تجمع فعاليات الحركة الأمازيغية على أن الأمازيغية ضحية غياب الإرادة السياسية منذ أمد بعيد وتنكر مؤسسات الدولة لهذا المكون الأساسي والرئيسي للهوية الوطنية، كما لا يختلف اثنان على أن الغياب التام لهذه الإرادة السياسية من طرف الحكومات المتعاقبة، وتجاهل كل الدساتير لها باستثناء دستور 2011 الذي جاء في سياق الربيع الديمقراطي، هو السبب المباشر فيما تعيشه الأمازيغية من تهميش وإقصاء في كل مناحي الحياة العامة.
رد الاعتبار للأمازيغية يحتاج إلى نزع جلباب أيدولوجية “التوحيد” والتخلي عن نظرية الحزب الواحد واللغة الواحدة والتوجه الواحد الذي يواصل سيطرته على الذهنيات والعقليات التي تعاقبت على تسيير أمور البلاد والعباد ما بعد الاستقلال، وهي العقليات نفسها التي تجمع اليوم على التهميش والإقصاء وتكريس تراتبية اللغتين الرسميتين للدولة، بين لغة تمارس وظائفها كاملة، ولغة ولو أنها رسمية بقيت في الهامش و”للاستئناس” و”خضرة فوق الطعام” لتزين وتأثيث المشهد وتسويق دسترتها في الخارج على أساس أننا دولة تحترم تعددها الثقافي واللغوي في الأوراق، لكن الواقع شيء آخر.
هذا النوع من العقليات تستمر بلا خجل في تكريس استمرار تهميش الأمازيغية ومحاربتها ومنعها من ممارسة وظيفتها الدستورية والقانونية، والاستهتار بفصول الدستور والقانون واللعب بها كما تشاء، متى وكيف تشاء، والضحك على الذقون بشعارات فضفاضة لا تغير من الواقع شيئا. عقليات نابعة عن غياب إرادة سياسية حقيقة لرد الاعتبار للغة الأم للمغاربة ولا تجد غضاضة في تقزيم الدستور الذي يعتبر أسمى قانون في الدولة وتتجاهل القانون التنظيمي لتنزيل مقتضيات الفصل الخامس من الدستور غم صدوره في الجريدة الرسمية منذ سنة 2019.
ما يبرز غياب الإرادة السياسية بشكل واضح المعاناة الحقيقة التي تعيشها الأمازيغية في المؤسسات والإدارات العمومية المغربية مع لوبي إداري يعاكس الدستور والقانون التنظيمي والخطب الملكية وحتى الالتزامات الحكومية. هذا اللوبي المتوارث في الإدارات من سنوات خلت، لا يتوانى في محاربة الأمازيغية وتهميشها والتقليل من شأنها والسعي “لإماتتها” بكل الطرق الممكنة وغير الممكنة سعيا منه لتحقيق “حلم” عرّابه الذي دعا يوما إلى “إماتة” اللغة الأمازيغية بكل فروعها ومعها “الدارجة”، حتى يفسح المجال للعربية وحيدة دون غيرها من لغاتنا ولساننا المتعدد والمتنوع.
هذا اللوبي المعروف في الإدارات المغربية بأفكاره البعثية والناصرية التي لا تزال تؤمن بأيدولوجية “القومية العربية ” ينضاف إليه لوبي فرنكوفوني يعمل على تكريس “الترسيم الفعلي للفرنسية” والتبعية لفرنسا على حساب اللغة الرسمية للدولة، لا يريد التخلص بعد من العقلية السلطوية القديمة التي كلفت الدولة التقهقر إلى ذيل البلدان في التنمية والديمقراطية بسبب ما كرسه في الإدارات من سياسة عمومية فاشلة بشهادة أعلى سلطة في البلد، حيث أكد العاهل المغربي في نص خطاب وجهه إلى أعضاء البرلمان برسم افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الأولى من الولاية التشريعية العاشرة أكتوبر 2016 “أن النجاعة الإدارية معيار لتقدم الأمم، وما دامت علاقة الإدارة بالمواطن لم تتحسن، فإن تصنيف المغرب في هذا الميدان سيبقى ضمن دول العالم الثالث، إن لم أقل الرابع أو الخامس”.
وهي بالفعل كذلك، فالإدارة التي تحارب لسان وثقافة ولغة وتاريخ وحضارة وهوية أغلبية المغاربة وتتعامل باستهتار واللامبالاة وتهمش وتحتقر في أحيان كثيرة الدستور والقانون وتعمل وفق أهوائها، لا يمكن إلا أن تُبقي تصنيف المغرب في ذيل الدول، وتساهم في فشل كل المخططات التي تروم إلى تقدم البلد ورخائه وتجعله متأخرا في كل تراتيب الدول في مجالات التنمية، الصحة والتعليم وغيره.
هذا اللوبي الإداري الذي يتواجد على رأس أغلبية المجالس والإدارات الإستراتيجية، هو من يتحمل مسؤولية هذا التقهقر المستمر للمغرب في هذه المجالات رغم كل ما يخصص لها من ميزانيات ومخططات ووعود وخطابات واستراتيجيات، إذ كيف يمكن أن يتقدم المغرب في مجال التعليم على سبيل المثال وقس على ذلك باقي المجالات وهو يحارب الأمازيغية ويقصيها من كل مخططاته وتصوراته، بل ويتجاهلها بشكل مستفز وكأنها غير موجودة، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر مخططات المجلس الأعلى للتربية والتكوين، مؤسسة الحسن الثاني للمغاربة المقيمين بالخارج، الاتفاقيات التي تبرمها الوزارة الوصية على القطاع مع مختلف الدول الأوربية لتدريس أبناء الجالية، وأكثر من هذا السياسيات الحكومية في مجال التعليم بالمغرب، ومن يتابع ما يعيشه ملف تدريس الأمازيغية حتى في ظل الحكومة الحالية سيتأكد بلا شك بأن الإدارة ماضية في سياستها التمييزية والإقصائية والإرادة غائبة تماما للتصالح مع الذات الأمازيغية.
ولعل المتتبع للشأن الأمازيغي سيلاحظ مدى تراجع وبطء أجرأة كل القرارات المتعلقة بالأمازيغية في مختلف المجالات وبجميع القطاعات، بل هناك تراجع حتى على ما تم تحقيقه في السابق على علّته ورغم أنه لم يصل إلى مستوى التطلعات ودون حتى ما جاء الدستور والقانون التنظيمي، وهذا ما يدفعنا إلى التأكيد على أن الأمازيغية ضحية اللوبي الإداري المتوارث في الإدارات المغربية والإرادة السياسية الغائبة.
ما يؤكد هاته السياسة الإقصائية هو فرض وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، على المترشحين لمباراة توظيف الأساتذة أطر الأكاديمية 2022/2023 تخصص اللغة الأمازيغية أن يجتازوا بالإضافة إلى مجال تخصصهم، “اختبار في اللغة العربية أو الفرنسية والرياضيات والعلوم واختبار ثان متعلق بديداكتيك نفس المواد”، وهذا ما يفسح المجال لغير المتخصصين في الأمازيغية للظفر بالمناصب القليلة المخصصة للمتخصصين بالنظر إلى المعامل المرتفع لمواد العربية الفرنسية والرياضيات، ممّا سيساهم في تقليص عدد مدرسي اللغة الأمازيغية، وبالتالي التنكر لالتزامات والتعهدات حول تعميم اللغة الأمازيغية أفقيا وعموديا وتجاهل القانون التنظيمي الذي يحث على تعميم الأمازيغية في أفق 2026.
ويستهدف هذا اللوبي الإداري الذي يتحكم في الوزارة بهذا القرار اقبار تخصص الأمازيغية بالمدرسة المغربية واسناد المزدوج فيما بعد لأساتذة اللغة الامازيغية، وتكريس الدونية والتراتبية بين اللغتين الرسميتين واللا مساواة وجعل الأمازيغية مجرد لغة ثانوية ولغة الاستئناس وهذا ما يبعث بشكل مباشر على غياب أية إرادة حقيقية لتنزيل الرؤى والتصورات والمخططات التي ترددها الوزارة الوصية على القطاع في كل مناسبة وغيرها.