اتسع الخرق على الراقع: من زمن الخير إلى أزمة الهشاشة بالأطلس الصغير

امحمد القاضي
امحمد القاضي _ رئيس جمعية تيويزي للتنمية الإجتماعية لأيت عبد الله

ساءت الأمور بجل بوادي جبال الأطلس وسفوحها لدرجة يصعب معها تدارك الموقف. من عاش زمان الخير والخصوبة والإنتاجية والعمل النسوي الدؤوب بالحقول الضيقة بجبال الأطلس الصغير، وخاصة منطقة أيت عبد الله بإقليم تارودانت والقبائل المجاورة في ستينيات إلى غاية أوائل تسعينيات القرن الماضي، يصعب عليه التصديق بما آلت إليه الأمور بأراضي وأحوال ساكنة أعالي الجبال.

كانت القرى تدب بالأعمال الموسمية المتتالية، تنتج إكتفاءا ذاتيا في الشعير وجل الخضروات الطبيعية، ومشتقات الحليب وإنتاج العسل الحر وتربية الدواجن وبعض المواشي، وقطف تمار الأشجار، لدرجة كانت الأهالي تسوق منتوجاتها لتساعد الشباب المهاجر من أقاربها على الإستثمار في تجارة القرب بالمدن المغربية. حتى أصبحت اليوم الساكنة تعتمد بشكل كلي على عائدات وتحويلات أبنائها بالمدن، بل وكرها على إكراميات المحسنين. هزلت الأمور وفسدت أحوال الناس لدرجة إتسع فيها الرتق على الراتق.

اليوم أصبح السوق الأسبوعي هو مصدر قوت الأهالي، بعد شح السماء وجفاف الأرض وإجتفاف منابع المياه وقساوة الطبيعة، وتحول جذري في عادات وقيم الساكنة في زمن الخمول والتواكل. من المؤسف أن نعيش مخضرمين بين زمنين متقاربين مواقيتا ومتباعدين في القيم والعادات والإنتاجية.

قد يقول البعض إن الأمر مراده إلى عدة عوامل طبيعية منها توالي سنوات الجفاف وقلة التساقطات المطرية بجنوب المملكة. لكن الأمر ببساطة راجع لتكالب عدة أسباب خارحية أكثر منها طبيعية. من بينها سوء تدبير المسؤولين للأزمات، وإنعدام رؤية مستقبلية، وفشل سياسات تخطيطية فلاحية وإجتماعية، وتنزيل حلول ترقيعية آنية من الفوق، مما أدى إلى فشل المبادرات التنموية لعدم تبني مقاربة تشاركية تدمج الساكنة في تدبير الأزمات.

عاش الأجداد أوقات عصيبة وتجاوزوها بإمكانيات جد محدودة وبحسن تدبير الندرة، وعبقرية بناء مخازن جماعية (إكيدار) بإبتكار نادر لحماية المنتوج/القوت اليومي والأرواح في عصر الغزوات وفترة السيبة، وغرس أشجار متمرة كاللوز والتين والزيتون الملائمة للظروف المناخية وحماية تربة المنطقة. وطبقوا أعراف، توارثها وراكموها عبر التجارب الحياتية، أرقى من قوانين الجامعات. كل هذا في ظل التماسك الإجتماعي والعيش المشترك وقيم التآزر. إضافة للإحتكام لحكامة التدبير الجماعي، وحكمة ‘الجماعة’ وسداد رأي ‘إنفلاس’، أو مجلس حكماء الدوار والقبيلة. في حين فشلت السياسات المركزية في تدبير أزمة الهامش في زمن العولمة وعالم الرقمنة و’كفاءات’ المدارس المرموقة والموارد المالية والقروض الضخمة.

نجحت الحكومات المتعاقبة في تعميق الفوارق، وترسيخ الشعور بالحكرة والإقصاء، وتضخيم العجرفة في إتخاذ القرارات وتغليب الإنفرادية في التسيير وتشجيع الرداءة على حساب الإبتكار الفردي والإبداع والإجتهاد والحس الوطني الجماعي.

إستسلام الساكنة بجبال الأطلس للهشاشة راجع بالأساس لتكالب عدة عوامل من صنع ‘عبقرية’ و ‘خبرات’ خريجي مدارس القناطر الأجنبية، ولامبالات المسؤولين، أكثر منها عوامل طبيعية. فعلى سبيل المثال، إعتماد فلاحة تصديرية معفاة من الضرائب بمزارع سوس، على حساب حماية الأمن الغذائي الوطني أسال لعاب وجشع المستثمرين مما أدى إلى إجتفاف منابع المياه الجوفية بقرى أعالي الجبال وإعدام زراعة الساكنة المعيشية الطبيعية. السماح بالتكاثر العشوائي للخنزير البري الوحشي بالمنطقة بدعوى التنوع البيولوجي، للحفاظ على إستمتاع محبي ‘رياضة’ القنص الموسمي، أفسد أنشطة الزراعة والعيش والطمأنينة للساكنة. الهجمات الجائرة للرعاة الرحل، في ظل سكوت وتواطأ بعض الساكنة والسلطات، أجهض عنوة على ما تبقى من الأعشاب البرية والأغراس والحشائش المعتمدة من طرف النساء في تربية مواشيهن المنزلية. الإفراط في إستعمال المبيدات الكيماوية بالحقول بسهل سوس أثر بشكل سلبي على تربية النحل وإنتاج العسل الطبيعي بالمنطقة. هذه نمادج للإجهاض الممنهج لموارد رزق ونمط عيش بجبال الأطلس الصغير

أزمات اليوم نتيجة سوء تدبير خيرات البارحة وإهمام نهج سياسة إستباقية وغياب منهجية إستشراف المستقبل وإنعدام إستحضار الحس الوطني بالمسؤولية الجماعية، إضافة إلى فقدان مقاربة تنموية تقلص الفوارق المجالية والإجتماعية الشاسعة.

بإختصار، فرطنا في تأطير قاطني الجبال لتجاوز تحديات الحياة اليومية، وتمكين وتشجيع نساء العالم القروي لتبني مشاريع منتجة مدرة للدخل، والتأقلم مع التغير المناخي، وتشجيع شباب المغرب العميق على خلق مبادرات خلاقة ومبتكرة في التشغيل الذاتي للإستقرار بالأعالي، وزاد الطين بلة تعطيل التعليم العمومي بالبوادي، مشتل الطاقات المستقبلية وسبيل الترقي الإجتماعي للأسر الهشة.

طالت تقلبات الطبيعة إتهامات عشوائية بالمسؤولية على تردي الأحوال المعيشية لساكنة مناطق الجنوب، بينما سوء تدبير الإنسان للأزمة وضيق أفق تفكيره وجشعه هو المتهم الرئيسي في القضية.

اقرأ أيضا

“اللغة الأمازيغية بالمغرب: تحديات البقاء ومخاطر الانقراض بعد إحصاء 2024”

تقف اليوم اللغة الأمازيغية بالمغرب، باعتبارها ركيزة أساسية في تكوين الهوية الوطنية المغربية، أمام تحدٍ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *