الباكالوريا بطعم الجائحة والخوف

محمد بادرة / الدشيرة – الجهادية

1- التقويم ضرورة تربوية وبيداغوجية واجتماعية، وجزء لا يتجزآ عن عمليتي التعليم والتعلم و يتكامل مع كل مكونات العملية التربوية في كل مظاهرها المعرفية والنفسية والاجتماعية.

ومن التعاريف المتداولة في الحقل التربوي عن التقويم انه (مجموعة من الاحكام التي تقيس جانبا أو اكثر من التعلم، وأنه عملية قياسية ومعيارية، تمكن من التحديد الدقيق والموضوعي لدرجة تحقق الاهداف المنشودة من المنظومة التربوية والتكوينية، وبذلك يعد (التقويم) عملية اساسية ومحوية بالنسبة لمسالة تتبع ومراقبة ايقاعات سيرورة التعليم والتكوين.. وهو– كذلك- عملية تشخص نقاط الضعف والقوة للوصول إلى اقتراح حلول لتصحيح المسار وتحسين التعلم)، ويتمظهر جانب من هذا التقويم في منظومتنا التعليمية على شكل اختبارات وامتحانات مدرسية ذات الطابع الاجمالي، وذلك في توافق تام مع بنيات المقررات ومناهج التدريس، ومن الظاهر السلبية التي تسجل عند محاولة تشخيص نظام الامتحانات أنها لا تزال تشكل لحظة مختلفة تخلق الخوف والتوجس لذى التلاميذ والتلميذات وتنهي بعلاماتها مرحلة أو مستوى تعليميين، فالامتحانات تثير الرعب والقلق والخوف في نفوس وقلوب كثير من تلامذتنا حتى قال أحد الباحثين التربويين (رعب الامتحانات لا يقل ترويعا عن الرعب السياسي والغذائي والعسكري والوجودي، هذا إذا علمنا أن الملايين من طلبتنا في كل الأقطار العربية يتعرضون لهذا الرعب سنويا ويكون ضحية هذا الرعب طلبة وتلاميذ يتشردون، وطلبة وتلاميذ ينحرفون، وطلبة وتلاميذ يهجرون الوطن، وطلبة وتلاميذ ينتحرون، وطلبة وتلاميذ يتشوهون، وطلبة وتلاميذ يصابون بالجنون (النابلسي).

2- تحظى شهادة الباكالوريا بمكانة قصوى من الناحية الاجتماعية، فهي لا تعكس فقط نجاح التلميذ في مساره الدراسي، وإنما أيضا تعكس نجاح الاسرة وفخرها بتفوق ابنها وتتويجه بتقدير اجتماعي خاص، مع فتحها منفذ على التعليم العالي، ومن جهة أخرى فهي تعتبر من الناحية الاقتصادية مصفاة للتموقع في سوق العمل، وهذه المكانة الخاصة لشهادة الباكالوريا هي التي جعلتها تحافظ على قيمتها الاسطورية.. فهي عنوان الانتقال إلى حياة الرشد ومفتاح يفتح كل ابواب المستقبل.

هذه الأهمية المسندة للباكالوريا هي ما يدخل على نفسية المتعلم القلق المستمر، حتى ولو كان من بين الأوائل المتفوقين دراسيا، فيصبح بمثابة عقاب يعيشه المترشح للباكالوريا لما يرافقه من ضغط نفسي نابع من الخوف من هذا النوع من التقويم التقليدي (امتحان – فروض – تنقيط – ترتيب – انتقاء – اقصاء – فصل – ..) وفي أجواء هذا الامتحان غالبا ما تسود أجواء من الرهبة والقلق يفتعلها المربون والاداريون والموجهون وأفراد المجتمع عن حسن نية رغبة منهم في إثارة اهتمام المتعلمين وتحسين أدائهم، ثم يتطور ذلك إلى ضغط أسري قاهر قد يكون مباشرا أو غير مباشر، ومعه ضغط اجتماعي فتنعكس عملية العقاب هذه من عملية التقويم إلى عملية التعليم نفسها بشتى أبعادها مما يعرقل التعليم إن لم يعطله ويقتل في النفوس فرحة التعلم والاكتساب (أحمد الصيداوي).

إن هذا الخوف والقلق المصاحب للامتحانات ازداد وقعه على المترشح بسبب تهديدات فيروس كورونا الذي أخلط حسابات المترشحين والأطر التربوية وكذا الأباء وأولياء أمور التلاميذ، وهو ما ضاعف من حجم القلق والتوتر الذي لطالما ارتبط بهذه الشهادة المصيرية، فكيف أثر فيروس كورونا المستجد على التقويم التربوي عامة وامتحانات الباكالوريا خاصة؟.

في الموسم الماضي أغلقت أبواب كل المؤسسات التعليمية لمدة قاربت نصف العام كإجراء وقائي مؤقت وكان الكل عاكفين في بيوتهم، ولأجل ضمان السير العادي للدروس عبأت الوزارة امكانياتها لأجل تيسير التعلم عن بعد– زيادة وتيرة المنابر التعليمية الالكترونية- تعبئة الموارد المجتمعية من أجل توفير الدروس والموارد التعليمية عبر الانترنيت – عتماد منهجيات ملائمة لتيسير عملية التعلم عن بعد – تقديم بعض الحصص الخاصة بالدعم النفسي لفائدة المترشحين لامتحانات الباكالوريا لأجل رفع مستوى الوعي بالفيروس وكيفية الوقاية منه.

لكن يبقى السؤال إلى أي مدى التزم المتعلمون والمترشحون للامتحانات بجدية مع هذا النمط الجديد من التعلم الرقمي؟.

إننا نتحدث عن بيئة جديدة حلت محل الفصل الدراسي يفترض فيها أن توظف التكنولوجيا لمسايرة التعلم الالكتروني، إننا نتحدث عن بيوت لكل واحد منها ظروفه وإمكانياته، وهذا فعلا خلق نوعا من البلبلة لافتقار الكثير من الأسر للأجهزة الالكترونية المناسبة أو جهلها لتطبيقاتها المحمولة، وعدم تلقي الأطر التربوية والادارية للتكوينات الخاصة بمنهجيات التعليم الالكتروني، وضغط وكثافة الدروس عبر الانترنت في أوقات غير مضبوطة وغير مجدولة تتيح للمتعلم مسايرتها بشكل مريح.. كل ذلك يحتاج إلى دراسة مركزة تنظر في التعليم الرقمي عن بعد وكشف أثارها وايجابياتها وسلبياتها لكن الوزارة بحثت فقط عن مخرج لتجنب السنة البيضاء وضياع سنة دراسية بكاملها، فاختارت الاكتفاء بالمقروء لا بالمقرر من الدروس المنجزة في الأسدس الأول، مما يعني أن الوزارة لم تأخذ بعين الاعتبار ما قدم من دروس وموارد تعليمية رقمية، رغم أنها ٱخذت وقتا مهما من استعدادات المترشحين للامتحانات، كما استهلكت جزء هاما من الطاقة النفسية والمعنوية والعقلية والجسدية للمترشحين وهو ما عمق الخوف والقلق طيلة فترة الاستعدادات والتهيئ للامتحان إلى أن أعلنت النتائج واستقبلها الناجحون بطمأنينة وهدوء راجعين الفضل في ذلك إلى الجائحة التي أزاحت عنهم مارطونية المقرر؟؟؟.

في الموسم الدراسي الحالي وضعت الوزارة الوصية نصب عينيها مخاوف الاصابات الوبائية في اطار الجهود الوطنية الرامية للتصدي لهذا الوباء الجائح، لكنها في المقابل لم تسمح بان ينقطع الاطفال والتلاميذ عن التعلم(وليس التعليم فقط)، كما اشركت كل الشركاء من اجل تقديم المشورة التربوية والتقنية والصحية، وهكذا عرف الموسم الحالي تغيرات وتحولات للتكيف مع الوضع الوبائي ومنها :

أ‌- تخصيص فترة من الزمن المدرسي (بين 10 و30 شتنبر) للقيام بتشخيص المكتسبات الدراسية وتقديم الدعم والتثبيت للكشف عن الثغرات المرتبطة بفترة التعلم الحضوري قبل الحجر الصحي، و”التعلم عن بعد” بعده مع تحديد انشطة الدعم، وتعويض ما ضاع في السنة الماضية، لكن هذا الاجراء الاستباقي ما هو الا حل تجريبي، ولم يكن ناجعا لأنه لم تراعى في وضعه مجموعة من الشروط من قبيل : – تحديد الاهداف التربوية المراد تحقيقها – اختيار المحتويات الملائمة لمستوى التلاميذ الذين انقطعوا عن الدراسة لمدة نصف عام – اختيار الطرائق البيداغوجية الخاصة بالدعم والتثبيت – وضع تصور تقويمي تشخيصي لما يتوفر عليه المعلمون من موارد رقمية وقدرات ومهارات لتنميتها وتطويرها .. لذا يحتاج الامر الى تجاوز هذه الاجراءات الشكلية مع الانكباب على الاساس والوظيفة.

لقد جاءت هذه الفترة الاولى بيضاء سببت في هدر زمني تعليمي وتكويني، لعدم وجود اي ترابط معرفي وبيداغوجي ومنطقي بين مقررات هذه السنة ومقررات السنة التي سبقتها في عدد من المستويات والشعب (ما هو الرابط بين مقرر السنة الثالثة اعدادي ومقررات الجذوع المشترك “الفلسفة مثلا”- ماهي العلاقة بين مقررات الجذوع المشتركة العلمية والادبية ومواد الشعبة الاقتصادية للموجهين لهذه الشعبة…) هذا الوضع المرتبك سينعكس بالسلب على نفسانية الاداء عند طرفي العملية التربوية، فماذا نريد من هذا الاجراء التشخيصي، هل حشو المتعلم بالمعارف والمعلومات المتنافرة؟ ام تدريبه على مناهج التملك الذاتي وبالتدرج لتلك المعارف؟.

ب‌- الاستمرار في “التعلم عن بعد” بشكل مواز مع التعليم الحضوري(نمط الحضور بالتناوب او الحضور الكلي) حتى يتضح مال الوضعية الوبائية، واذا كانت الوزارة قد اطلقت برامج متنوعة عن بعد الا ان ذلك خلق جدلا واسعا لدى العائلات والاسر المعوزة في المدن والارياف غير المتوفرة على تجهيزات واجهزة معلوماتية او اتصال قوي بالأنترنيت ..لذا فهذا التعليم يحتاج الى فترة من الوقت للتكيف مع هذا النمط الجديد على المدرسين والتلاميذ واوليائهم على السواء، كما انه يحتاج الى تنظيم ووضع مجموعة من التقنيات والتوجهات لتوحيد الرؤية التربوية وفق منهج يتناسب مع التعليم الالكتروني عن بعد، والا فانه سيبقى حلا تجريبيا غير ناجع ليس إلا؟.

ج- اعطاء قرار فتح المدارس او اغلاقها للسلطات التربوية والصحية والترابية بالجهات والاقاليم، ووضع بروتوكولات صحية كارتداء الكمامات والتباعد الجسدي وتهوية القاعات وتعقيمها.. لتوفير اجواء من السلامة النفسية والجسدية للمتعلمين وللأطر العاملة لكن غياب الثقافة الصحية في مقرراتنا وفي منظوماتنا التربوية والاسرية عمق الخوف والقلق، ثم الفشل في التعايش مع الوباء.

د- اختارت اغلب مؤسساتنا التعليمية العمومية نمط التعليم الحضوري التناوبي القائم على (انشطة التعلم الذاتي والتعليم الحضوري المفوج)، ذلك لان المرحلة السالفة من التعليم “عن بعد” شابها نقص شديد في المواد التعليمية وفي مستوى التحصيل والتقييم، وغابت عنها اساليب التدريس الملائمة لأنماط التعليم عن بعد والتعلم الذاتي على الخصوص.. كما ان نظرة الاباء واولياء الامور لهذا النوع من التعلم كانت سلبية مما ادي الى احجام الجميع عنها.

واذا كان لهذا النمط التربوي الحضوري المفوج عدة ايجابيات كالتقليص من عدد المتعلمين داخل كل حصة مما انعكس ايجابا على مردودية التحصيل وسمح من تحقيق حد ادنى من الانسجام بين النظام التعليمي ومختلف اساليب التقويم التي يعد الامتحان واحدا منها ( التقويم المنهجي – التقويم التعليمي- التقويم التحصيلي) الا انه على مستوى انجاز مضامين المقررات الدراسية هناك صعوبة الالتزام بالوتيرة الاعتيادية لإنجاز المقرر الدراسي على اعتبار ان هذه العملية تتم بالبطء في اغلب مكونات المواد الدراسية وخصوصا في الاقسام المفوجة، وهذا ما خلق وضعا مرتبكا انعكس بالسلب على نفسانية الاداء عند طرفي العملية التربوية، وزاد تأخر الوزارة الوصية عن تحيين الاطر المرجعية الخاصة بالمواد التي سيمتحن فيها المتعلمون ( السنتين الاولى والثانية باكالوريا) الى غاية الاسبوع الاول من شهر ماي، ليضطر الجميع الى تعويض الشرح والتفسير بالإملاء والالقاء والاستنساخ وهذا مدعاة لنسف كل المجهود الديداكتيكي والبيداغوجي، فلا هدف تبقى الا السرعة وهاجس انجاز ما تبقى من المقرر مع الزمن المفترض لإنجازه.

هذا الوضع اخل التوازن بين الجانب المعرفي (المعلومات والمعارف) والجانب المنهجي التعلمي والبيداغوجي. لان ارتفاع وتيرة انجاز الدروس مع اقتراب الامتحانات يترتب عنه الايقاع من انحراف التعلم عن مساراته التكوينية ومضاعفات نفسية ضاغطة على المدرسين والتلاميذ. ولهذا فان العملية التربوية توجه اساسا لأغراض الامتحان بغض النظر عن الاهداف المسطرة للتربية والتعليم.

وهذا الوضع المختل لم يفد الا المؤسسات التعليمية الخاصة التي لها من الامكانيات ما يمكن ان ترضي به زبناءها وحينئذ سيحدث اتساع في الفوارق بين العمومي والخصوصي ويغيب التكافؤ والانصاف.

لقد القت ازمة فيروس كورونا المستجد كوفيد 19 بكل ثقلها على كواهلنا واثرت سلبا على نظامنا التعليمي فلجات السلطات التعليمية الى وضع سيناريوهات وخطط استعجالية “تأهبا” لما هو أسوا.

ثم انتقلت الى مرحلة ” التكيف ” مع الازمة للتقليل من تأثيراتها السلبية الى ادنى حد ممكن، عبر نشر حملات ممارسة النظافة العامة، وفرض الاغلاق المؤقت للمؤسسات، وتوفير التعلم عن بعد، ومع انحسار مرحلة الطوارئ انتقلت الاوضاع الوبائية الى نوع من ” التعافي “، حينئذ لجات الوزارة الى تدابير استعجالية لتعويض الوقت الضائع من الموسم الماضي، مع احداث تعديلات على الجدول الزمني العام الدراسي( الحضور الكلي او المفوج )، واعطاء الاولوية للتلاميذ الذين يستعدون لامتحانات مصيرية (تحيين الاطر المرجعية). وهذه المراحل الثلاث هي من اقتراحات وتصورات البنك الدولي في تعامله مع عدد من البلدان في كل مرحلة من المراحل الثلاث : التأهب – التكيف – التعافي .

ان جائحة كوفيد 19 اعطتنا الفرصة لإعادة النظر في طريقة التقويم والكشف عن عوراته ، لان الامتحانات ليست مسالة تقنيات او تطبيقات محايدة يرجع حق البث فيها لتقنيين مختصين بقدر ماهي ادوات تعكس بالدرجة الاولى تصورا سياسيا وايديولوجيا معينا، وبحكم هذا التصور فإنها تمكن من التصفية والانتقاء ضمن انظمة اجتماعية تراتبية – ذ. محمد مكسي.

كما ان جائحة كوفيد 19 اعطتنا الفرصة لتجاوز التغييرات الشكلية والانكباب على المشكلات الاساسية للنظام التربوي، وتوسيع دائرة اختصاصات الاكاديميات لتشمل كل مكونات العملية التعليمية التعلمية وخاصة مجال التقويم والامتحانات من اقتراح ووضع واشراف كامل لامتحانات الباكالوريا –(تكون جهوية) الى اعلان النتائج، خصوصا واننا في ظرفية استثنائية فرضتها جائحة كورونا.. ان لكل جهة خصوصيتها “الوبائية” ولا يجب ان تكون كل الجهات مرهونة بقرارات مركزية … عندئذ يمكن ان تصبح الاكاديميات خلايا حقيقية للبحث العلمي التربوي تساعد على تطوير هذا النظام التعليمي والممارسة التعليمية وليس مجرد مؤسسة تشرف على تنظيم الامتحانات وتعقد ندوات تفسيرية حول ما يتم تقريره مركزيا.

ان شهادة الباكالوريا بالأساس فيها قلق وتوتر وخوف، والظروف الاستثنائية لهذه السنة تتطلب تحضيرا نفسيا وبيداغوجيا استثنائيا للتلاميذ والتلميذات ..

شاهد أيضاً

سيدي وساي: تأويلات ممكنة لتاريخ مشهد ساحلي مشهور (الجزء الخامس والأخير)

– الضروف العامة لقيام ثورة بوحلايس أول ملاحظة نريد تسجيلها فيما يتعلق بثروة بوحلايس، انها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *