الأستاذ “الحسين الملكي” ليس فقيدا للمحاماة فقط

بقلم: عبد الله الشرقاوي*

ووري الثرى جثمان الأستاذ الحسين الملكي، المحامي بهيئة الرباط، بعد عصر الثلاثاء 3 أبريل 2018 في مقبرة الشهداء بالرباط، وذلك إثر أزمة قلبية ألمت به السبت 31 مارس 2018، لينقل إلى مصحة، حيث أجريت له عملية جراحية، إلا أنه فارق الحياة بعد زوال الاثنين 2 أبريل 2018.

لحد كتابة هذه الأسطر مازالت أتوهم أن صديقي الأستاذ الحسين الملكي مازال يعيش بين ظهرانينا، وأترقب أن نجلس كالمعتاد بمقهى حي المحيط بالعاصمة الإدارية، نرتشف قهوة ونخوض في مواضيع لا تخلو أبدا من فائدة، حيث كنا قد جلسنا مساء الجمعة 30 مارس 2018 بمقهانا المعتادة…

تعرفت على الفقيد عبر هذه الصفحة المتخصصة في القانون من جريدة «العلم» «المجتمع والقانون» قبل أن أتولى مسؤوليتها، وذلك منذ التسعينيات، حيث خضنا «معارك» إبان مناقشة بعض مشاريع القوانين، كمسودة قانون المسطرة الجنائية، إلى درجة كان له الفضل في “إسقاط” عدد من مواد مشروع هذا القانون، والتي حصرها (المواد) في “شبكة عنكبوتية” كشف فيها تعدد الإحالة على نفس القانون وقوانين أخرى، مما يستحيل معها حتى على المتخصصين تتبع خيوطها، وأعد لذلك مؤلفا مازال شاهدا على هذه المحطة، لكنه لم يُنشر على غرار مؤلفات أخرى، منها ما هو جاهز، وآخر يحتاج “لرتوشات”.

توطت علاقتنا أيضا بحكم حضوري لمؤتمرات جمعيات هيئات المحامين بالمغرب وجميع لقاءاتها على امتداد سنوات خلت، وبحكم “تخصصي” في جريدة “العلم” بمواكبة تغطية ما يروج داخل قاعات جلسات المحاكم، وتتبع أنشطة وزارة العدل، ولقاءات المحامين، وغيرهم من الفاعلين في منظومة العدالة، حيث لم أعد أشتغل خارج هذا المجال منذ 1996، وذلك بعد الانتهاء من تغطية محاكمة مجموعة “اليخلوفي ومن معه” أمام ابتدائية سلا، إثر “تفجيرات” حملة التطهير لسنة 1995.

وقد كان البعض – ممن يعتقدون أنهم حاذقين – أن الأستاذ الحسين الملكي ينتمي إلى حزب الاستقلال بدعوى أنه يكتب في جريدة “العلم” بشكل مستمر، مما يؤكد على “أمية” كبير وقلة التربية، وسوء ظن في حق رجل غير منتمي، وهو صديق كل الأطياف، إلا من استثنى نفسه….علما أن الانتماء إلى حزب، أو نقابة، أو جمعية ليس عيبا، أو سبة، أو جريمة، لكن الزاوية التي أتحدث منها عن هذه الطينة من البشر، الذين هم كنكرة من ذوي الضغائن وقلوبهم مرضى وووو

وقد خلفت علاقاتنا بالنسبة للبعض ممن في نفوسهم “إن” غموضا ولبسا لغاية يومه، وهي علاقة لم تزدد إلا رسوخا وامتدت منذ التسعينيات إلى غاية يوم واحد قبل إصابته بأزمة قلبية ودخوله للمصحة، لأنها علاقة كانت خارج أي طمع، أو تزلف، أو مصلحة، بل كانت إنسانية، لأن ما كان لله دام واستمر، وما كان لغيره انقرض، بانقراض المصلحة.

يعد الأستاذ الحسين الملكي “شيخا”، وفقيها، بمفهوم الباحث المتخصص، المُتَّسم بحاسة غير عادية في قراءة وفهم النصوص القانونية والأحكام والقرارات القضائية على خلاف آخرين ممن يعتبرون أنفسهم متخصصين وباحثين وأصحاب مراكز للبحث والدراسة، حيث كان يتم اللجوء إليه في إعداد مشاريع القوانين، وتفتيت وتفكيك كلمتها وسطورها وفقراتها، ويتخذ المبادرة لإثارة إشكالات قد تبدو معاكسة لموجة التيارات، حتى لو كانت الأمواج عاتية، ولا يتوانى في الصدح بقراءته الخاصة لما يعرض عليه، وذلك بلباقة وكياسة حينما يطلب منه رأي.

