الأمازيغية والاستعمار أم العروبة والاستعمار؟

بقلم: محمد بودهان

رغم أن عنوان “الأمازيغية والاستعمار الفرنسي”، الذي اختاره الأستاذ الطيب بوتبقالت لدراسته المطوّلة، التي نشرها طيلة شهر رمضان بجريدة “هسبريس” الإلكترونية، مقسّمة إلى تسع وعشرين حلقة، بدءا من 17 ماي 2018، قد يوحي، استنادا إلى الإرث الأمازيغوفوبي “للحركة الوطنية” التي اجتهدت في ربط الأمازيغية بالاستعمار، بتورّط الأمازيغية وأصحابها الأمازيغيين مع الاستعمار من خلال استعمالهما من طرف هذا الأخير لتقسيم المغرب على أساس عنصري، إلا أن الأستاذ بوتبقالت كان، أثناء العرض والتحليل، “معتدلا” ومتحفّظا، ساعيا لتجاوز الأفكار الجاهزة حول علاقة الأمازيغية بالاستعمار الفرنسي، والظهور بمظهر الباحث الأكاديمي الموضوعي.

لكن رغم هذا الحذر المنهجي الذي حاول الكاتب أن يلتزم به، إلا أنه لم يستطع التخلص من القراءة “الوطنية” (نسبة إلى “الحركة الوطنية”) لفترة الحماية، وللعلاقة بين الأمازيغية والاستعمار على الخصوص. ونقصد بالقراءة “الوطنية”، للعلاقة بين الأمازيغية والاستعمار، تلك القراءة التي صنعتها ـ وصنعت هي بدورها تلك الأسطورةَ ـ أسطورة “الظهير البربري”، التي ظلّت منذ الاستقلال هي المرجع الموجّه، بشكل مباشر صريح أو ضمني غير مباشر، لكل تفكير في الأمازيغية والأمازيغيين. وسيتضح لنا، في ما يأتي من مناقشة، كيف يستلهم الأستاذ بوتبقالت هذه القراءة “الوطنية” في فهم هذه العلاقة المفترضة بين الأمازيغية والاستعمار الفرنسي، التي يؤكد عليها في عنوان دراسته.

التفكير والتفسير بنظرية المؤامرة:

ولأن نظرية المؤامرة تشكّل لبّ هذه القراءة “الوطنية” للأمازيغية ولعلاقتها المزعومة مع الاستعمار، فقد جعل منها الأستاذ بوتبقالت ركيزة لتفسير أي عمل قامت به فرنسا أو كانت تعتزم القيام به في المغرب، مثل ما يخص نشر اللغة والثقافة الفرنسيتين قبل فترة الحماية وأثناءها. وهكذا أصبحت مدارس الرابطة الفرنسية في المغرب، التي بدأت عملها منذ 1882، ترمي، حسب هذا المنطق المؤامراتي، «إلى نشر ثقافة مغلوطة تجعل من المغاربة أداة طيعة يتم تسخيرها لفائدة الاستغلال الاستعماري» (الحلقة 3). حتى إذا كان هذا الهدف هو الدافع وراء إنشاء فرنسا لتلك المدارس بالمغرب، فهل التمكّن من اللغة والثقافة الفرنسيتين من طرف غير الفرنسي سيجعله بالضرورة “أداة طيعة” لخدمة المخططات الاستعمارية الفرنسية التي تستهدف بلده؟ أليس التكوين الفرنسي لمن يسمّون بـ”الوطنيين” هو الذي سمح لهم باكتشاف واستعمال مفاهيم “الوطن” و”الوطنية”، وجعلهم يدركون خطورة الاستعمار ويرفضونه ويطالبون بالاستقلال؟ هل كان غاندي، المتشبّع باللغة والثقافة الإنجليزيتين، وذو التكوين القانوني الإنجليزي، “أداة طيعة” للاستعمار البريطاني الذي احتلّ بلده الهند؟ هل كان البطل مولاي موحند (عبد الكريم الخطابي) “أداة طيعة” للاستعمار الإسباني، وهو الذي ألحق أكبر هزيمة بإسبانيا في معركة أنوال رغم أنه كان ذا تكوين إسباني، متضلعا في اللغة الإسبانية وكاتبا صحفيا في جرائد إسبانية؟ ألم يكن الكاتب الفرنكوفوني الجزائري كاتب ياسين من ألدّ أعداء فرنسا ومن الرافضين والمقاومين لاستعمارها للجزائر؟ هل نحن المغاربة، الذين ندرس الفرنسية ونتعلمها من المهد إلى اللحد، “أداة طيعة” لفرنسا تستعملنا لخدمة مصالحها، وحتى عندما يكون في ذلك إضرار بمصلحة المغرب؟

نريد بهذه الأسئلة أن نبيّن غياب أية علاقة سببية بين نشر وانتشار اللغة الفرنسية وبين الولاء لفرنسا أو نقص في الولاء للوطن، ذلك أننا قد نجد من بين الأميين والجاهلين للفرنسية من كانوا عملاء لفرنسا وخونة للوطن، ومن كانوا من أشرس المقاومين للاستعمار وأكبر المدافعين عن بلدهم المغرب. كما قد نجد من بين المتعلمين المتضلعين في اللغة الفرنسية وآدابها من كانوا عملاء لفرنسا وخونة للوطن، ومن كانوا من أشرس المقاومين للاستعمار وأكبر المدافعين عن بلدهم المغرب.

ومما يدخل في إطار التفسير بنظرية المؤامرة عند الأستاذ بوتبقالت، والتي هي شرط للإقناع بالعلاقة بين الأمازيغية والاستعمار، ترديده، رغم أنه يعترف أن «الدعاية التنصيرية بالمغرب لم تسجل آثارا تذكر» (الحلقة 7)، لأكذوبة “الحركة الوطنية” أن الاستعمار كان يعتزم تنصير المغاربة، متوقفا عند دور البعثات التبشيرية، ثم مُفردا الحلقة 27 لما سمّاه “معالم المشروع التنصيري”، الذي رأى فيها أداة كولونيالية تستهدف زعزعة إيمان المغاربة حتى يسهل على فرنسا السيطرة على المغرب، بعد إضعاف عنصر المقاومة التي يشكّلها الإسلام. هنا يكشف الأستاذ بوتبقالت أنه ينطلق مما هو شائع وعامّي، دون فهم عميق وعلمي للخطة الاستعمارية الفرنسية لاحتلال المغرب. ففرنسا لم تكن في حاجة إلى نشر نصرانيتها بالمغرب حتى تجد فيها سندا لاحتلاله. لماذا؟ لأن هذا السند وجدته، وبالشكل الذي ما كان لتوفّره لها الديانة المسيحية لو انتشرت بالمغرب، في الإسلام نفسه الذي يوحي تحليل الأستاذ بوتبقالت، مكررا أكاذيب “الحركة الوطنية”، أن فرنسا كانت تحاربه. ففرنسا عرفت كيف تستغل الإسلام وتستعمله لمصلحتها بالتظاهر باحترامه، بل وخدمته من خلال ترميم المساجد والعناية بالعلماء والأئمة والخطباء، الذين جعلت منهم شبه موظفين يعملون لحسابها ولفائدتها. والأستاذ بوتبقالت نفسه يُقر أن فرنسا استعانت بالإسلام لبسط سيطرتها على المغرب، من خلال كسبها بسهولة لولاء العديد من الزوايا الدينية التي وظفت تأثيرها الديني، الشعبي الواسع، لجعل المغاربة يقبلون الاحتلال.

نعم، المسألة الأمازيغية من صنع الاستعمار الفرنسي:

اختار الأستاذ بوتبقالت، كعنوان لموضوعه، “الأمازيغية والاستعمار الفرنسي” ليذكّرنا، كما سبقت الإشارة، بالعلاقة ما بين الأمازيغية والاستعمار، مع ما قد تعنيه ضمنيا تلك العلاقة من صلة خاصة للأمازيغية بالاستعمار والمحتل الفرنسي. هو إذن يكرر، من خلال هذا العنوان، أكذوبة “الحركة الوطنية” التي روّجت أن المسألة الأمازيغية هي من خلق الاستعمار الفرنسي عندما استعمل الأمازيغيين لنشر النصرانية بينهم بهدف محاربة الإسلام، وزرع الفتنة العنصرية، وتقسيم عرقي للمغرب ليسهل احتلاله والسيطرة عليه. إذا كان قد ثبت اليوم أن ادعاء “الحركة الوطنية” بأن فرنسا استعملت العنصر الأمازيغي لمحاربة الإسلام وتقسيم المغرب هو مجرد إفك وبهتان، فإن ترويجها أن المسألة الأمازيغية هي من خلق الاستعمار الفرنسي، هو حقيقة، في عناصرها وسياقها والأطراف المشاركة فيها. لكنها حقيقة “مقلوبة”، في أسبابها ونتائجها وأهدافها. كيف ذلك؟

قبل الاحتلال الفرنسي للمغرب لم تكن هناك مسألة أمازيغية، لسبب بسيط وهو أنه لم يكن هناك مغرب عربي، ولا حتى المغرب كاسم قُطْري خاص بدولة المغرب الحالية، التي كان يُطلق عليها “مراكش” وليس المغرب. وهذا ما يوضّحه الأستاذ بوتبقالت نفسه عندما كتب يقول: «من المعلوم أن اسم “المغربّ في جل اللغات الأوروبية (Marokko, Morocco, Maroc Marruecos, etc) هو في الأصل تحريف لكلمة “مراكش”» (الحلقة 1). كما أنه يؤكد أن ما يسمى اليوم بالمغرب العربي كان يسمى عند الفرنسيين بـ«إفريقيا “البربرسكية» (Barbaresque)(الحلقة 6)، نسبة إلى سكانها “البربر”، قبل أن يُستغنى عن كلمة Barbaresque وتُعوّض، مع أواخر القرن التاسع عشر، بكلمة Berbère الحديثة مقارنة بالكلمة الأولى. ويورد الكاتب مقتطفا من وثيقة فرنسية تتحدث عن الجزائر وتونس جاء فيها: «في البلدين البربرسكيين (الجزائر وتونس)، اللذين استولينا عليهما» (الحلقة 6). وهو ما يبيّن أن فرنسا كانت تعتبرهما بلدين أمازيغيين (بربرسكيين). ويضيف الأستاذ بوتبقالت: «وفي التاريخ الحديث ركز معظم الباحثين الأوروبيين على أن أغلبية ساكنة إفريقيا الشمالية من الأمازيغ، وأطلق بعضهم على هذه المنطقة من العالم اسم “بربريا” بمعنى “بلاد البربر”» (الحلقة 17). إذن فرنسا، لما احتلت المغرب (وكذلك الجزائر وتونس)، كانت تعتبره بلدا أمازيغيا، أي ينتمي إلى “بلاد البربر” بتعبير السيد بوتبقالت. ومن المنطقي أنه لا يمكن أن تكون هناك “مسألة أمازيغية” تخص جزءا من السكان، ما دام جميع هؤلاء السكان يشتركون في نفس الانتماء الأمازيغي إلى “بلاد البربر”.

لكن ليوطي سيقوم ـ وهو ما لم يقم به العرب ولا الرومان قبلهم ـ بعملية تعريب سياسي ـ وليس لغوي ـ للمغرب، وذلك بإنشائه لدولة عربية بالمغرب، ذات هوية وانتماء عربيين، مع خلق وتوفير كل الشروط السياسية والمؤسساتية والقانونية والرمزية (العلم والنشيد الوطنيان)، الضرورية لهذه الدولة العربية، ذات الصنع الفرنسي. الشيء الذي جعل السلطة السياسية للدولة المغربية تُمارس، سواء أثناء فترة الحماية من خلال توقيع السلطان للظهائر التي كانت تحررها سلطات الحماية أو بعد الاستقلال على الخصوص، باسم الانتماء العربي. وهو ما نتج عنه إقصاء سياسي للأمازيغية بسبب استفراد العروبة، التي صنعتها وفرضتها فرنسا، بالسلطة السياسية، مع ما نجم عن هذا الإقصاء السياسي من إقصاء لغوي وثقافي وهوياتي وتاريخي للأمازيغية. هكذا يكون خلق فرنسا بالمغرب لدولة بانتماء عربي تمارس سلطتها السياسية باسم العروبة، قد خلق في نفس الوقت، نتيجة لذلك، الشروط الموضوعية والسياسية والثقافية لظهور “مسألة أمازيغية” بالمغرب. ويتجلى ذلك في تهج السلطة السياسية، الاستعمارية في عهد الحماية ثم “العربية” (لنتذكر أن المغرب أصبح عربيا منذ 1912) في عهد الاستقلال، لسياسة خاصة بالمغاربة الذين بقوا محافظين على أمازيغيتهم ولم يتحوّلوا، كما فعل الكثير منهم، من جنسهم الأمازيغي الأصيل إلى جنس عربي منتحل، قصد إدماجهم في النظام العربي الجديد الذي أقامته فرنسا بالمغرب. هذه السياسة هي التي تسمى بـ”السياسة البربرية”، سواء القديمة التي طبقتها سلطات الحماية، أو الجديدة التي طبقتها دولة الاستقلال. بالإضافة إلى هذا الجانب من “المسألة الأمازيغية”، التي هي نتيجة للتعريب السياسي من طرف الاستعمار الفرنسي لدولة المخزن المغربية، وهو الجانب المتعلق بكيفية تعامل السلطات، الاستعمارية ثم الاستقلالية، مع الأمازيغية والأمازيغيين، بعد أن حوّلت فرنسا المغرب إلى بلد عربي، (بالإضافة إلى ذلك) هناك الجانب المتعلق بشعور الأمازيغيين بالحيف والإقصاء والتهميش. وهو ما أدّى، وخصوصا بعد الاستقلال، إلى ظهور أصوات وحركات ودعوات تطالب بإنصاف الأمازيغية والأمازيغيين. وهو ما سيشكّل ما يُعرف بالحركة الأمازيغية، التي هي تعبير عن وجود قضية أمازيغية بالمغرب، والتي ترجع أصولها إلى تعريب فرنسا للمغرب سياسيا، كما سبقت الإشارة.

“المسألة الأمازيغية” بالمغرب، سواء في مظهرها المتعلق بـ”السياسة البربرية”، أو ذاك المتعلق بظهور حركة أمازيغية مطلبية تدافع عن الحقوق الأمازيغية، هي إذن من خلق الاستعمار الفرنسي حقا وفعلا، وذلك عندما أنشأ دولة عربية فيها إقصاء سياسي للأمازيغية، وليس كما تزعم “الحركة الوطنية” أن ميلاد “المسألة الأمازيغية” يرجع إلى استعمال الاستعمار للأمازيغية لتقسيم المغرب ومحاربة الإسلام.

أين هي «الضربة الموجعة» للهوية المغربية؟

في تناوله لظهير 11 شتنبر 1914، قال الأستاذ بوتبقالت بأن هذا الظهير صوّب «ضربة موجعة في صميم الهوية المغربية» (الحلقة 16)، التي يبدو أنه، حسب السياق الذي أثارها فيه، يحصرها (الهوية) في ما هو ديني إسلامي. وعندما نعود إلى الظهير في نصه الفرنسي الصادر بالنسخة الفرنسية من الجريدة الرسمية عدد 100 بتاريخ 21 نوفمبر 1914، الذي نقله الأستاذ بوتبقالت مترجما إلى العربية، أو في نصه العربي الصادر بالنسخة العربية من الجريدة الرسمية عدد 73 بتاريخ 18 سبتمبر 1914، نجده يقول، بعد ديباجة يذكّر فيها أن القبائل الأمازيغية معروفة بالاحتكام إلى العرف منذ قديم الزمان، في فصله الأول، الذي اعتبره الأستاذ بوتبقالت «ضربة موجعة» للهوية المغربية: «إن القبائل البربرية الموجودة بإيالتنا الشريفة تبقى شؤونها جارية على مقتضى قوانينها وعوايدها (هكذا وردت الكلمة في نص الظهير) الخصوصية تحت مراقبة ولاة الحكومة». ما يعتبره إذن الأستاذ بوتبقالت «ضربة موجعة» للهوية المغربية هو إقرار سلطات الحماية لاستمرار القبائل في ممارسة أعرافها. فهل إبقاء هذه السلطات على الوضع القانوني والعرفي للقبائل الأمازيغية كما هو، فيه مس بالهوية المغربية؟ هل كان الكاتب ينتظر من الاستعمار أن يقوم بما لم يسبق أن قام به أي سلطان مغربي، وهو منع القبائل من الاحتكام إلى أعرافها؟ وحتى على فرض أن في هذه الأعراف ما يخالف الشريعة، فهل كان السيد بوتبقالت ينتظر من سلطات الاستعمار، التي قال عنها بأنها كانت معادية للإسلام، أن تكون أكثر غيرة على الشريعة من سلاطين المغرب المسلمين، فتقرر وقف العمل بالأعراف؟ فسلطات الحماية، بإقرارها لأعراف القبائل، لم تضف شيئا ولم تأت بجديد من عندها يمكن أن يكشف عن نيتها في ضرب الهوية المغربية، دائما حسب الفهم الديني للهوية لدى السيد بوتبقالت. فكل ما فعلته هو أنها صادقت على ما كان يجري العمل به قبل الحماية من ممارسة للأعراف الأمازيغية. كانت ستكون هناك “ضربة موجعة” للهوية المغربية، كما يفهمها السيد بوتبقالت، لو أن هذه السلطات قامت بفرض الأعراف على القبائل التي لم تكن تمارسها من قبل، أو لو أن هذه الأعراف كانت قد اختفت وانقرضت، ثم قامت سلطات الحماية بإحيائها وإلزام القبائل بممارستها من جديد.

ونفس الشيء يقال عن ظهير 16 ماي 1930، المسمّى زورا وبهتانا بـ”الظهير البربري”، الذي لا يختلف، من حيث الأسباب والأهداف، عن ظهير 11 شتنبر 1914 إلا بإضفائه للصفة القانونية الإلزامية على الأحكام العرفية، وبإنشائه لمحاكم عرفية مع تبيان اختصاصاتها الترابية والنوعية، دون أن يمس القواعد العرفية نفسها، التي كانت موجودة وممارسة قبل الحماية، كأن يزيد فيها أو يضيف إليها أخرى أو يعدّلها أو يلغيها، باستثناء ما يتعلق بالفصل السادس الذي أسند فيها الاختصاص للمحاكم الفرنسية بخصوص الجنايات، وذلك من أجل مطاردة ومحاصرة رجال المقاومة، الذين كانوا يقتلون المتعاونين مع جيش الاستعمار، قصد إضعاف هذه المقاومة بتخويف رجالها من تقديمهم للعدالة الفرنسية للانتقام منهم.

أما «الضربة الموجعة» الحقيقية التي صوّبها الاستعمار الفرنسي إلى الهوية المغربية الحقيقية، فهي تلك المتمثّلة في إنشائه لدولة عربية بانتماء عربي في بلاد البربر ذات الانتماء الأمازيغي، مع ما نتج عن ذلك، كما سبق أن شرحنا، من إقصاء سياسي للهوية الأمازيغية التي كان يُعرف بها المغرب والمغاربة قبل الاحتلال الفرنسي، كما يُقرّ بذلك الأستاذ بوتبقالت نفسه، كما سبقت الإشارة.

الأمازيغية والاستعمار أم العروبة والاستعمار؟

عنوان الموضوع ـ الأمازيغية والاستعمار الفرنسي ـ قد يوحي باتهام الأمازيغية وأصحابها الأمازيغيين في علاقتهما بالاستعمار، الذي يكون قد سهل عليه استعمالهما لتوجيه “الضربات الموجعة” لوحدة المغاربة وهويتهم وعقيدتهم. وحتى ينجح هذا الاستعمال الاستعماري للأمازيغية والأمازيغيين، جعل منه المستعمر قطاعا سياسيا خاصا يُعرف بـ”السياسة البربرية”، رصد لها كل الموارد البشرية والمالية اللازمة، ووفّر لها كل الوسائل القانونية والمؤسساتية والعلمية (الدراسات العلمية حول الأمازيغية والأمازيغيين) الضرورية، لتُحقّق أهدافها المتمثلة في كسب الولاء لفرنسا وتقسيم المغرب للسيطرة عليه بسهولة، وزعزعة عقيدة المغاربة بالعمل على تنصير الأمازيغيين. هذا هو دور الأمازيغية والأمازيغيين في علاقتهما بالاستعمار، حسب الفهم “الوطني” “للسياسة البربرية”، كما روّجته “الحركة الوطنية”، وهو، كما سبقت الإشارة، نفس الفهم الذي استلهمه السيد بوتبقالت في دراسته، كما يتجلّى ذلك في عنوان هذه الدراسة.

لكن إذا عرفنا أن الاستعمار لم يحتلّ المغرب رسميا وبصفة “قانونية” إلا بعد أن وقّع السلطان عبد الحفيظ المنتسب، حسب الاعتقاد الشائع، إلى العروبة وليس إلى الأمازيغية، معاهدة الاحتلال التي تسمى معاهدة الحماية؛ وعرفنا أن هذا الاستعمار عرّب المغرب سياسيا بإنشائه لدولة عربية، مع ما نتج عن ذلك من إقصاء سياسي للأمازيغية، كما سبق توضيح ذلك؛ وعرفنا أنه حارب القبائل الأمازيغية حتى سنة 1934 لإخضاعها لسلطة هذه الدولة العربية الجديدة؛ وعرفنا أن العديد من الزوايا الدينية، كما شرح ذلك الأستاذ بوتبقالت بتفصيل، ممن كان شيوخها ذوي نسب عربي شريف، دائما حسب الاعتقاد الشائع، تعاونت مع المستعمر بصدق وفعالية؛ وعرفنا أن المسلم الوحيد الذي ارتدّ عن دين الإسلام واعتنق المسيحية أثناء فترة الحماية هو العربي ـ وليس الأمازيغي ـ السيد محمد بن عبد الجليل، المنتمي إلى أسرة فاسية ذات أصول أندلسية عربية وليست أمازيغية (لا يتعلق الأمر بمؤاخذة السيد ابن عبد الجليل على اعتناقه المسيحية، وإنما استشهدت بحالته لتبيان تهافت أطروحة السيد بوتبقالت حول العلاقة بين الأمازيغية والاستعمار)؛ وعرفنا، كما أسهب في توضيح ذلك الأستاذ بوتبقالت، أن المحميين، الذين كانوا خونة موالين لدول أجنبية ضد بلدهم المغرب، كانوا عربا ـ دائما حسب الاعتقاد الشائع ـ وليسوا أمازيغيين…؛ إذا عرفنا كل ذلك سنعرف أن الحماية كنت تعني حماية العروبة والتمكين للمنتسبين إليها بإقامة دولة عربية لهم، ومحاربة الأمازيغيين الرافضين لهذه الحماية كمرحة أولى، ثم العمل، في المرحلة الثانية بعد انتهاء العمليات الحربية، من أجل انضوائهم تحت سلطة هذه الدولة العربية الجديدة، من خلال تطبيق “سياسة بربرية” خاصة بالأمازيغيين، ترمي إلى إدماجهم في النظام العربي الجديد، الذي أقامته الحماية الفرنسية بالمغرب لفائدة المحسوبين على العروبة.

وهذا ما يفسّر أن الاستعمار الفرنسي، إذا كان ـ كما يركّز على ذلك الكاتب بشكل لافت ـ قد أولى اهتماما “علميا” خاصا بالأمازيغيين، من خلال ما أنجزه من بحوث حول قبائلهم ولغتهم وثقافتهم وتاريخهم ومجتمعاتهم…، وما جمعه من معطيات تخصّ بنيتهم الاجتماعية وتقاليدهم وأعرافهم وذهنيتهم ونظام زواجهم ونمط حياتهم…، فليس من أجل توظيف هذه المعطيات لضرب الوحدة الوطنية وخلق شرخ داخل النسيج الاجتماعي المغربي إعمالا لمبدأ “فرّق تسد”، كما يريد أن يقنعنا بذلك السيد بوتبقالت، وإنما من أجل الاعتماد على هذه المعرفة بالأمازيغيين ليختار في ضوئها أنسب الطرق وأقصرها وأنجحها لإدماجهم في الدولة العربية الجديدة ذات الصنع الفرنسي، وإخضاعهم لسلطتها السياسية بأقل كلفة وأكبر نجاعة. وهو ما تحقق بنجاح كبير بعد أن أصبحت كل القبائل وكل المناطق تابعة لهذه الدولة العربية، موالية لها وخاضعة لسلطتها، وذلك بفضل الاستعمار الفرنسي.

وبخصوص هذا الإخضاع للأمازيغيين من قبل الاستعمار لسلطة دولته العربية التي أنشأها بالمغرب، يسقط الأستاذ بوتبقالت في تناقض صارخ عندما يشرح بأن فرنسا استغلت كون الأمازيغيين كانوا دائما رافضين لسلطة المحزن، لاتخاذ هذا الرفض ذريعة لـ«حمايتهم من الابتزازات المخزنية التي كانوا دائما عرضة لها» (الحلقة 24). مع أن المعروف والثابت، الذي لا يشك فيه ولا يناقشه أحد، هو أن فرنسا لم تحم الأمازيغيين من المخزن الذي لم تكن له سلطة فعلية على القبائل الأمازيغية قبل الاحتلال الفرنسي للمغرب، بل حاربت هذه القبائل الأمازيغية بدعوى أنها خارجة عن المخزن، ومن أجل إدخالها تحت طاعته وإخضاعها، كرعايا، لحكمه وسلطته، كما فعلت مع مولاي موحند (عبد الكريم الخطابي)، الذي حاربته بدعوى أنه خارج عن المخزن.

النتيجة أن “السياسة البربرية” لم تكن إلا وسيلة لخدمة الغاية التي هي “السياسة العروبية”، التي مارستها فرنسا بالمغرب، والتي بلغت أوجها بإقامة الحماية لدولة عروبية بالمغرب. فـ”السياسة البربرية” لم تكن إذن إلا فرعا يعمل لحساب الأصل الذي تمثّله “السياسة العروبية” لفرنسا. ونظرا، كما أشرنا أعلاه، للتعاون مع الاستعمار الفرنسي من قِبل المجموعات التي كانت تعتبر نفسها عروبية، بدءا من السلطان عبد الحفيظ، ونظرا كذلك لمحاربة هذا الاستعمار للقبائل الأمازيغية حتى 1934، فإن العنوان المناسب لتلخيص علاقة فرنسا بالمغاربة أثناء فترة الاستعمار، هو “العروبة والاستعمار” وليس “الأمازيغية والاستعمار”. وذلك لأن هذا الاستعمار جاء لخدمة العروبة وحمايتها وتقويتها بإقامة دولة عربية لها، مع محاربة الأمازيغيين (القبائل الأمازيغية) بهدف إخضاعهم لسلطة هذه الدولة وإدماجهم فيها. فالدافع الرسمي والقانوني للاستعمار، وأهدافه ومراميه من احتلال المغرب، هو حماية العروبة التي كانت المستفيدة من هذا الاستعمار، وليست الأمازيغية التي كانت ضحيته بإقصائها السياسي، مع ما تبع ذلك من أقصاء لغوي وثقافي وهوياتي وتاريخي، كما سبق أن كتبت.

موقف “بربري” من الأمازيغية والأمازيغيين:

مما يلفت انتباه القارئ لدراسة الأستاذ بوتبقالت، هو أنه يستعمل نفس المفاهيم والمصطلحات ذات الحمولة الأمازيغوفبية، والموروثة عن مختلقي أسطورة “الظهير البربري”، مثل لفظ “بربري” الذي استخدمه كمصطلح رئيسي، بكل ما يتضمنه من تحقير عنصري للأمازيغية والأمازيغيين، وبالرغم من أنه استعمل في العنوان كلمة “الأمازيغية”، مما كان ينبغي معه منطقيا أن يواصل استعمال نفس اللفظ، اسما كان أو صفة، حتى لا يكون هناك تضارب بين العنوان والعرض. لكن الكاتب أبى إلا أن يستعمل في عرضه للموضوع لفظ “بربر”، وصيغه الاشتقاقية (بربري، بربرية، برابرة)، في تناقض مع مفهوم الأمازيغية الذي أعلن عنه في العنوان.

ولا يمكن الاعتراض أن الأستاذ بوتبقالت استعمل اللفظ المعروف تاريخيا وهو “البربر”، وما يصاغ منه من اسم منسوب مثل “البربري”، كما هو ثابت في الكتابات العربية، وحتى في اللغات الأجنبية، مثل اللغة الفرنسية التي لا زالت تستعمل كلمة “بيربير” Berbère. هذا اعتراض مردود، وذلك:

ـ لأن كتاب العربية عندما كانوا يستعملون كلمة “بربر”، كانت لهذا اللفظ دلالة واحدة تعني سكان “إفريقية”، التي كان يُقصد بها شمال إفريقيا. فلم تكن لهذه الكلمة دلالتها الثانية الجديدة على العربية، والتي تعني: «هَمجيّ، وحشيّ، بدائيّ، غير متحضِّر» (معجم المعاني).

ـ ولأن اللغة الفرنسية، التي تستعمل كلمة Berbère التي تشترك في نفس الجذر مع الكلمة العربية “بربر”، تميّز بشكل واضح، رغم اشتقاقهما من نفس الجذر، بين كلمة Berbère ، التي تعني «السكان الأولين لشمال إفريقيا» كما يشرحها معجم “موسوعة أونيفيرساليس” Encyclopédie Universalis، وبين كلمة Barbare، التي تعني «غير متحضّر، همجي، قاسٍ»، كما يشرحها نفس المعجم. وهذا بخلاف العربية التي تستعمل نفس الكلمة للدلالة على الانتساب إلى السكان الأصليين لشمال إفريقيا، وللدلالة ـ الجديدة والدخيلة على العربية ـ على الوحشية والهمجية والقساوة والتخلف.

فلماذا الإصرار على تسمية الإنسان الأمازيغي بـ”البربري”، بعد أن اكتسبت هذه الكلمة دلالة قدحية وتحقيرية في العربية كتعريب لكلمة Barbare، وفي الوقت الذي شاع فيه استعمال الاسم الحقيقي والعلمي والرسمي، الذي كرسه الدستور وتستعمله الدولة ومؤسساتها، وهو لفظ “أمازيغ” وما يشتق منه من أوصاف وألفاظ أخرى؟ بل إن إصرار الكاتب على استعمال صفة “بربري” بدل “أمازيغي”، جعل هذا اللفظ يبدو نشازا في سياقات وتعابير لا يستقيم معناها مع لفظ “بربري”، مثل “المجتمع البربري”، “العرف البربري”، “الأسرة البربرية”، “الجماعات البربرية”، “القبائل البربرية”، “سياسة الحماية البربرية”، “الدراسات البربرية”، “الوثائق البربرية”، “الأوساط البربرية”… فإذا كانت لهذه التعابير معناها المنسجم والمفهوم والمقبول في أصلها الفرنسي الذي ترجمه السيد بوتبقالت إلى العربية، فلأن النص الفرنسي استعمل لفظ Berbère، الذي يعني “أمازيغي”، كما شرحنا، وليس Barbare الذي يعني “الهمجي”، و”المتوحش”، و”غير المتحضّر”. وهو ما تعنيه بالعربية صفة “بربري” التي يفضّل الكاتب استعمالها. فعبارة “الوثائق البربرية” يقابلها بالفرنسية Archives barbares، وليس Archives berbères المستعملة في الكتابات الفرنسية، وهو ما تكون معه ترجمتها من طرف الكاتب بـ”الوثائق البربرية” خطأ، لأنها تؤدّي معنى Barbares، وليس Berbères، أي أمازيغية.

بهذا الإصرار للكاتب على استعمال صفة “بربري” بدل “أمازيغي”، يكون هو من يمارس سلوكا “بربريا” حقيقيا تجاه الأمازيغية والأمازيغيين، كاشفا بذلك عن غلبة الموقف “البربري” من الأمازيغية، المستحكم لدى العديد من المثقفين المغاربة.

شاهد أيضاً

الجزائر والصحراء المغربية

خصصت مجموعة “لوماتان” أشغال الدورة السابعة لـ “منتدى المغرب اليوم”، التي نظمتها يوم الخامس من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *