وجدت عدد من الأسر المغربية، الناطقة بأحد فروع اللغة الأمازيغية، نفسها مجبرة على الهجرة إلى مدن حيث تتوافر فرص للشغل وأدنى قدر من الخدمات والعيش الكريم. فأمام توالي مواسم الجفاف، والتغير المتسارع لأنماط العيش، اختار عدد من الآباء الهجرة إلى المدن الكبرى المستقطبة لليد العاملة بكل أصنافها، حيث تتوافر فرص للعمل وبالتالي التغلب على متطلبات المعيش اليومي المتكاثرة والتي تزداد غلاء كل يوم.
تنتقل الأسرة النووية المكونة غالبا من الزوج والزوجة والأبناء، وتتشتت النواة الأولى للتنشئة الاجتماعية التقليدية المبنية على مساهمة كل أفراد العائلة الكبيرة، المكونة من الجد والجدة والأبناء وزوجاتهم والأحفاد، في تنشئة الفرد وتعليمه مختلف شؤون الحياة بما فيها اللغة. ينصرف الأب إلى مشاغله اليومية وتضطلع الأم الناطقة بالأمازيغية بمأمورية رعاية أطفالها وتربيتهم. وتعتبر الأم المدرسة الأولى للطفل، فمنها يكتسب اللغة ومختلف المهارات المطلوبة لمجابهة الحياة. وقد تجد الأسر المغربية القادمة من مناطق لا تروج فيها إلا اللغة الأمازيغية، لا سيما الأمهات القادمات في أغلب الحالات من أوساط محافظة حرمن من أي تعليم، أنفسهن في عالم جديد عملته اللغوية اليومية الغالبة هي الدارجة المغربية، فتظن، في خضم حملات تحقير تواصلت لعقود للغتها وخصوصياتها، أنتجت لدى الأمازيغي المحروم من فرصة للتعليم أو التأطير إحساسا بالدونية، وحاجة آنية للدارجة للتواصل مع المحيط الجديد، وهو ما يجعل الأسر المهاجرة نحو المدن الكبرى، حيث لا تسود الأمازيغية كلغة معيش يومي وخصوصا الأمهات، تظن أن لسانها المكتسب من وسطها السابق والسائد ضمنه وجه من أوجه نقصها وسبب من أسباب معاناتها تجب حماية الأبناء من تبعات تعلمه.
إن عددا من الأمهات الأمازيغيات اللسان والتنشئة ممن يجدن أنفسهن في الظروف الموصوفة أعلاه، يخترن الارتماء في أحضان التنكر للذات، فيسارعن إلى تعلم الدارجة المغربية ويتخذنها لغتهن اليومية مع أبنائهن، فيعيش الأطفال داخل البيوت ازدواجية لغوية غريبة تستخدم خلالها الأم الدارجة عند مخاطبتها أبناءها والأمازيغية عند مخاطبة زوجها أو أقاربها ممن نشأوا في بيوت وأوساط ضمنت لهم تعلمها.
إن الأمهات ينطلقن من فكرة خاطئة مفادها أن ولوج العالم الجديد دون مركب نقص يتطلب التنكر لكل ما هو لصيق بالبيئة القديمة، وهي أفكار تكرسها حملات تستمر منذ عقود على كل ما هو أمازيغي، فالإنسان ينعت، إمعانا في التحقير، بالشلح والشلوح وموحماد في مناطق الشمال من قبل الناطقين بالدارجة وبالشلح والشلوحة في مدن الجنوب من طرف الناطقين بالحسانية؛ يحرم من التواصل الطبيعي بلغته الأم في كل مناحي الحياة العامة باستثناء التواصل اليومي مع محيطه الأقرب (دوار، قبيلة، سوق،…)، مع تحسيسه حالما يغادر ذلك الوسط بكون لسانه وكل متعلقاته غير مرغوب فيه لدى ابسط الناس، فنجد أنفسنا، كلما حل بمجموعة تضمنا نحن الناطقين بالأمازيغية؛ عرضة للعنف الرمزي حيث غالبا ما نطالب بالحديث بالدارجة من قبل ناطق بها يظن نفسه مالكا للسلطة بعبارات من قبيل هْضْرْ بْلْعْرْبيه/ دْرّْجْ/ حٍيّْدْ علينا نِّغْ نِّغْ… ، فما بالك بالقاعدين خلف الكراسي من أولي الحل والعقد؛ جرمت أسماؤه الأصيلة لعقود فاختار عن غير وعي أو عن إحساس بالدونية أسماء، قد يصدم لو علم معانيها، لا ينجذب إلا لجرسها الموسيقي أو لتواترها في ما يبث على القنوات، متحرجا من أسماء مثل تودا وتلايتماس وماماس وإيجا وتيليلا وتوناروز وءيدر ويوبا …وظانا أنها لا يجدر أن تتخذ أسماء للمواليد إذ هي محض كلمات بسيطة من المعيش اليومي يتوجب التخلص منها حتى لا تثقل كاهل حامليها بصنوف أخرى من المعاناة؛ فتستغرب نسوة أمازيغيات لا يتقنن إلا الأمازيغية اختيار أبوين أمازيغيين لأبنائهم أحد الأسماء الأمازيغية فقط ظنا منهن أنها تسيء إليهم وتنقص من قيمتهم؛ يتعرض لكل حملات التتفيه والتنكيت والاستصغار، ومن كل المواقع، ولغته وثقافته وهويته للمنع والفلكرة والتحقير؛ فنتج لدى غير المتعلمين من أبنائه، المستلبين ثقافيا أسلمة أو تشريقا، الاعتقاد بأن السبيل إلى التخلص من عار الشلوح والشلوحة هو التنكر لكل ما له صلة، مهما كان أصيلا، بتلك الشخصية المهندس لنبذها مجتمعيا لعقود من قبل المفترض فيهم التفاخر بها وهي الأصيلة بين كل الروافد.
ونظرا لكون المرأة في المناطق الأمازيغية أكثر تأثرا بالأمية من الرجل، وأكثر عرضة لمظاهر التمييز من المجتمع ومؤسسات الدولة عبر عدم تمتيعها باستخدام لغتها، تجد نفسها ضحية سهلة للاستلاب، فتضحي حالما تسنح لها أول فرصة بأهم خصوصياتها أي اللغة، فتختار لأبنائها، ظنا منها أنها تحميهم مما تعانيه وتؤمن لهم الأفضل، أن تعلمهم لسانا آخر غير لسانها المتعلم من أمها، والذي ظلت الأمهات تتوارثنه جيلا عن جيل منذ قرون قبل الانتكاسة الحديثة، فتحدثهم بالدارجة.
لقد أنتج الواقع المر الذي نتحدث عنه أجيالا من التائهين، يتحدث آباؤهم الأمازيغية ولا يعرفون هم إليها سبيلا، أجيالا من المغاربة ولدوا من أبوين أمازيغيين ولكنهم للأسف لا يتحدثونها، وهي نفس الشروط التي أفرزت قبل العصر الحالي أجيالا بلا بوصلة غالبا ما يصدم العلم من أجرى منهم تحليل الحمض النووي، وانفصاما هوياتيا يتهدد تراثا لا ماديا هائلا بالزوال ألا وهو اللغة الأمازيغية الوعاء الحامل للثقافة المغربية المفترض حمايته من قبل الدولة.
* التدريج: من الدارجة ولمقصود به توظيف الدارجة المغربية عوض التنويعات الأمازيغية.