وهنا تكمن أيضا قوة فقيدنا، الذي ربما قد تختلف معه، لكنك تحترمه لقدرته على قول “لا” حينما يستلزم ذلك، إذ كثيرا ما ” ريَّبَ “/ هدم “حفلة” قراءة مشروع قانون… ولا يتصور حضوره لندوة، أو مؤتمر دون أخذ الكلمة، وإبداء وجهة نظره في الموضوع المطروح للنقاش.

إن الأستاذ الملكي صارم في قول «لا» حينما يتعلق الأمر بوجهة نظر علمية وبحثية، لكنه قد يجاملك في غير هذا الموضع على حساب صحته ووقته، لكي يبقى ” الماء جاريا “، لأنه لا يؤمن بمقص قطع العلاقة…. إلا في الحالات القصوى، حيث يفضل الابتعاد عن البعض بأخذ مسافات إلى أن يتضح الخيط الأبيض من الأسود.

كما تجد الفقيد سباقا في إثارة قضايا معينة، كمسألتي ” الكد والسعاية ” والتي كان له السبق فيها، على غرار قضايا الأحكام المالية للمجلس الأعلى للحسابات… إضافة إلى دعوته لضرورة التمييز بين مفهومي السلطة القضائية الواردة في دستور 2011…

وهو السبق الذي تجده حينما يطلب منه المؤازرة في ملفات حرية الرأي والتعبير، التي كان آخرها حضوره رفقة عدة أساتذة محامين في محاكمة جريدة ” العلم ” في شخص مديرها الزميل عبد الله البقالي، إبان تقديم وزير الداخلية شكاية في الموضوع، حيث كان شديد الحرص على توصله بطلب تكليفه بمهمة الدفاع، لأنه لا يؤمن بالتطوع والمؤازرة بدون تكليف في المحاماة، على غرار رفضه توزيع ملفات حوادث الشغل، أو حوادث السير من قبل بعض هيئات المحامين، لأن في ذلك مساس بحقوق المتقاضين وحريتهم في الاختيار، كما هو الشأن أيضا في مسألة الاقتطاعات المالية التي تقوم بها هيئات المحامين من أموال زبناء دفاعهم، لأنها جهة لا علاقة لها بالزبون، ولا صفة، أو أحقية لها في عملية الاقتطاع، مما يستلزم تدخل النيابة العامة في ظل السلطة القضائية الجديدة، لإرجاع الأمور إلى نصابها دفاعا عن المجتمع والأمن القضائي.

ومرة أخرى كان الفقيد نجما في محاكمة جريدة  “العلم ” بالمحكمة الابتدائية في الرباط بحكم كفاءته المهنية التي أثارت إعجاب الحاضرين من غير المختصين والمهنيين، والتي يستمدها من تدقيقه في «الفواصل والنقط» وحرصه على القراءة، وحب التعلم، والبحث، واعتماد الأرشفة والتوثيق وتقديم المذكرات الكتابية المعززة بالمرافعات الشفاهية…

من هنا استمد الأستاذ الملكي قوة بصمته، المطبوعة بالتريث، والصبر، وإعطاء الحيز الزمني مجاله، مع حبه الكبير للمحاماة، التي فقدت اليوم أحد أعمدتها الكبار، علما أنه كان شديد التمييز بين المحاماة كصرح ورسالة، وبين المحامي كسلوك، على غرار باقي المهن، بما في ذلك مجال الصحافة الموجود فيه الصالح والطالح.

تغمد الله روح الفقيد، زميلي وصديقي الأستاذ الحسين الملكي، بواسع رحمته وأسكنه فسيح جنانه مع النبيئين والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقا، وألهم زوجته وأسرته الصغيرة الصبر والسلوان.

إنا لله وإنا إليه راجعون.

* عبد الله الشرقاوي/ جريدة “العلم” ليوم 4 أبريل 2018

 

شاهد أيضاً

«مهند القاطع» عروبة الأمازيغ / الكُرد… قدر أم خيار ؟!

يتسائل مهند القاطع، ثم يجيب على نفسه في مكان أخر ( الهوية لأي شعب ليست …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *