للوهلة الأولى يبدو هذا العنوان متهافتا، ولكن ما سنراه لاحقا سيبدد هذا الاعتقاد، انطلاقا من دراسة مخطوط تاريخ تحوُّل يهود فاس للإسلام في القرن الثالث عشر الميلادي، والتي قام بها السيد م. فالا[1]،( (Valla تحث عنوان تاريخ يهود فاس حتى اليوم: الحَضَر وهو عبارة عن ترجمة لمخطوط غير منشور يتناول التحول الجماعي ليهود فاس إلى الإسلام في القرن الثالث عشر الميلادي، وما ترتب عن هذا الحدث من تداعيات اجتماعية قوية ومختلفة مازالت تداعياتها مستمرة الى اليوم. فماذا عن التحول (métamorphose) في الآداب في شمال افريقيا في العصور القديمة؟
في رواية “الجحش الذهبي” المعروفة أيضًا بـالتحولات للكاتب أبوليوس [2](Apuleius) والتي تُعد أول رواية مكتملة البقاء من العصور القديمة، وكُتبت باللاتينية في القرن الثاني الميلادي. وهي مزيجٌ غني من المغامرة، والسحر، والهزل، والفلسفة، والدين. ويمكن حبكة النص الروائي هذا في وصول بطل الرواية ويدعى لوسيوس إلى مدينة تسالي هذا الأخير معروف بحب الاستطلاع. وحين وصل إلى مدينة تِسالي (Thessaly) هذه، المشهورة بسحرها. يستضيفه صديق يدعى ميلو، ويتعرف على خادمته الساحرة بامفيلا. ويفتن لوسيوس بالسحر ويحاول تجربته مع مساعدتها فوتيس. قامت بتعويذة خاطئة، فيتحول لوسيوس إلى حمار [3]بدلاً من طائر. تقول له إن الحل هو أكل ورود سحرية لاستعادة شكله البشري. ولكن قبل أن يتمكن من ذلك، يُختطف على يد لصوص، فتبدأ رحلته المضنية كحمار. وأثناء وجوده عند اللصوص، يسمع قصة خيالية تُحكى لإحدى الفتيات الأسيرات.
وهذا ما يذكرنا بقصة كيوبيد (إيروس) وبسيشه (الروح) وهي أشهر قصص الحب في الأدب القديم. وتتحدث عن فتاة جميلة تُختطف ويتوجه بها إلى قصر سحري، وتتزوج إله الحب، ثم تمر بتجارب قاسية قبل أن تُكافأ بالخلود ويمكن اعتبار ذلك بمثابة العقدة المشوقة في الرواية. والتي تُعد من أجمل النصوص التي كتبت حول الرمزيات والقيم مثل الحب والروح. في حكاية “كيوبيد وبسيشه” التي يذكرنا بها الكاتب ورحلته مع الذل والمعاناة لا تختلف مع معاناة بطل رواية أفولاي، “لوسيوس” الذي يستمر في الترحال كحمار يُباع ويُضرب ويُجبر على العمل في الطواحين، في السيرك، في الجنس، وغيرها. يرى في أثناء تنقله وجوهًا مختلفة من الفساد الاجتماعي، والسحر الأسود، والنفاق الديني، والعنف.
يعرض أبوليوس من خلال معاناة لوسيوس نقدًا اجتماعيًا قويًا للمجتمع الروماني. وبعد هذه المعاناة التراجيديا سوف يأتي الخلاص والتحول الروحي بعد سلسلة طويلة من الذل. يصادف “لوسيوس” طقوسًا دينية مكرسة للإلهة المصرية إيزيس. في حلم، تظهر له وتعده بالخلاص إذا كرّس نفسه لها. ويُشارك في طقس ديني، ويأكل الورد المقدس ويعود إلى شكله البشري. ينتهي الكتاب بوصف روحاني عميق لتحوله إلى مؤمن وممارسة طقوس الأسرار الغامضة.
أما بخصوص الثيمات الأساسية في التحوُّل (Metamorphosis) فالتحول الجسدي والمعنوي والروحي. النابع من الفضول والتهور “فلوسيوس” يُعاقب على فضوله المفرط في فصول الرواية. ومن جراء ذلك سوف يعاني من الذل الذي سيأتي بعده التطهر فالتجارب المهينة تؤدي إلى نوع من التهذيب الداخلي. والخلاص الديني عبر الانتماء للعبادة الغامضة لإيزيس. الرواية تتضمن نقد اجتماعي قوي كما تتضمن فصول من ال سخرية من النفاق، والطمع، والسحر، خاصة في المجتمع الروماني. وهنا تبرز أهمية الفلسفة الأفلاطونية-الرواقية التي تؤكد سعي الروح للخلاص من العالم المادي. وتكمن أهمية الرواية من الناحية التاريخية في كونها أول رواية “نفسية ” بقيت كاملة من العصور القديمة رواية حاولت أن تمزج بين السرد الواقعي والعجائبي، وبين السخرية والرمزية. ومن الناحية الدينية تقدم رؤية فريدة للديانات الغامضة مثل عبادة الالهة إيزيس. ومن الناحية الفكريًة تعكس تجربة وجودية تتدرج من الانغماس في العالم المادي إلى التنوير الروحي.
(يتبع)
[1]- المخطوط عبارة عن ميكرو فيلم، يوجد ضمن وثائق المركز الدبلوماسي للأرشيف في نانت، قام السيد م. فالا، بترجمته وتقدم بها، وهي عبارة عن مذكرة تدريب خاصة بالمفتشين المدنيين المتدربين، مصنفة تحث رقم تسلسلي. أصل هذا المخطوط فهو عبارة عن هدية إلى سيدي محمد بن عبد الرحمن، والد مولاي الحسن، وكان بحوزة هذا السلطان الذي عاصر نهاية القرن التاسع عشر. وهو جزء من مجموع (مجموعة) كانت ملكاً له. وحسب المترجم انتقلت هذه المجموعة أثناء فترة الحماية الى ملكية مولاي عبد الرحمن، الملقب بمولاي الكبير، المقيم في الرباط. وبالنسبة لمحتويات المجموع فهو عبارة عن رحلة (سرد رحلات) غير منشورة للفقيه زنبير، وهي نموذج رائع للخط المغربي. ويضم بعض قصائد سيدي قدور العلمي ومنها قصيدة عن تربية الخيل، على طريقة ابن فج الأندلسي. وعدد من قصائد مدح السلطان سيدي محمد. إضافة الى عرائض (طلبات رسمية)، وغير ذلك. [2] – هذا الكاتب الامازيغي الكبير، ويدعى أفولاي، توجد ترجمة له في كتابه دفاع صبراتة، ويقول عن نفسه انه أبوليوس المادورِي، ولكن في كتابه دفاع صبراتة يقول ان نصفه فقط مادوري، وهو أديب وفيلسوف من شمال أفريقيا (مدينة مادورو). اما بالنسبة للعنوان الأصلي: Metamorphoses (التحولات)، وستعرف لاحقًا بـ (Asinus aureus) الجحش الذهبي وهي رواية مغامرات ذات طابع ساخر وروح فلسفية ودينية. مما يجعلها في العمق مزيج من الكوميديا، والفلسفة، والغموض الديني. الرواية مكونة من إحدى عشر فصلًا، تحكي مغامرات لوسيوس، وهو شاب “فضولي” مولع بالسحر، يتحول بسبب خطأ في ممارسة تعويذة سحرية إلى حمار، ويمر بسلسلة من المغامرات المهينة والغامضة، قبل أن يستعيد إنسانيته بفضل الإلهة إيزيس. من المعاناة اللامنتهية. [3] – أسنوس باللغة الامازيغية (Asinus) باللغة اللاتينية.