أحيانا التاريخ يصنعه المجنونون، ولنا في التاريخ الإفريقي الراهن نماذج تلخص هذه الفرضية وتعطي لها جاذبية ومصداقية معتبرة. خصوصا إذا علمنا أن الحرب الأهلية الرواندية قتل فيها خلال مئة يوم فقط جراء المذابح الجماعية نحو 800 ألف شخص رواندي في عام 1994، على يد متطرفين عنيفين من قبائل الهوتو الذين استهدفوا أفراد أقلية رواندية أخرى معروفة باسم التوتسي، مجازر، رهيبة راح ضحيتها بالإضافة إلى ذلك خصومهم السياسيين الذين لا ينتمون إلى أصولهم العرقية. أليس هذا ضرب من ضروب الجنون؟؟ دعونا الآن نتعرف ونقترب أكثر من هذا النموذج وحيثياته.
منذ الوهلة الأولى يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: لماذا كانت ميليشيات الهوتو ترغب في قتل أفراد أقلية التوتسي؟ وما السبب الذي جعلها ترتكب كل تلك الحماقاة الرهيبة؟.
من المعروف أن الخريطة الإثنية الرواندية أنها خريطة تتميز بالتنوع ويتوزع سكان البلد بين صنفين، الهوتو والتودسي. فما الذي حدث؟ ينتمي نحو 85 في المئة من الروانديين إلى إثنية الهوتو، ولكن رغم ذلك نجد أن الأقلية التوتسية هي التي تهيمن على البلاد وخيراته لعهود طويلة جدا.
وهكذا عمل الهوتو في عام 1959 على الإطاحة بالحكم الملكي للتوتسي وخلال ذلك وفر عشرات الآلآف منهم إلى دول مجاورة من بينها أوغندا.
وفي خضم هذه الأحداث شكل مجموعة من إثنية التوتسي مجموعة في المنفى، هذه الجماعة المتمردة أطلق عليها إسم (الجبهة الوطنية الرواندية)، التي عملت على التسرب وغزو رواندا عام 1990 واستمر القتال فيما بين الإتنتين إلى أن أبرم اتفاق سلام عام 1993.
يذهب مجموعة من الفلاسفة من قبيل نيتسه إلى منح سبق صناعة التاريخ إلى الشجعان دائما، وهو اعتقاد غير صحيح على الدوام، فكما رأينا من خلال النموذج الرواندي والذي أسس فيه مجموعة من المجانين للتاريخ الحديث للبلد عندما عملوا على دبح مواطنيهم وتصفيتهم بأبشع الوسائل والطرق، ولكن رواندا الجديدة لا يشك عاقل في نهضتها الشاملة اليوم، نهضة ساهمت فيها برصيد وافر مخلفات الحرب الأهلية….. لكن المؤسف أن الاعتراف بمن ساهموا في انعتاق الشعوب والأمم لا يكون سريعا بل جرت العادة على أن يأتي بشكل بطيئ ورتيب. ويحدث الاعتراف بعد انصرام الحدث بسنوات أو بقرون. ولنا دليل في تاريخ الجزائر اليوم، والتي لم يعد ينظر فيها إلى اكسيل كلص كقاطع طريق بل تحول بقدرة قادر إلى رمز من رموز المقاومة والممانعة التاريخية الجزائرية، وتحول الملك الأمازيغي المغربي بوكوس إلى خائن ملعون…. فالأول حسب الطرح العسكري الجزائري اكتسب تلك الصفة نظرا لاستماتته في الدفاع عن الأرض دفاعا بطوليا لا يشق له غبار. الأمر نفسه مع يصدق مع ديهيا التي شوهتها الأقلام البحثية الجزائرية ووصفوها بالكاهنة والساحرة وتحيل شخصيتها وتعكس كل أصناف شرور المرآة كما هو معروف في المرجعيات الثقافية والاجتماعية العربية، وعوض ذلك تحولت إلى زعيمة سياسية سقت بدمائها الطاهرة أرض الأجداد.
