في الأمد المتوسط (06 سنوات)؛
  • تيسير بعض التعلمات باللغة الأمازيغية في السنوات الأولى من التعليم الابتدائي؛
  • تطبيق نفس المقاربة على مستوى السلك الإعدادي والثانوي في تدريس اللغة الأمازيغية في أفق 2030«.

لكن حينما يتعلق الأمر بذاك الحصيص الزهيد المخصص للأمازيغية يتم آنذاك استحضار المعهد، فقط كمؤسسة بحث ليس أكثر، بغض النظر عن المهام الأخرى التي أسندها إياه الظهير الشريف المحدث له.

والجدير بالذكر فان مواقف الأحزاب المشكلة للحكومات المتعاقبة منذ 2001 في تعاملها مع المعهد بهذا الجفاء ترجع جذوره إلى بداية إحداث هذه المؤسسة، فإذا كانت هذه الأحزاب (وبصفة خاصة الأحزاب المؤسسة على الإيديولوجيات الإسلامية والعروبية)  قد فاجأها قرار الاعتراف الرسمي بأمازيغية المغرب، حيث وجدت نفسها مرغمة على قبول الأمر الواقع، فإنها سعت إلى السيطرة على المعهد الملكي للثقافة الأمازيغة عبر المطالبة بتخصيص حصة الأسد من أعضاء المجلس الإداري للمعهد لها، وذلك قصد توجيه عمل المعهد الوجهة الإيديولوجية التي تخدم أجنداتها. وبما أنها لم تتمكن من تحقيق مأربها هذا، فإنها حاولت بكل الوسائل ممارسة حصار مكشوف على المعهد، وكان النقاش الكبير الذي أحاط بألفبائية كتابة الأمازيغية، أولى المحطات التي ستكشف فيها هذه الأحزاب عن أنيابها، وتلتها فيما بعد انتقاد المضامين والحمولات الثقافية المتضمنة في الكتب المدرسية لكونها لا تساير التوجهات الإيديولوجية لهذه الأحزاب، وقد أدى هذا الحصار والتماطل في تنفيذ الاتفاقيات إلى انسحاب سبعة أعضاء من المجلس للإداري للمعهد احتجاجا على وزارة التربية الوطنية التي كانت تجمعها بالمعهد اتفاقية إطار.  ووصلت قمة الطعن في هذه المؤسسة، حينما تجرأ أحد برلمانيي العدالة والتنمية باتهامها بأنها لا تنتج شيئا، الأمر الذي دفع بأحد الباحثين بالمعهد (أحمد عصيد) إلى الرد على هذا البرلماني بتلك اللغة التي يستحقها (يمكن الرجوع لرد أحمد عصيد بهذا الخصوص)، وللإشارة فهذا البرلماني سبق له أن جعل من أمازيغ سوس نكتة ومجالا للسخرية في الكويت، وهي سخرية تحمل في طياتيتها مواقف عنصرية لا يمكن التغاضي عنها بسهولة، ولعل مثل هذه المواقف العنصرية هي التي دفعت السيدة كريمة بنون المقررة الخاصة للأمم المتحدة في مجال الحقوق الثقافية (أكتوبر 2015)، إلى تاليف كتابها الشهير«فتواكم لا تطبق هنا: قصص غير مروية عن مكافحة الأصولية الإسلامية»، وأبرزت أيضا مدى تأثير الأصولية والتطرف على الحقوق الثقافية للمرأة في التقرير الذي أعدت (القرار رقم 155/72/A بتاريخ 2017 الصادر عن المفوضية السامية لحقوق الإنسان). وقبله صدر قرار آخر حول تأثير الأصولية والتطرف على التمتع بالحقوق الثقافية، وكل هذه التقارير جعلت من مرجعياتها المواثيق الدولية المتعلقة بالقضاء على التمييز العنصري. وعموما فان جل هذه الأحزاب لا تكن حقلا للمعهد فقط لكونه معهدا، ولكن لكون هذه المؤسسة تشتغل وتبحث وتطور ما لا ترغب فيه هذه الأحزاب، سواء تعلق الأمر باللغة الأمازيغية أو بالتاريخ أو بالحضارة أو بالثقافة، وبشكل إجمالي بالإنسية المغربية المتميزة.

وقبل دستور 2011، كانت تراهن هذه الأحزاب على إفشال تجربة إعادة الاعتبار للأمازيغية، ففي مخيلة فاعليها كانت تحوم  أفكار مفاذها، أن المعهد أسسته الدولة فقط لإسكات الأمازيغ، «فهي سياسة سرعان ما ستنتهي». ولم تكن تتصور أنه ستأتي لحظة ويتم فيها ترسيم اللغة الأمازيغية كلغة رسمية في الدستور، كما أنها لم تكن تدرك بأن الأمازيغية ليست إيديولوجيا يمكن استبدالها بأخرى وإنما هي هوية ولغة وثقافة وتاريخ وحضارة وإنسية يستحيل اقتلاعها بإيديولوجيات غريبة عن تربة هذه الإنسية. لذلك لم يتبق أمام هذه التيارات المعادية للأمازيغية إلا التفكير في حيل تمكنها من القضاء على المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، عبر تذويبه في مؤسسة أخرى هي المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، ضدا على الفصل الخامس من الدستور الذي استخدم عبارة «يضم» وليس «يذوب» والفرق شاسع بين المفهومين..

ونحن نعتقد بأن الإشكال القائم في المغرب، ليس فقط فيما يتعلق بالأمازيغية وإنما في مختلف السياسات المنتهجة، يكمن في ثلاث مستويات:  المستوى الأول عدم قدرة الفاعل السياسي على صنع سياسات عمومية وقطاعية صادقة بعيدة عن كل التجاذبات الإيديولوجية وتحضى بالشرعية والمشروعية، وفي هذا الصدد لا يكفي مثلا أن نظل نمارس لغة التسويف الفارغة المضمون والمبنية على مقولة «السياسة فن الكذب»، لا إن السياسة علم ويجب أن تمارس بقواعدها العلمية المتعارف عليها، أما الكذب فحبله قصير وخطورته تكمن في فقدان المؤسسات لمصداقيتها لدى الشعب، وما يترتب عن ذلك من نتائج سلبية للغاية لسنا في حاجة لسردها. نقول هذا الكلام بخصوص ما أورده السيد رئيس الحكومة الحالي من معطيات بخصوص الانجازات المحققة لفائدة الأمازيغية وأيضا موقع الأمازيغية ضمن مخطط عمل الحكومة السابق ذكره، وإذا كان المجال لا يسمح بسرد كل التفاصيل فإننا سنقتصر على بعض النقط فقط ، فعلى سبيل المثال أورد السيد رئيس الحكومة في كلمته السابق ذكرها أنه «سيتم العمل على تجديد منهاج اللغة الأمازيغية على غرار باقي اللغات المدرسة بمنظومة التربية والتكوين، وسيتم ذلك بعد صدور القانون المتعلق بتفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية الذي سيحدد التزامات كل الأطراف والرزنامة الزمنية للتفعيل»، لكن لحدود الساعة لم نر أثرا يذكر لتجديد منهاج اللغة الأمازيغية، مع العلم أن الحكومة لم يتبق لها الا أشهر معدودة وتنتهي مهامها. تحدث السيد رئيس الحكومة أيضا على أنه «سيتم الحرص على توفير العدد اللازم من الأساتذة لتغطية الخصاص في هذا المجال»، فكيف يمكن سد هذا الخصاص والمناصب المخصصة لأساتذة اللغة الأمازيغية لا يتجاوز عددها 180 أستاذا وأستاذة سنويا في أحسن الحالات؟ وبخصوص حديث السيد رئيس الحكومة عن الشروع في تدريس اللغة الأمازيغية ببعض المؤسسات والمعاهد العليا، وذلك استنادا على المنشور الذي أصدره تحت رقم 05/2017 بتاريخ 08 يونيو 2017 بشأن تدريس اللغة الأمازيغية في بعض المؤسسات والمعاهد العليا، حيث سرد السيد رئيس الحكومة عدد من المؤسسات التي قال عن بعضها أنها بدأت تدرس الأمازيغية وأخرى بصدد اتخاذ التدابير الكفيلة بتدريس الأمازيغية بها بصفة تدريجية، وذلك من قبيل المعهد العالي للإعلام والاتصال والمعهد العالي والمدرسة الوطنية العليا للإدارة والمعهد العالي لمهن السمعي البصري والسينما والمعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي والمعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث والمعهد العالي للقضاء، لكن الواقع يفند تماما كلام السيد رئيس الحكومة، ونفس الشيء ينطبق على المعطيات التي أوردها السيد رئيس الحكومة بخصوص الإعلام والثقافة وغيرهما، وإذا كنا نحن ننتظر ما «سوف» تسفر عنه لغة «سوف» فان الأغلبية الساحقة من المغاربة يئسوا من مثل هذا الخطاب فهم ينتظرون النتائج على أرض الواقع، ينتظرون سياسات ذات مردودية وفعالية ملموسة.

أما المستوى الثاني فيتعلق بعدم قدرة الفاعليين السياسيين في الخروج من قوقعاتهم الإيديولوجية التي سيجوا أنفسهم فيها، فخطابهم لازال يمتح من مرجعيات متجاوزة ومتناقضة تماما مع كل التطورات التي عرفها المغرب،  خطاب يتعامل مع كل الالتزامات المغربية الدولية في مجال حقوق الإنسان عموما والحقوق اللغوية والثقافية بصفة خاصة تعاملا حربائيا. ولعل من نتائج هذا التقوقع الإيديولوجي ممارسة أشكال متعددة من الازدواجيات (النفاق)، فهذه النخب مثلا تظهر دفاعا مستميتا  عن اللغة العربية لكن أغلبها ذات تكوين فرانكفوني، وكلهم يدرسون أبناءهم في المدارس والمعاهد الأجنبية بلغات غير العربية، أما الأمازيغية فهي في عقلهم الباطني «لهجات بربرية تزرع التفرقة بين أبناء المجتمع» فترهات المهدي بن بركة رحمه الله وخرافات الجابري رحمه الله بخصوص الأمازيغية لازالت تتحكم في عقليات هؤلاء الفاعلين، لكن ظاهريا يحاولون قدر المستطاع انتاج خطاب يخفي ما يختلج في عقلهم الباطني.  و أيضا يظهرون مواقف معادية لإسرائيل لكن في الخفاء عدد من زعمائهم يزورون تل أبيب ويتبركون ببركة حائط المبكى، يخرجون للتظاهر من أجل القضية الفلسطينية ويجمعون مساعدات مالية ضخمة للفلسطينيين، لكنهم لم يفكرون يوما في الخروج للتظاهر من اجل إطلاق معتقلي حراك الريف القابعين في السجون ظلما، ولا فكروا يوما في أطفال ونساء وشيوخ مغرب الهامش، إنها مفارقات عديدة تمارسها هذه النخب عن سبق إصرار وترصد بلغة القانون، نخب يبدو أن هذا الوطن العزيز لم يعد يحتمل استمرار تواجدها.

أما المستوى الثالث فيتمظهر في استغلال هذه النخب لغموض وضبابية الخيار الديمقراطي بالمغرب والذي يستحيل معه تكريس حكامة فعلية تمكن من ربط المسؤولية بالمحاسبة، بفعل عدم التحديد الدقيق للمسؤوليات «فالكل مسؤول ولا أحد يحاسب»، لكن الأمر الخطير هو اختباء هذه النخب في المؤسسة الملكية التي تحضى بمكانة خاصة عند المغاربة، فكل فاعل يفعل فعلا عموميا إلا ويبدأه بلغة «طبقا للتوجيهات الملكية السامية» أو «كما جاء في الخطاب الملكي» أو «حسب ما ورد في الرسالة الملكية»، الخ. وعلى الرغم من أهمية الخطب والرسائل والتوجيهات الملكية في تأطير الحياة السياسية للبلاد، ليس في المغرب فقط وإنما في العديد من الدول الديمقراطية، فان ما يؤاخذ على فاعلينا السياسيين  هو عدم قدرتهم على جعل التوجيهات الملكية أرضية للابتكار والإبداع من أجل إيجاد الحلول لمختلف المشاكل المطروحة، وما لجوء جلالة الملك إلى إحداث لجان مختصة من ذوي الكفاءات، بعيدا عن هؤلاء الفاعلين السياسيين، لمعالجة عدد من القضايا التي كان يفترض أن تعالجها الحكومة بمعية البرلمان، ولعل آخرها لجنة إعداد النموذج التنموي  (سنعود لهذا الموضوع في مقال لاحق). فعلى سبيل المثال، كان خطاب جلالة الملك محمد السادس في 30 يوليوز وأيضا خطابه في 17 أكتوبر وأيضا الظهير الملكي للثقافة الأمازيغية، وغير ذلك من الخطب والرسائل والتوجيهات الملكية السامية التي تناولت موضوع الأمازيغية، ورغم كل ذلك فان الحكومة المغربية بمعية البرلمان لم تتمكن من إقرار السنة الأمازيغية بالرغم من كل الأصوات التي تنادي بترسيم هذه السنة، وهذا هو موضوع الجزء المقبل من المقال (يتبع).

د.عبدالله اكلا

باحث في الفعل العمومي الوطني والترابي.

 

شاهد أيضاً

الجزائر والصحراء المغربية

خصصت مجموعة “لوماتان” أشغال الدورة السابعة لـ “منتدى المغرب اليوم”، التي نظمتها يوم الخامس من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *