الأستاذ فخر الدين العمراني: من أبناء الحي.. بل ومن قلب الحي..

طرقت باب الحروف استجدي حرفا، فوجدتها هربت.
كيف أجاري الحروف للانطلاق في جلسة شاعرية مع قامة من قامات ابناء الحي ، وأمام عجزي لم يكن لي من خيار سوى الهروب نحو سؤال تقليدي ألج من خلاله اليكم عبر هذه البوابة، بوابة حي لعري الشيخ ..
من هو فخرالدين العمراني؟

هناك مبدعون وإنتاجات تستوقفني، وحين ألاحظ في الأمور هبات جميلة ومنعشة أو جارحة أحيانا، أشعر بجرأة على الذهاب إلى مناطقها الطازجة أو المالحة.
عرفته منذ زمن يحمل شغفه بالريف وبالمسرح وبالإنسان، يترحل بين دور الشباب والمدارس والثانويات والجمعيات، بحثاً عن مكان يحقق فيه مشاريعه، ورؤاه، وأفكاره، ومواقفه، وحتى مشاريعه المفتوحة، بلا تعصب ولا انغلاق.

ساهم في تأطير شباب المدينة على مدى سنوات وسنوات ، عبر تنمية مواهبهم وصقل مهاراتهم الإبداعية ، قرَّب اليهم نظريات التمثيل والأداء الدرامي من خلال فعل التمسرح الركحي عبر ورشات وحلقات تكوينية مختلفة…

هكذا كانت بداية معرفتي به .. في ورشاته داخل المدارس والثانويات والمنتديات . لكن ، أن تكب عنه ، يعني ان تكون متأهبا لدخول عالم متدفق من فيض عوالمه، عوالم باحث ومسرحي وقارئ نهم ،مزيج أدب ومسرح، سياسة وفن، يسافر بك من هذه الى تلك، مستحضرا مع كل منها تجارب وأقوال وحكايات نجدها حاضرة في انتاجاته تستعرض مسيرة باحث وكاتب مسرحي سطر اسمه وبصماته على خشبات مسارح المدينة التي مرّ عليها وتحفظ معالم خطواته .
معلم ومؤسس مسرحي، رجل مسرح بامتياز جمع بين التمثيل والتأليف والإخراج ، هامة من الهامات المسرحية التي أثرت الساحة المسرحية في الريف بفترة عطاء لامتناهية….
المفروض; أنه لا يمكن الحديث عن الريف ومسرحه وحركاته الأدبية وتحولاته الفنية ، من دون الحديث عنه .
لامس وجوده الفني والإنساني والأدبي مظاهر حياتية شتى لهذا الريف الذي كان ولا يزال يعيش على ارض متحركة لا تزال تبحث عن الاستقرار.

إنه الأستاد فخرالدين العمراني ، رجل صُنع من لحم المسرح ودمه، وجعل منه حاجة حياتية عامة، مثل الخبز والماء ، تنفسه في سن مبكرة ، منذ دراسته الابتدائية من خلال مشاركاته في تمثيل مجموعة من المسرحيات المدرسية ، لتصقل موهبته الإبداعية في مجال المسرح بعد ذلك عبر أعمال مسرحية و ورشات عدة ، منها ورشات إعداد الممثل التي وجد فيها التلاميذ بوابة يستطعيون من خلالها جني ثمار مواهبهم..
ووجد هو فيها متنفسا لخياله واحلامه ومنطلقا لقدراته الابداعية في مجال المسرح ، في غياب نادٍ للمسرح يستوعب طاقات وإمكانات هواة المسرح بالمدارس ويؤسس لورش مسرحية .

هكذا كان ولا زال, رجل مسرح بامتياز يؤكد على الإبتكار والتجديد الذي مد ظله على المسرح بأشكاله وتياراته التي شملت حتى الحكايات التراثية والموروثات الشعبية حيث طورها وأعاد صياغتها وقدمها للجمهور بشكل جديد.
لم يتوقف الاستاد فخرالدين العمراني عن شغفه وحبه للعلم والبحث والدراسة ، لتعميق معارفه المسرحية والسعي نحو امتلاك ثقافة درامية على أسس علمية. سافر خارج المدينة التحق بالمعهد البلدي للفن المسرحي بالدار البيضاء اطلع على تخصصات وعوالم جديدة وبعد عودته إلى الناظور، عانق أحلام شباب المدينة الموهوبين بتطبيق ماتم تعلمه من خلال تكوينهم وإعدادهم ركحيا. وساعده على ذلك عمله كرجل تعليم واحتكاكه بالتلاميذ.. الامر الذي سهل عليه تجسيد كفاءاته الإخراجية والتنشيطية. بل ويمكن اعتباره في هذا المجال مؤسسا حقيقيا للمسرح المدرسي بالمدينة .

هي إنجازات كثيرة قدمها للمسرح على امتداد ما يقارب نصف قرن ، ممثلا و مخرجا ومؤلفا ومنظرا ومعلما بل وأبا للعديد من الأجيال المسرحية ، وتمنيت لو أن بعض شبابنا من هذه الاجيال قدروا ذلك بدل التكبر ونكران الجميل .
فقد كثر في الآونة الأخيرة من الزمان عقوق الاجيال الجديدة نسياناً لرد الجميل ، نتيجة ربما لغرور ما أو ربما لكثرة مغريات الحياة ، وتهافت الكثيرين عليها والنتيجة.. أن نشأ لدينا جيل تنكر لأساتذته .
فهل أضحت كل خشبات المسارح التي حفظت معالم خطواته حين مرّ عليها ذات مساءات مسرحية دافئة ؛ متنكّرة له.؟
لماذا أصبح اسمه يتردد على استحياء في أوساط بعض الشباب الذين تتلمذوا على يده ؟
لنعترف بأنه لم ينل حقه كاملا في الريف بل ولا في المغرب كله، حيث للنجاح ربما “معاييره الخاصة” ، ولا أتردد في القول إن قلتُ أنه تعرض إلى نوع من الاضطهاد الفني على عكس الكثير من الذين ربما “عرفوا” كيف يقيسوا المسافة بين النجاح وبين الفشل بطرقهم الخاصة .!
أشباه مبدعين قضوا بضع الوقت أمضوه في تمييع المسرح رغم ذلك نالوا كل التقدير. فماذا منحت العقود التي أمضاها أستادنا على خشبات مسارح الريف وقاعات الدرس غير أنين متقطع وذكريات لا تنتهي عندما يرخي ليل الريف سدوله ليمر شريط ذكريات كانت مع رموز فنية ريفية منها من غابت ، ومنها من بدأت تذبل في دروب المنافي وزوايا النسيان ولا داعي لذكرهم اليوم حتى لا أنسى منهم أحدا.

وليبقى السؤال المطروح المشروع وممزوجا بغصة تقف في الحلق : لماذا نتنكر لمبدعينا ومثقفينا وننسى كل مجهوداتهم وتضحياتهم ؟
ألا يحق لنا التفاؤل بمستقبل أفضل لهؤلاء ؟ أهكذا يكافأ من أعطى عمره لفنه ولخشبة المسرح ما يناهز النصف قرن؟
لكن الأكيد أن مجهوداته وتضحياته ستبقى عالقة في أذهان جمهوره ومحبيه حتى وإن تنكر له بعض زملاء المجال.
هو لا زال بالرغم من كل شيء كما عهدناه دوما ، مؤمناً أن المبدع الجيد المقرون بالجدية والجهد والعمل الجاد لا ييأس، وان في النهاية لا يصح إلاّ الصحيح.
هو لا زال كما عهدناه مغالبا آلامه وأوجاعه و يعني لنا الكثير .
لا يزال يشعر بمسؤولية فنية في أن يكون إلى جانب الفنانين والمبدعين الحقيقيين في المدينة فيما يتوقون إليه ليكون شكلا لحياتهم، رغم ما جرّه ذلك عليه من متاعب كثيرة. فالدهشة بالعمل المسرحي في وقت مبكر من حياته، زجّت به إلى محطات شتى من البلد، وجرّعته التعب، غير أنّه بطريقة أو أخرى، لا يزال المسرح لعبته الجميلة.
منذ أكثر من ثلاثين عاما، لم يتوقف قلمه عن مشاكسة الصور المسرحية التي تعبر المنطقة الريفية والمغربية، سواء أكانت ذات طابع ثقافي أو اجتماعي. تتقد حرارة أفكاره المسرحة من مشغلٍ يومي صاخب، فيرصده ويُعيد قراءته من جديد، ولذلك يعد واحدا من أهم الأسماء المؤثرة في الكتابة المسرحية في الريف.

هوذا المسرحي فخرالدين العمراني المثقف اينما حل. صاحب ظل خفيف. كل من يتعرف إليه يتطلع إليه رجل مسرح وقلم و فكر و..عطاء لا ينتهي. والمسرح رفيقه الدائم.
إنسان معطاء ، حريص على بذل العون لمن يريده دون أن ينتظر من أحد جزاءً ولا شكورًا، ظل بابه ولا يزال مطروقا، وعطاؤه متواصلا، مع حضوره الدائم وعطائه القائم.

لا زال انيقا مثل رسَّام يجيد اختيار لوحاته عند الرسم ، يمتلك ذكاء رجل حكيم، كان ولا زال دائم الحضور والعطاء على رغم كل الظروف ووجع الريف العظيم.
هو ذا زماننا..الشهرة لمن لا يستحق .. والمبدعون الحقيقيون مغيّبون.. لكن… المبدعون الحقيقيون الذين يُغيَّبون يسكنون الذاكرة الأجمل .

اقرأ أيضا

نص سردي من زمن الطفولة

عندما كنا نزمجر في الوادي، ونقرأ دع اللقالق ترحل، وأترك النمل يدخل بيته. ولم نكن …

2 تعليقات

  1. ربنا يديم عليك الصحة والعافية ويديمكم منارة لغيرك

  2. فخرالدين العمراني

    جزاك الله خير الجزاء -أخي علي- الفنان / الإنسان ، لإعادة نشر هذا المقال ، الذي تفضل بكتابته – بشكل جيد ومتقون – ومستوفي لشروط الكتابة ، الأستاذ الكريم ، والصحفي المميز ، إبن شبذان الشامخة : محمد بوتخريط ، الذي فاجأني بهذا الفيض من المعلومات ، التي تدل قطعا على إلمامه بمحطات فنية وثقافية ، في مسيرتي التي قاربت نصف قرن من الزمن ! …
    من هنا ، أجدد شكري وامتناني لابن مدينتي ، على جميل إطلالته ، وبديع أسلوبه ، وعميق تحليله … بارك الله فيك ، وفي أهلك ، وأهل كبدانة الأدبية ، وأنعم عليك بموفور الصحة والسعادة … وفي الختام ، أرجو أن ننعم قريبا ، بجلسة يجود بها علينا رب العباد … للتعارف أكثر ، والحوار أكثر ، وتقاسم الرؤى أكثر … إذ من حق مدينتنا على أبنائها البررة ، أن يتعارفوا ! فهل تشاطرني الرأي ؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *