إيمنتانوت.. حقائق مدهشة من جبل نفوسة

بقلم: عبدالرحمان بيلوش

في إحدى زياراتنا لجبل نفوسة في القطر الليبي الشقيق، وبينما كنا بصدد الشروع في مداخلة حول التجربة المغربية في مجال تدبير ملف التعدد اللغوي والتنوع الثقافي في إحدى القاعات بمدينة القلعة. قدم لي المنظمون استمارة بغية الحصول على موجز من سيرتي الذاتية قصد عرضها على الحضور أثناء التقديم.

وكانت المفاجئة كبيرة، عندما شرع منشط الجلسة في قراءة الاستمارة. بحيث لم يتملك الحضور الغفير إحساسه، فامتلأت القاعة تصفيقا ولجبا بمجرد ذكره لمسقط رأسي: إيمنتانوت.

التفت إلي المنشط، في إشارة إلى الاستفسار عن بواعث الحدث. فقال: “ويا للصدف… هذه المنطقة من المدينة التي نتواجد بها الآن تسمى كذلك بإيمنتانوت“. فكان أن دار حديث مطول غير مبرمج قبل بداية العرض عن المعنى اللفظي والاصطلاحي لهذه التسمية التي تكاد تحمل نفس الدلالة هنا وهناك.

في الصف الأول من القاعة يجلس رجل مسن بزيه الليبي التقليدي – لحولي- وتحيل طقوس استقباله من طرف المنظمين إلى كون الرجل من حكماء القوم أو أحد قادتهم.  لم يشارك الرجل في الحوار، غير أنه اكتفى بتبادل ابتسامات عريضة معي أثناء عرض المتدخلين لآرائهم حول موضوع التسمية. طلبت من منشط الجلسة بواسطة ورقة أن يعطي له الكلمة. فتوجه إليه باللسان الأمازيغي بما مفاده: ما رأيك أخالي عثمان في الموضوع؟ فردّ الرجل بهدوء، طالبا إعفاءه من الجواب، قبل أن يشير إلي بسبابته بحركة تعبر عن رغبته في اللقاء بي بعد الجلسة.

استغرق لقائي بخالي عثمان في بيته المتواضع إلى حدود منتصف الليل. أزيد من خمس ساعات من الحديث الشيق مرت كلمح البصر.

بدأ الشيخ كلامه بالقول: ما لا يعلمه شباب اليوم أن كثيرا من أسماء المواقع في بلاد الأمازيغ، لم تكرر عبثا في مختلف أرجاء هذا الوطن الكبير. فلكل اسم دلالة جغرافية تربطه بموقعه. وفي حالة تعذر ذلك، قد توفر بعض الأساطير مرجعية عميقة لهذا الارتباط. وكذلك، كان يسترسل شيخنا، بالنسبة لـعبارة: ئمي ن تانوت التي أصبحت بحكم التحول الوظيفي تكتب كما عندكم: إيمنتانوت. وبعيدا عن ما تم تداوله في القاعة بخصوص معنى وأصل هذا الاسم، دعني أقص عليك أسطورة لأنهار التي تناقلتها الجدات عبر الأجيال. لكن، علينا أن نعلم قبل ذلك أن حديثنا عن الأنهار، غالبا ما يقتصر عن تلك التي ما تزال ناشطة. و قد ننسى أو نتناسى تلك التي سادت على هذه الأرض الشاسعة ثم بادت بفعل فاعل. وعلينا كذاك أن نعلم أن هذه البلدان لم تكن في ما مضى من الزمان على هذا الشكل. والحديث هنا عن قديم الزمان. وباختصار… تابع خالي عثمان حديثه وقال :

كان حتى كان  في قديم الزمان  وسالف العصر والأوان، تمر بأرض الأمازيغ أنهار جبارة. لم يبق منها اليوم إلا أصغرها طولا وحجما وهو نهر النيل الذي عني البحر بالأمازيغية. وبالطبع، فإن هذه الأودية العظيمة، كانت وراء خصوبة الأراضي الشاسعة المحيطة بها. وكانت هنا غابات كبيرة خضراء، تغطي آلاف وآلاف الهكتارات من  الأراضي، و كثير من الأشجار المثمرة، كان السكان يستمتعون بما لذ وطاب من فاكهتها. أما الحقول فقد كانت تستفيد جميعها من الري، لدرجة تسمح بإنتاج ثلاثة محاصيل في السنة الواحدة. لقد كانت بلاد تامازغا مأهولة بجيوش من الفلاحين والصيادين. كما كانت القوارب الشراعية  تجوب بمجاديفها اللامعة مياهها الرائعة. وكانت تلك الأنهار العظيمة تصب في المحيط الأطلسي، أو في البحر الأبيض المتوسط أو حتى في أدغال الصحراء، بعد اختراقها لمختلف البلدان التي كانت توصف آنذاك بالجنة الخضراء بفضل طبيعتها الخلابة.

ولقد كانت هذه الأودية أعمق مما نتصور. بحيث كانت تتسع بدون مصاعب تذكر لملاحة السفن الضخمة التي عادة ما تبحر فقط في أعالي البحار. وكل من كان يستمتع بمشاهدة مرور هؤلاء المسافرين الكبار، كانت تراوده أحلام السفر بعيدا، بعيدا… حيث نهاية العالم.

بيد أن ما شاهده الناس في أحدها في يوم من الأيام، على غير عادتهم، ليس مجرد سفينة كبيرة. لكنه، حوت ضخم أسود اللون. إنه أكبر بكثير من السفن التي ألف الناس مشاهدتها. وكما يحكى، فقد يبدو أكبر بكثير من عمارة متعددة الطوابق!.

لم يصدق السكان أعينهم في بداية الأمر، بحيث اعتقدوا أن ما شاهدوه مجرد سراب ! لكن، هذا غير صحيح. فكلما اقترب الجسم الغريب، كلما تبين لهم، أنهم بالفعل أمام أضخم حوت في العالم !. ثم تبادر إلى أذهانهم أن الشبح قد يكون وحشا بحريا جائعا ومتأهبا لافتراس كل من يعترض سبيله. وهذا أيضا مستبعد، بالنظر إلى حجم فمه الصغير، وإلى عينيه البريئتين، وكذلك إلى مظهره اللطيف عندما كان يقترب بهدوء فوق ماء ذاك النهر دون التسبب في إحداث الأمواج. وباختصار،  تبين أنه حوت مسالم، ليس في نيته إيذاء أحد.

ولكم كانت المفاجأة كبيرة ! عندما شاهد المتجمهرون على ساحل الوادي أرجوحة شبكية متعددة الألوان في الجزء الخلفي من ظهر الحوت. وفي تلك الأرجوحة، كانت تستلقي فتاة في منتهى الحسن والجمال !

وقد أنسى جمالها الباهر ولمعان حليها النفيس الناظرين تواجد الحوت الضخم فوق مياه نهرهم.

وبطبيعة الحال، سرعان ما شاع الخبر وسط الساكنة، إلى أن بلغ إلى علم أحد كبار التجار الهنود الذي كان يسكن قصرا فخما في وسط المدينة. فخاطب التاجر الهندي ابنه البكر، قائلا:  “جهز فرسك يا ولدي. فإني  أعتقد أن هذه الفتاة الجميلة والثرية، ما كانت لتأتي إلى هنا، إلا رغبة في الزواج.  وأنت  أحق بها من غيرك. هيا !… أسرع واغنم شريكة حياتك قبل أن يفوز بها غيرك”.

وما أن أدرك ابن كبير التجار حافة الوادي، حتى انبهر بجمال الفتاة وبحليها التي يعكس لمعانها أشعة الشمس. فوقف على صهوة فرسه المذهبة، ملوحا بسيفه نحو السماء. وخاطب الفتاة الجميلة بقوله: ” أيتها الجميلة، أنا الابن البكر لكبير التجار. جئت لطلب يديك، وأرغب بالزواج منك “.

وقفت الجميلة على ظهر الحوت، وقالت بصوت رخيم : ” شكرا على عرضك يا عزيزي. لكن أنا  آسفة، لا يمكن أن أستجيب لطلبك، لأنني مخطوبة لشاب من بني جلدتي. بلغ أباك أنني سررت كثيرا بزيارة منطقتكم هذه ! إنها حقا رائعة بمناظرها الخلابة ! ”

رجع ابن كبير التجار إلى القصر يحكي لوالده ما دار بينه وبين الفتاة. فشعر الأب بالإهانة، وغضب غضبا شديدا وقال لابنه: ” كيف لهذا المخلوق أن يتجرأ لرفض الزواج بك، وأنت من سلالة كبير تجار هذه المنطقة وأثراهم مالا وجاها ! ! ! لم يبق لنا إلا الانتقام منها. علينا أن ننصب لها كمينا حتى تستسلم، ثم نجبرها على الزواج بك. أما ذاك الحوت الذي تمططيه، فمصيره إن شاء الله، مطابخ أهل المدينة”.

جمع التاجر الهندي فرسانا من الفتيان الأقوياء واتجه على رأسهم نحو النهر. وما أن وصل إلى الساحل، حتى أدرك أنه لن يتمكن من اصطياد الحوت الضخم من وسط النهر. وحيث أن هناك قناة قريبة من المكان، قاد فرسانه إلى جانبها، ودعا الفتاة إلى اقتياد الحوت للرسو  بها وقال : ” أيتها الجميلة… أنا كبير التجار. أنا آسف لكون ابني لم يحالفه الحظ للزواج بك. وقد بلغني شكرك وامتنانك. وأريد بدوري أن أثني على زيارتك لنا. ادخلي الحوت إلى هذه القناة كي أتمكن من شحن بعض الهدايا تقديرا لإعجابك بمنطقتنا”.

وبحسن النية، أعطت الفتاة الأمر للحوت للاتجاه نحو القناة التي تكاد تتسع لرسوه.  وفي الحين، أمر رجاله أن يرموا شباكهم لتطويق الحوت والحيلولة دون عودته إلى النهر.

لكن، عندما أدركت الفتاة خطورة الموقف، أطلقت صرخة قوية، وأمسكت بزعانف الحوت. وكانت الكارثة… ضرب الحوت بديله الكبير في الماء ضربة واحدة، كانت كافية لجعل فرسان كبير التجار يتطايرون كالشظايا في سماء النهر.  أما الشباك،  فحدث ولا حرج. لقد كانت أهون من بيت العنكبوت أمام عظمة الحوت وقوة انفعاله .

وعندما استعاد الحوت توازنه وسط النهر، وقفت الفتاة على ظهره، وقالت لكبير التجار: ” يا لها من خيبة أمل! سيكون الردّ سريعا وعنيفا. لقد فقدت للتو أيها التاجر الهندي كل أملاكك، وتسببت بفعلتك هذه لمن استضافك على هذه الأرض في النكبة. بلغ الجميع أن الجنة فوق الأرض لم يعد لها وجود. أتريد سلب حريتي. أنا لا أتحمل هذا. أنا حرة وسأبقى دائما حرة “.

وبخطوات ثابتة، رجعت الفتاة الجميلة إلى أرجوحتها، واتجهت بالحوت نحو منبع النهر. وحينئذ، أحس كبير التجار المغمور بالهلع، واعتقد أن الفتاة سوف تسبب في فيضان لا يبق ولا يذر.

لكن، انتقام الفتاة كان أكبر بكثير مما تتصور. فعندما وصلت إلى حيث يوجد منبع النهر، هناك في أسفل الجبل شقت بأصبعها فوهة سمتها باب الجب ” ئمي ن تانوت”، وحولت إليها مجرى الماء ليرجع إلى جوف الجبل بدل الاتجاه نحو مساره. وكذلك فعلت بكل الأنهار العظيمة التي كانت تخترق شمال افريقيا.

وقد استغرقت هذا الظاهرة على ما يحكى سبعة أيام وسبع ليال بكاملها. و تضامنا معها، تكفلت الشمس بعد ذلك بإنهاء المهمة بفعل تبخر ما تبقى من المستنقعات، هنا وهناك. كما تدخلت الرياح من جانبها لإخفاء مجاري تلك الأنهار بعواصف رملية. لقد مات كل شيء بسبب العطش. بالتأكيد لقد مات كل شيء. ونحن اليوم أمام أراض جرداء وقاحلة يتعذر فيها التعرف على مكان المجارى التي تحدثت عنها هذه الأسطورة. وكل ما بقي أن سكان سفوح الجبال ما يزالون يحتفظون بأسماء تلك الفواهات الغريبة ويلصقونها بالعمران.

فإن أنت سألت اليوم أحدهم عن موقع باب ذاك الجب. أين يوجد ئمي  ن تانوت؟ فلا تستغرب إذا قيل لك: هو موقع كذا ببلاد كذا، يحده شرقا أو غربا بلاد كذا أو جبل كذا. وبقي التعبير مجرد اسم علم  يقتصر على كثير من المواقع في بلاد تامازغا. وهنا، تنهد خالي عثمان وقال منهيا حكايته الأسطورية: ” لاحظت أنك من طلب من المنشط أن يعطيني الكلمة. أتريد أن أقص أسطورتي على من يعتبر ما سمعته مني الآن مجرد خرافات؟؟؟

طمأنته على أني أقدر موقفه من النقاش الدائر في القاعة، وأكدت له أن الأسطورة خلافا لما يعتقد، كانت وما تزال وراء الفكر البشري بجميع أصنافه. وأن العلوم الأنتروبولوجية ما انفكت تربط طبائع البشر وسلوكهم بما تجود به أساطيرهم. وفضلا عن ذلك، فبماذا يفسر هؤلاء اليوم وجود أحجار في الصحاري وفي السهول بعيدا عن البحر والأنهار تحوي أجسام الحيوانات المائية وأصدافها؟ وأخيرا أليس من الأفيد أن ننبش في تراثنا الرمزي في كل بقاع هذا المغرب الكبير لمساءلته قبل رحيل آخر جداتنا المحافظة على هذا الكنز الثقافي أو قبل مغادرة شيوخ من طينة خالي عثمان الذي وجد نفسه غريبا في قاعة المحاضرات هناك في جبل نفوسة بليبيا ، حيث ما يزال من قلة القلائل الذين يعتقدون أن الأساطير قد تتدخل في صنع الإنسان وتكييف المكان. لذلك، حجم عن المشاركة في النقاش. لكنه، يعلم أن ساكنة إيمنتانوت هنا وهناك وفي كل موقع يحمل هذا الاسم حريصون  كل الحرص على حماية الأمكنة التي كانت منبعا  لأنهار عظيمة يستمتع بخيراتها الآخرون. ولعل كرمهم وسخيهم اليوم رغم الظروف القاسية، لم تكن سوى عبارة عن تعويض موروث للمحرومين في السهول والصحاري.

فتحية إكبار وإجلال لأرواح الأجداد ومزيدا من الوعي بحمولة تراثنا الموكولة حمايتها لكل الأحفاد المتشبثين بأرضهم والمعتزين بممتلكاتهم المادية واللامادية على حد سواء.

شاهد أيضاً

ليبيا.. “حراك أمازيغ تينيري” يطالب الدبيبة بدسترة الأمازيغية

طالب “حراك أمازيغ تينيري” بليبيا، رئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبد الحميد الدبيبة بدسترة اللغة الأمازيغية. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *