مقدمة :
درس التاريخ في المناهج والمقررات الدراسية، كان دائما انعكاسا موضوعيا لموازين القوى المهيمنة سياسيا في سيرورة وصيرورة فرض تأويل خاص وممنهج لاحداث ووقائع تاريخية لأهداف سياسية وأيديولوجية في إطار ما أسماه المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي بالهيمنة الثقافية الملازمة للسيطرة السياسية، إذ أن الثقافة والتاريخ والذاكرة عناصر أساسية في الإخضاع السياسي لأي نظام من الأنظمة.
مغربيا كان ورش إعادة قراءة التاريخ وكتابته ملازم لكل فترة من فترات الانفراجات الديموقراطية والتحولات السياسية الكبرى للدولة المغربية، فالمرابطين حاولوا اقصاء مخلفات البرغواطين عن طريق تبني مذهب إسلامي متشدد قائم على التجسيد والتجسيم ومحاربة الشيعة والخوارج الصفرية معا والموحدون انقلبوا على المذهب المرابطي باعتماد التوحيد وهدم كل الأضرحة والتشدد السني والاعتماد الكلي على روح الدين للغزالي .. هذا المسار من صناعة وتأويل التاريخ المغربي استمر إلى العصر الراهن ولم يكن من المفاجئ، بل كان من المنطقي جدا أن يبدأ الملك محمد السادس مرحلته في الحكم في سنة 1999 بإطلاق مسلسل الانصاف والمصالحة والذي كان التاريخ وترميم الذاكرة من صميم هذه المصالحة التاريخية بين المغاربة وتاريخهم الحقيقي ومحاولة ربط العهد الجديد بتاريخ “جديد” يجب ما قبله، لكن هل صحح في التاريخ المغربي المدرس ما يجب تصحيحه، أو بقيت فجوات وثغرات وأخطاء تاريخية ماتزال عالقة بدرس التاريخ المغربي؟.
1- المجهودات المبذولة في طريق تصحيح التاريخ في أفق المصالحة مهمة لكن غير كافية :
ثمة مجهودات معتبرة قامت بها الدولة المغربية ومؤسساتها وخاصة مؤسسة أرشيف المغرب التي قامت بعمل كبير ومؤسس من أجل تجميع أرشيفات المغرب داخليا وخارجيا وعلى رأس هذه المؤسسة مؤرخ كبير ومدقق متميز وهو الدكتور جامع بيضا وكذا المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب الذي يقوم بعمل بحثي مميز واستراتيجي بالنسبة للكتابة التاريخية المغربية والذي يترأسه الدكتور محمد قبلي، هذه المجهودات كانت هامة ورئيسية في سبيل تصحيح مجموعة من المغالطات التاريخية التي علقت بالدرس التاريخي المغربي ومن المجهودات الفردية التي يمكن أن نعول عليها لإنشاء مدرسة تاريخية مغربية مستقلة التي جاء بها العهد “الجديد” لابد أن ننوه بالعمل الكبير والجبار الذي قام به الدكتور والمؤرخ محمد القبلي في كتابه الدولة والمجال في المغرب الوسيط الذي تتطرق فيه بجرأة كبيرة وروح علمية لا غبار عليها لجذور تأسيس الدولة والمجتمع بالمغرب واضعا نصب عينيه ضرورة التركيز على تاريخ المغرب القديم أي قبل دخول الإسلام إلى المغرب، ويبقى كتابه الهام “تاريخ المغرب، تحيين وتركيب” الذي هو ثمرة أبحاث ودراسات قام بها عدد كبير من المؤرخين والباحثين المغاربة وتم نشره من قبل المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، لبنة أساسية من لبنات تصحيح وتنقيح التاريخ المغربي ومن أعظم الكتب التي لا مناص منها لكل باحث عن تاريخ المغرب الموضوعي والرصين ولو أن التاريخ يبقى نسبي والمعرفة التاريخية نسبية متغيرة حسب التطور العلمي وفتوحاته، يندرج عمل الدكتور القبلي ومجموعة من الباحثين ضمن توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة التي جاءت بتوصية هامة تتعلق بضرورة القيام بمراجعة تدريجية لمحتوى برامج مادة التاريخ ببلادنا. نعم استطاع القبلي وأمثاله من الباحثين المميزين أن يوقظوا جذوة البحث التاريخي العلمي عبر مساءلة بعض البديهيات والمسلمات المعتمدة والخاطئة في تاريخ المغرب، لكن ما يزال الكثير من العمل الذي يجب القيام به لتحصين الدرس التاريخي المغربي من الذاتيات والمزاجيات والأدلجة لاسيما وأن الأبحاث العلمية التاريخية الأركيولوجية على الخصوص قد فندت الكثير من المسلمات عن تاريخ نشاة الإنسان وموطنه الأصلي، ولم يعد من المقبول على الأقل منذ اليوم أن نتجاهل اكتشاف وجود أقدم جمجمة للإنسان العاقل بجبل ايغود بالمغرب وما يتطلب هذا الفتح العلمي من ضرورة تصحيح مفاهيم وتصورات كانت غلى أمس القريب تعتبر الشعوب الأمازيغية وافدة من مناطق أخرى من العالم ناكرة أن شمال افريقيا هو الموطن الأصلي للأمازيغ وأن النقوش الصخرية المكتشفة أخيرا بالجنوب المغربي أكدت أن المغرب كان منطقة تاريخ وحضارة منذ قرون غابرة عكس النظرة الاستعمارية الاستعلائية الهيغلية وغيرها التي تعتبر المنطقة منطقة ظلمات وجهل وأن استعمارها مبرر لتحضيرها ودفعها نحو المدنية.
2- في ضرورة تصحيح درس تاريخ المغرب على ضوء الفتوحات العلمية والمفاهيم هي البداية :
ما يزال بعض الباحثين المغاربة وغيرهم يستعمل لفظة البربر مكان الأمازيغ في وقت يعرف فيه الجميع أن كلمة البربر تسمية رومانية أطلقها الرومان على الشعوب المستعصية على الإنقياد لامبراطوريتهم، كما تشير البربر إلى عجمة اللسان بدل اللسان الروماني، لكن الباحثين المتقدمين من عرب وعجم أخذوا المصطلح واستعملوه بل تفننوا في ترويجه بدون حذر ابستيمولوجي ضروري رغم أن المنطقي والمعقول أن يستعمل المصطلح الذي اختاره كل شعب لنفسه لا الذي فرض عليه، فهل من المعقول والمنطقي أن يفرض اسم البربر على شعب اختار اسما اخر هو الأمازيغ أي الإنسان الحر؟ يحز في النفس كثيرا أن نقرأ في كتابات المؤرخ المغربي الكبير عبد الله العروي وهو من المدرسة التاريخية التاريخانية التي كان من المفروض أن تكون عقلانية وعلمية في تحديد مصطلحها والتدقيق في المفاهيم عندما يقول: “أثر التشاؤم المذكور في كل مجالات الدراسات المغربية، أول قضية نرى فيها بوضوح ذلك التأثير هي قضية الجنس البربري تعارضت لمدة طويلة مدرستان: واحدة تقول بأن أصل البربر من أوروبا، والأخرى أن اصلهم من الشرق الأوسط .. بل يتفق الجميع على أن الأغلبية الساحقة من البربر مكونة من خليط بشري استقر في العهد الحجري الصقيل”[1] في حقيقة الأمر فقد أعاد العروي أسطوانة اسم البربر بدون حذر ابستيمولوجي وايتمولوجي للكلمة بل سار على نهج الاستعمالات الاستعمارية للمفهوم حين ذكر المدارس الاستعمارية التي كانت تروج لفكرة أن الأمازيغ امتداد للجرمان أو السلاف أي للجنس الأوروبي وتكرار ادعاءات مدرسة القوميين العرب التي تعتبر الأمازيغ عرب عاربة دون أن ينتصر بشكل دقيق وعلمي للدراسات العلمية الأثرية الاركيولوجية التي حسمت إلى حد كبير عبر النقوش الصخرية والكتابات التي وجدت عمق الحضارة الأمازيغية وأصالتها في منطقة شمال افريقيا وقد ذكر العروي بنفسه هذه الاكتشافات الأثرية في كتبه، ورغم ان العروي نفسه انتقد التأليف الاستعماري حيث اعتبره “مليئا بالأحكام السلبية، المبنية على مفاهيم مسبقة، غير مرتبطة ارتباطا عضويا بوقائع التاريخ المغربي”، لكنه لم يستطع أن يذهب بعيدا في انصافه للأمازيغ في التاريخ، ربما قد يقول قائل بأن العروي قد كتب ما كتبه في سنوات الثمانينات والتسعينات قبل أن يعرف الفتح الاركيولوجي انتصاره العلمي المعروف الآن، وهذا صحيح لكن عليه أن يصحح كتاباته ومفاهيمه اليوم لأن من الاخلاقيات العلمية أن يصحح الباحث الرصين ابحاثه ويجودها كلما كان لذلك داعي علمي، اليوم وليس غدا لأن الكثير من الباحثين الشباب يستندون في أبحاثهم إلى درس العروي التاريخي الذي هو من الأبحاث والدراسات التي لا يمكن لدارس التاريخ أن يقفز عليها نظرا لجدتها وأهميتها منهجيا ومضمونا.
نفس الشيء ينطبق على استمرار استعمال عدد من الباحثين والصحفيين في مشارق الأرض ومغاربها، تسمية “المغرب العربي” التي تعكس عنصرية واقصاءا لا غبار عليه لمكون أساسي من مكونات الهوية الوطنية المغاربية الجامعة في بلاد المغارب، فهل من المنطقي والمعقول أيضا اختصار منطقة جغرافية في شمال افريقيا بتسمية عنصرية؟ أليس من الأجدى والأنفع والأصح تسميتها بالمغرب الكبير أو شمال افريقيا. في الدرس التاريخي المغربي اليوم لا تشكل الدروس التي تتطرق للأمازيغ وللحضارة الأمازيغية إلا 02 في المئة في مجموع الدروس التاريخية المقررة في الثانوي التأهيلي المغربي؟، إذ من أصل 35 درس هناك درس يتيم حول الممالك الأمازيغية، فيما التاريخ القديم وماقبل الإسلام لا وجود له بتاتا في منهاج تدريس مادة الإجتماعيات في الثانويات المغربية، أليس من الإجحاف الشديد ومن الظلم التاريخي البين أن يقصى تاريخ الأمازيغ، تاريخ الشعب الأصلي من التدريس والاهتمام على حساب تاريخ مناطق أخرى في العالم شرقا وغربا، هل يمكن بناء هوية وطنية مواطنة قوية بدون شعب واع بتاريخه معتز بحضارته؟ أليس اختصار تاريخ المغرب في 12 قرن هو ابتسار لتاريخ عريق زاهر، كان المغرب فيه امبراطورية كبيرة مترامية الأطراف؟ أليس إخفاء معالم المملكة البرغواطية التي دام حكمها 314 سنة وتشويه تاريخ قادتها والإساءة لهم جرم تاريخي لا يغتفر؟ لماذا يتم اختصار تاريخ المغرب بإمارة الأدارسة دون ذكر إمارة نكور صالح وإمارة سجلماسة وغيرها من الكيانات السياسية القائمة التي هي جزء لا يتجزأ من تاريخنا المغربي والإفريقي المشترك؟ وأخيرا لماذا يتم التركيز على التاريخ السياسي والعسكري للمغرب وإغفال التاريخ الاقتصادي والاجتماعي والديني؟، أين هو دور اليهود في التاريخ المغربي؟ أين هو دور المراة ومكانتها في التاريخ المغربي؟ هذه بعض من الأسئلة المطروحة على عاتق الباحث عموما والمؤرخ المغربي خصوصا لترميم جزء من الذاكرة التاريخية المغربية وتسليط الضوء على مناطق عتمة في تاريخ المغرب .
3- في سبيل الختم :
تعتبر الكتابة التاريخية من أكثر الكتابات تعقيدا لاتصالها المكهرب والمتوتر دائما بالسلطة والتصاقها بذاتية صناع المعرفة، لكن تبقى إعادة كتابة تاريخ المغرب من أقدس وأنبل المهام التي تستحق العناء والتضحية لأنها تنير الطريق أمام الباحثين وعموم المواطنين لفهم ماضيهم والاعتزاز به والتطلع إل بكل ثقة وأمان وطموح لبناء المغرب الديموقراطي الحداثي الذي يسع الجميع، ثمة محاولات فردية من هنا وهناك لتسليط الضوء على عتمات وعتبات معرفية تاريخية منسية لكن يبقى العمل الجماعي الواعي المؤسساتي هو السبيل لتشكيل وعي تاريخي جماعي لاستئناف ورش تصحيح وتنقيح التاريخ مما علق به من تشوهات شرقية وغربية.