التسامح ضد الاختلاف

* يوسف أقرقاش (أنير): أستاذ الفلسفة بالرباط

بقلم: يوسف أقرقاش

يسود في أذهان الكثير منا اعتقاد مفاده أن الأخلاق غير الطبيعة، وأنه كلما تقدمت بنا الإنسانية كلما ازدادت الهوة بين المجالين، إلى درجة الاعتقاد أن الإنسان لا يصير أخلاقيا إلا حين يتجاوز الطبيعة، لكن إذا أمعنا النظر في الأمر سيتبين بالملموس أن ما هو أخلاقي ليس إلا صورة مجردة لما هو طبيعي. وحينما نقول صورة مجردة فالمقصود بذلك أن القيم الأخلاقية مبادئ طبيعية اتخذت صورا نفسية واجتماعية.

لننظر في التسامح الذي هو قيمة أخلاقية محض، ولنبين كيف قفزت هذه القيمة من مجال الطبيعة إلى مجال الأخلاق، بصورة تكاد تفصل الإنسان عن واقعه الطبيعي، فالكثير منا يعتقد أن التسامح هو القيمة المؤسسة للعيش المشترك والاعتراف بالآخر، وهو لا يصير حقيقيا إلا حينما تستذوت الذات قيم النسبية والاختلاف. قد يرتبط التسامح بالاختلاف لكن ظاهريا فقط، لأن التسامح في الواقع هو أن توجد وتحوز موقعا لك في عالم الآخر. ولا يرتبط حجم هذا الموقع بمدى سماحة الآخر، بل بحجم التخلي والتنازل عن عالمه. التسامح بهذا المعنى هو الصورة المبطنة للصراع، فإذا كنا نتوقع أننا لن نكسب شيئا بالصراع، أو أننا سنخسر ما لدينا، فيمكن أن نستبدل الصراع بالتسامح حفاظا على المكاسب أو طمعا فيها.

لن تتضح هذه الأفكار إلا إذا بحثنا أولا ما الذي يعنيه الاختلاف الذي يفترضه التسامح. فما معنى أن يكون الإنسان مختلفا؟ وفي أي مجال؟ لا يمكن للإنسان، بدون شك، أن يكون مختلفا في مجال العلم، لأن الحقائق العلمية حتى وإن كانت نسبية فهي عامة، ولا تصير علمية إلا بعموميتها. ولا يمكن أيضا للإنسان أن يكون مختلفا في مجال الفلسفة، لأن الاختلاف في الفلسفة هو الأصل والغاية، ولا أحد من الفلاسفة، عدا من قالوا بنهاية التاريخ، نصّب نفسه وصّيا أو وريثا للفلسفة. كما لا يمكن للإنسان أن يكون مختلفا في مجالي الفن والأدب، لأنه لا يمكن للإبداع أن يتحقق إلا في إطار الاختلاف، بل كثيرا ما يعاب التقليد والإتباع في هذين المجالين، ولا يُعترف فيهما بالمبدع إلا حين يكون أصيلا، أي مختلفا ومتفردا.

حين نستثني كل هذه المجالات، لا يبقى أمامنا، للحديث عن التسامح، إلا مجالا واحدا هو مجال الاعتقاد. وهو ما يستدعي أن نكرر السؤال من جديد؛ بأي وجه يمكن الحديث عن التسامح في مجال الاعتقاد؟ نعرف جميعا أن هذا المجال هو مجال الإيمان والدغمائية، مجال اليقين والمطلق، وهو ما يتعارض قطعا مع فكرة التسامح التي تفترض النسبية والاختلاف. وإذا كان منطق التسامح غير منطق المعتقد، فكيف جوّزنا لأنفسنا الحديث عن التسامح في مجال الاعتقاد؟ نحن نقصد إذن بالتسامح معنى آخر غير الاختلاف والتعايش السلمي، وهو المعنى الذي قد يتحدد باستدعاء ألفاظ أخرى وثيقة الصلة بالتسامح، وهي الذنب والغفران.

ترتبط دلالة الذنب، ظاهريا على الأقل، بالمجال الديني. والذنب في الاشتقاق اللغوي طرف الشيء وآخره، وغالبا ما يطلق على الشنيع والغير اللائق. وهكذا يصير المذنب شنيعا لإثم (ويرتبط الإثم لغويا بالسقوط والوقوع) أو معصية قد اقترفها، ويصبح بموجبه محرجا، مذلا، مستصغرا ومستحقا للعقاب، غير أن ما لا ننتبه إليه هو أنه مهما عظم ذنب (ذيل) الآثِم فهو لا يستحق العقاب إلا أخلاقيا أو دينيا، أي أن الطبيعة بما هي غريزة لا يمكن أن تعترف بهذا العقاب. مقاومة النفس هذه لفكرة العقاب هي التي أوجبت على الإنسان أن يبتدع فكرة الكفارة أو الاستغفار. فما الذي يعنيه التكفير عن الذنب؟

يعني التكفير من حيث الاشتقاق اللغوي الإخفاء والتستر. ويصبّ الاستغفار في المعنى نفسه من حيث هو غفّارة (غطاء) وغفْر (بطن). لا يعني التكفير والاستغفار سوى الرغبة في ستر وحجب عيوبنا وآثامنا المتذيلة (المتذنبة/ ذنب = ذيل) من خلفنا. بعبارة أخرى، أن نكفر عن ذنوبنا بالاستغفار معناه أننا نطلب من الله أن يكون متسامحا معنا، يلينُ حين نتصلّبُ، وييسر حين نشتدّ. حينما نستسمحُ الله نحن في الواقع نطلب منه أن يكون مخالفا لنفسه، يبيح حين يتوجب أن يمنع، ويعفو حين يتوجب أن يعاقب. أن يكون الله متسامحا معنا أي أن يكون لنا شريكا في الذنب، أن يشبهنا حين ندنّس (أخلاقيا ودينيا) ذواتنا. يكفي أن يتذرع المذنب (المدنس) بيديه إلى السماء، وأن يذرف الدموع من عينيه، ليتأكد بنفسه مما يعنيه أن يكون الله متسامحا.

لا يختلف كثيرا طلب الاستغفار عن طلب الاعتذار، فليس الاعتذار غير الاعتراف بالخطأ. وإن شئنا أن نعبر عن هذا الاعتراف بصورة أخرى، نقول ليس الاعتراف بالخطأ إلا استبدال الخطأ بالعذر، أي التستر على الخطأ وإخفاؤه تحجُّجا بالأصل الذي كان فيه، أو بالغاية المرجوة منه. وغالبا ما يكون أصل الخطأ وغايته طبيعيين، في الوقت الذي ينتمي فيه الخطأ والاعتذار عنه إلى الأخلاق. وحينما نعتذر (ننتقل من الطبيعة إلى الأخلاق) فنحن مرة أخرى نطلب من المعتذَر له أن يغفر لنا خطأنا، أن يخفيه ويستره. وهو ما لا يتحقق إلا إن كان من أخطأنا في حقه سموحا، ينكر ذاته ليقر بحقنا في الخطأ. الاعتذار من هذا المنظور هو رغبتنا، الناتجة عن تأنيب الضمير طبعا، في أن نُدنّس الآخر مرتين، مرة حين أخطأنا في حقه، ومرة ثانية حين طلبنا منه أن ينكر ذاته ليرفع عنا مشاعر الحرج والاستصغار التي سببها لنا السقوط في الخطأ.

حقيقة التسامح إذن، داخل مجال المعتقد، لا صلة لها بالاختلاف والمغايرة، ولا بالرغبة في التعايش مع الآخرين، بل هي، وفقا لما تستوجبه فكرتي الذنب والاستغفار، الرغبة في تدنيس الآخر بمباركته، وما التعصب إلا رفضا لهذه المباركة. هذه الحقيقة الأخيرة هي التي تدفع الكثير إلى حصر دلالات التسامح فيما هو أخلاقي ورفض أي تأويل طبيعي له، ومع ذلك فنحن متسامحون.

 

شاهد أيضاً

الجزائر والصحراء المغربية

خصصت مجموعة “لوماتان” أشغال الدورة السابعة لـ “منتدى المغرب اليوم”، التي نظمتها يوم الخامس من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *