اعتبرت أغلب القوى المجتمعية، ومعها الرأي العام الوطني والدولي، قرار ترسيم اللغة الأمازيغية في الوثيقة الدستورية لسنة 2011 (ديباجة الدستور، الفصول 5 و31 و19 و26 و28 و31 و33) مكسباً ديموقراطياً من شأنه المساهمة في تمتين اللحمة الوطنية وتعزيز الشعور الوطني لدى المغاربة، فضلاً عن تأهيل المجموعة الوطنية للإشتغال داخل المؤسسات بنفسٍ تشاركي وتعاوني بما يخدم المصلحة العليا للبلاد. غير أن الإنصاف الدستوري للأمازيغية، المفترض أنه أصبح واقعاً، تحول إلى نقمة عليها وظلم جديد. وهذا الحيف، هذه المرة على عكس تجارب الماضي القريب، سيكون داخل المؤسسات وبموجب القوانين؛ بحيث كيف يمكن تفسير أن ما تقرّر أنه حق وواجب من الدولة ومؤسساتها تجاه الأمازيغية، بموجب الدستور، تحول، في ما يشبه تحايلاً والتفافاً إن لم نقل سرقة موصوفة مع سبق الإصرار والترصّد من طرف الخصوم الإيديولوجيين والسياسيين، إلى إعادة تقوية العربية وتعزيز مشروع التعريب ببلادنا، وهي التي استفادت من تمويل وإمكانيات الدولة لعقود مضت، بل لقرون خلت.
فالفلسفة التي وجّهت واضعي الوثيقة الدستورية، في ظل سياق الحراك السياسي الذي عرفه المغرب منذ 2011، كانت تستند إلى ضرورة تمكين الأمازيغية، ضمن منظور الإنصاف والتمييز الإيجابي، من وضع دستوري يؤهلها للاستفادة من إمكانات الدولة ودعمها المباشر، كما كان الأمر عليه مع اللغة العربية؛ غير أن هذا الحق تحول إلى جهات أخرى بدأت تستقوي به على الأمازيغية وعلى المؤسسات المشهود لها بالعطاء والإنتاج في مجال الأمازيغية وكذا الفاعلين والباحثين والمهتمين بشؤونها العامة.
إن مضامين القانون التنظيمي رقم 04.16، المتعلق بإحداث المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، تخدم مشروع التعريب بشكل أولوي وتقلص حظوظ الأمازيغية في النماء والتطور. نكتفي باستحضار العناصر الآتية ليتبيّن أن هناك بوادر سياسة جديدة تروم خنق الأمازيغية باسم القانون وباسم المؤسسات:
تم تحويل، بموجب القانون المذكور أعلاه، المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية من مؤسسة قائمة الذات، باعتماداتها المالية المفتوحة في الميزانية العامة للدولة والأرصدة المالية الموجودة في حساباته البنكية، وكذا العقارات والمنقولات وحقوق الملكية الفكرية المملوكة له، وموارده البشرية، ومقره الذي يرمز إلى تجذر الثقافة الأمازيغية في التربة المغربية، ورصيدها الرمزي وانجازاتها، إلى مجرد مديرية يتم إلحاقها بالمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية ، لا حول لها ولا قوة أمام مختلف التمثيليات التي يتألف منها المجلس؛
سحب الاستقلالية المالية والإدارية التي يتمتع بها المعهد حاليا في ظل الظهير الشريف المحدث والمنظم له، وإحالتها إلى المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية ورئيسه، مع الإبقاء فقط على صفة آمر بالصرف مساعداً لهذا الأخير لمديري المؤسسات التابعة للمجلس، ومنها المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية؛
الرقي بوضعية أكاديمية محمد السادس للغة العربية من مؤسسة لم توجد على أرض الواقع، باستثناء إصدار القانون رقم 10.02 القاضي بإحداثها، إلى مؤسسة قائمة الذات، وبصلاحيات واسعة ومهام قوية؛ من شأنها استكمال مسلسل التعريب السياسي الذي أقرته النخب الحاكمة في ما مضى؛
التراجع عن حل معهد الدراسات والأبحاث للتعريب في ظل مشروع القانون التنظيمي المشار إليه في مجلس المستشارين في إطار القراءة الثانية للمشروع، وهو ما يعني ربح مؤسستين قويتين تعنيان باستكمال مشروع تعريب المغرب وحضارته وتحويلها إلى حضارة عربية، مقابل القضاء النهائي على المؤسسة الوحيدة التي تُعنى، رسميا، بالشأن الأمازيغي رغم قلة وضعف الإمكانيات والموارد المرصودة لها بالنظر للمهام الجسيمة والانتظارات المجتمعية القوية منها؛
تفكيك أي تجمع مهني-وظيفي أو أكاديمي أو مؤسساتي من شأنه أن تنسيق أعمال الباحثين والمهتمين والأطر التي تشتغل حول ملف الأمازيغية في مختلف حقول المعرفة، لأن ذلك سيعطي سيفرز وضعاً جديداً ومتقدماً بالنسبة لأوضاع الأمازيغية، بحيث ستظهر وظائف جديدة في لصيقة بها مما سيربط بشكل قوي قضية اللغة والثقافة بالعامل الاجتماعي والاقتصادي؛
إغراق المؤسسات والهيئات بتمثيليات لا حصر لها، وأحيانا دون منطق معقول، حتى لا يتم إسماع صوت القضية التي تطالب بحقوقها المشروعة والتغطية على ممثليها بدعوى صوت الأغلبية، وهي على كل حال أغلبية مصنوعة ومخدومة سياسياً؛
مجمل القول؛ أن ما كان يُعتبر حقاً مُنصفاً لفائدة الأمازيغية، بموجب الدستور، تحوّل، بفضل الضغوط السياسية للجماعات المُهيمنة في البرلمان والحكومة وباقي مراكز القرار، إلى التعريب والعربية، رغم ما تتمتع به هذه الأخيرة من موارد وإمكانات لا أحد يمكنه أن يجادل فيها، مقارنة مع الوضعية الهشة للغة الأمازيغية.
ويبقى الرهان قائماً على جهود الحركة الأمازيغية والديمقراطيين وكل المُنصفين في ضمائرهم للتحرك بشكل مستعجل في مختلف المستويات لوقف هذه المهزلة التشريعية، حتى لا يتم خلق واقع جديد ببلادنا قد يُهدّد مستقبله ولحمته الاجتماعية؛ لاسيما في ظل السياق السياسي الإقليمي والدولي الراهن. فقرار إقصاء الأمازيغيين سياسياً ومؤسساتياً وشرعنته بموجب القوانين والهيئات لن يثنيهم عن الكفاح والنضال الديمقراطي السلمي في اتجاه تحقيق المساواة والعيش بكرامة في بلدهم. وفي حالة ما تحقق هدف هذه الجهات التي تقرر هذه السياسة الجديدة وبلورتها في مضامين القانون التنظيمي، ستكون الدولة المغربية قد تنصّلت من التزاماتها الأممية في ما يتعلق بضمان التعددية الثقافية واللغوية وتأطيرهما والرقيّ بمختلف التعبيرات الفنية والثقافية المغربية.
وفضلاً عن ذلك، فالمحكمة الدستورية مُطالبة باستحضار، في نطاق مهامها ووظائفها، مدى مطابقة مشروع القانون التنظيمي رقم 04.16 لروح الدستور والفلسفة التي بُني عليها قرار ترسيم اللغة الأمازيغية إلى جانب العربية.
علي موريف