اعتاد الناس طوال تاريخهم أن يروا ظهور أناس شجعان -على قلتهم- كما يظهر العبيد في المقابل ليحافظوا على حتمية استمرار الأغلال المختلفة مادية ومعنوية والتي تمنعهم من أن يفكروا ويختاروا بكل حرية مصيرهم وتوجهاتهم …. فتكون النتيجة الحتمية لذلك مزيدا من هدر الجهد والوقت والمال في سبيل قضايا كان من المفروض أن تلعب دور الرافعة التي تنتشلهم من عبوديتهم مرة واحدة وإلى الأبد… هكذا تم النظر إلى يخبرنا التاريخ الفرنسي على نماذج من نماذج صناع التاريخ كانوا يرمون بالجنون ومنهم على وجه الجنرال بيتان الذي اعتبر خائنا وعميلا رخيصا للنازية، لكن اليوم وبفعل تقدم علم التاريخ وظهور وثائق وأرشيفات كانت مجهولة وغير معروفة، كانت سببا في ظهور قراءات جديدة ترى فى الرجل داهية سياسي حقيقي لانه ببساطة حافظ على إستمرار الدولة والامة الفرنسية في ظرفية دقيقة جدا في التاريخ الفرنسي، رغم كل سموم التخوين الذي رموه به خصومه السياسيين وخاصة انصار ديغول… بعد ان سردنا هذه الأمثلة يحق لنا ان ننبه غيرنا الى مسألة أساسية وهي ضرورة ان ينتبه كل واحد منا الى خبت السياسة، ومكر أصحابها وفي هذا الصدد تعمل المؤسسة التعليمية على نشر الكثير من المضامين والحمولات الدينية التي تؤسس في كثير من الاحيان لحقيقة مثالية ومطلقة أحيانا ضدا على حقيقة ممكنة ونسبية قابلة للبرهنة تاريخيا وبراغماتيا من الناحية العملية وتجاريا من الناحية اليومية. من منا لا يعترف صراحة او ضمنا بنبوغ بول كاغامي رئيس روندا الحالي الذي كان قبل ذلك زعيما من زعماء الحرب… أليست خياراته الاستراتيجية التي بنيت في ظل استعار جمرة الحرب الأهلية مصدر الهام للعديد من زعماء والدول الأفريقية اليوم؟ الم يمتلك الرجل الشجاعة لمقايضة الألم والجراح على حساب الشعارات الرنانة… والمتهافتة؟ بعد ان تمكن من استرجاع اراضي بلد كانت محتلة، بل اكثر من ذلك وجه ميزانية ضخمة كانت تسخر لتحويل مأسي الحرب الأهلية الى لوكوموتيف تنموي حقيقي…كما قام بنفس الشيئ في قطاعات استراتيجية تم اهمالها نتيجة صراع عرقي أجوف كانت نتائجه كارتية على الشعب!! وبناء عليه اعتقد اليوم جازما اننا نحن امام حقيقة لا غبار ولا سدال عليها ومفادها أن الوطن اكبر من الدين والايديولوجيا… وهذه الحقيقة يحب ان يدركها اليوم قبل الغد كل من يعتبر نفسه اسلاميا او قريب من أطروحان الاخوان وعليهم ان ينظروا الى موقف الاسلاميين الجزائرين من قضية الصحراء المغربية، فرغم ان واقع الحال يقول ان هذه الاخيرة تحت سيادة دولة اسلامية… ولكن مواقفهم تنسجم جملة وتفصيلا مع نظام العسكر …
يعتقد الكثير من الباحثين المستقلين والمهتمين بقضايا الاحزاب السياسية العربية ومسار اليسار العربي ان اكبر كذبة نسجها اليسار المغربي السبعيني واقنع نفسه بها هو نزعته الانسانية التي تنتصر لنضالات الشعوب والامم، غير ان الوقائع على الأرض تنفي ذلك وتسحقه الاحداث حين نعلم ان التاريخ والممارسة يتبتان بكثير من المصداقية على ضيق الحدود الفكرية لليسار والاسلاميين العرب والتي لا تتعدى في احسن الاحوال ما سمي بهتانا وظلما بالعالمين العربي والاسلامي.
واخيرا وخارج دائرة السجال العقيم يطرح العديد من المهتمي سؤالا جوهريا هل اعتبرت يوما ما الفصائل الفلسطينية قضية الصحرا زمن احتلالها من طرف اسبانيا قضية وطنية فلسطينية؟ هذا اذا تجنبنا الحديث عن خيارات هذه الفصائل السياسية والتي لا تتلاءم ولاتنسجم مع الانظمة الملكية.
أصيلا 03 غشت 2021