أخبار عاجلة

 التنوع الثقافي بالمغرب وسؤال الانتقال الديمقراطي (2/1)

من إعداد : حافيظ حنين – دكتور في الحقوق

تقديم :

يعد المغرب بلدا غنيا من حيث تنوعه الثقافي واللغوي منذ أقدم العصور، حيث تفاعلت داخله حضارات عريقة تعاقبت على أرضه، كما شهد انطلاقا من موقعه الجغرافي المنفتح على العمق الإفريقي وعلى البوابة المتوسطية والشرق الأوسط وأوروبا، تفاعلا حضاريا كبيرا بين مكونات عديدة ساهمت  جميعها في تشكيل حضارته وشخصيته الثقافية المتنوعة.

وكما هو معلوم، فإن التنوع الثقافي يعد ميزة جل مجتمعات العالم، إذ لا نكاد نجد مجتمعا أو شعبا يتوفر على تجانس ثقافي أو ديني أو لغوي مطلق، حيث أن التعدد والاختلاف هما اللذان يطبعان كل جوانب الحياة البشرية إن على المستوى المحلي والوطني أو على المستوى الدولي، تجسدها الاختلافات البينية  داخل المجتمعات الإنسانية في الأنماط والقيم الثقافية السائدة فيها، معبرة عن التمايز من خلال أصالة وتعدد الهويات المختلفة للمجتمعات التي تتألف منها البشرية.

وإن مقاربة مسألة التنوع الثقافي في المغرب، مع ما يستوجبها من ارتباطات مفاهيمية مع ظواهر ومؤشرات اجتماعية ملازمة لها في السياق والأدوار، كمفهوم المواطنة المشتركة والتعايش الثقافي والعدالة اللغوية وغيرها، تطرح ضرورة أولية تتمثل في تحديد طبيعة الظرفية الراهنة واستحضار السياقات التاريخية والمجتمعية وكذا الضغوطات الدولية في هذا الشأن.

فقد ذهبت إحدى الدراسات إلى وضع ترتيب تسلسلي لبلدان العالم حسب الوضع الديمقراطي السائد فيها، وذلك وفق مجموعة من المعايير والمؤشرات، نذكر منها على سبيل المثال: المشاركة السياسية والتعددية الثقافية واللغوية والحريات الاقتصادية والسياسية… إلخ . هذه المعايير والمؤشرات قام مجموعة من المختصين بتحليلها  لينتهوا إلى تقسيم دول العالم إلى أربع مجموعات بحسب حضور تلك المؤشرات الديمقراطية فيها وهي: دول ذات ديمقراطية كاملة، ودول ذات ديمقراطية ناقصة، ودول تقع بين المنزلتين أي دول هجينة بين الاثنتين، ثم دول استبدادية على مختلف الأصعدة.

وإذا كان المغرب يعتبر دولة من بين الدول التي لم تجتمع له، بعد، مقومات النظام الديمقراطي، فالملاحظ أنه كان سباقا، في محيطه الإقليمي، منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي إلى اتخاذ مجموعة من المبادرات الإصلاحية شملت مجالات متعددة ومنها الحقل الثقافي واللغوي، إلا أن هذه السياسة الإصلاحية التي دشنها المغرب والتي استمرت مع العهد الجديد وبالرغم من أهميتها فإنها تبقى إصلاحات متواضعة حيث لم ينتج عنها تحقيق انتقال ديمقراطي حقيقي، أو  بعبارة أخرى، أن التقييم الموضوعي لمسلسل الإصلاح الذي دشنه المغرب، وكذا استحضار شروط البناء الديمقراطي، يكشف أن هذه الإصلاحات ضعيفة ولا ترقى إلى المستوى الذي يجعله يرقى إلى مصاف الدول الديمقراطية في تدبير الشأن اللغوي والثقافي على الأقل.

فمغرب اليوم إذن، محكوم عليه في ظل التحولات الدولية والمعطيات السياسية والاجتماعية الإقليمية والجهوية والمتطلبات الجديدة التي بات يفرضها المشهد السياسي الوطني الراهن، محكوم عليه أن يقوم  بمجموعة من الإصلاحات العميقة والهيكلية تشمل كافة المستويات وجميع المجالات، بما فيها تدبيره لإشكالية التعدد الثقافي بالرغم من الإصلاحات الدستورية الهامة التي قام بها، وذلك من أجل تأسيس نظام ديمقراطي يمنح لمفاهيم السيادة وتوزيع السلط مكانتهما الشرعية وإعادة الاعتبار للهوية الوطنية الأصلية ، ويحقق للمشهد الثقافي واللغوي توازنا يضمن كافة الحقوق لكل مكونات المجتمع.

من هذا المنطلق تتبادر مجموعة من الأسئلة الموضوعية ابتداء من إشكالية المفاهيم قيد الدرس (المحور الأول)، ثم الإشكاليات  الواقعية أو ما يعرف بتنزيل الرؤى النظرية وتقييمها على الواقع المغربي المعاش تشريعيا واجتماعيا وسياسيا (المحور الثاني).

المحور الأول : في مفهوم التنوع الثقافي وضوابطه

أيا كان المكان الذي تعيش فيه على سطح الأرض، فلا شك أنك ستضطر للتعامل يوما ما مع أشخاص من ثقافات مختلفة، وبقدر ما يبدو الأمر عاديا وبسيطا، غير أن التفاعل مع تلك الثقافات المغايرة، وخاصة تلك البعيدة عنا كل البعد، هو أمر صعب ومعقد وقد يؤدي إلى خلق الكثير من الخلافات والنزاعات، فكيف يمكنك إذن التعامل مع الثقافات المختلفة عنك وأنت لم تستوعب بعد مفهوم التنوع الثقافي وفي خضمه مفهوم “الثقافة” كظاهرة اجتماعية، وكذلك الدراية الكافية للضوابط أو بالأحرى للمعايير الدولية التي تؤطر مسألة التنوع الثقافي واللغوي كأهم بنيات تشريعية لمنظومة حقوق الإنسان العالمية.

المبحث الأول : في مفهوم التنوع الثقافي

يحيل مصطلح التنوع الثقافي في معناه  باللغة الإنجليزية (Cultural diversity) إلى عبارة تنوع الثقافات  المختلفة، وهي تختلف عن الثقافات ذات الجنس الواحد، أو الثقافة العالمية ذات الجنس الواحد أو تجانس الثقافات، ويمكن، حسب موسوعة ويكيبيا، أن تشير عبارة التنوع الثقافي أيضا، إلى وجود ثقافات مختلفة ترجع إلى احترام الآخرين للتنوع مع بعضهم البعض، مما يجعلنا، منهجيا، في حاجة ماسة أولا إلى تفكيك  ظاهرة الثقافة كمشترك سوسيولوجي لعناصر بشرية محددة في مقابل وحدة أخرى تختلف عنها بشكل كلي أو نسبي فنصبح بذلك أمام ظاهرة وليدة وهي ظاهرة التنوع الثقافي.

المطلب الأول : في مفهوم الثقافة

لعل صلب الإشكال في معالجة مفهوم التنوع الثقافي، وما يحاكيه من مفاهيم مجاورة أو متعارضة هو تحديد مصطلح ” ثقافة” أو الحمولة الثقافية لأي مجموعة بشرية متميزة، ذلك أنه عندما نسمع الحديث عن الثقافات، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن، هو العرق أو السلالة التي ينتمي إليها الفرد، غير أن الثقافة، في واقع الأمر، تمتد إلى أبعد من ذلك بكثير، إذ أنه نحن جميعا جزء من مجموعات ثقافية مختلفة، ومن المهم أن نعي بأن هويتنا الثقافية تتطور وتتغير وتنمو وتتفاعل بالأخذ والعطاء، بتغير الظروف من حولنا أو بتغير القيم والمعتقدات أو السياقات التي نعيش في محيطها، على اعتبار أن الثقافة ليست عنصرا جامدا بقدر ما هي عنصر  ديناميكي متحرك([1]).

فبالإضافة إلى العرق  أو السلالة تبنى الثقافة وتتأثر بمجموعة من العوامل الأخرى المحيطة بالفرد مثل: الجنس، الطبقة الاجتماعية، القدرات البدنية والعقلية، المعتقدات الدينية والروحية إلى غير ذلك.

إذن تعرف الثقافة على أنها نظام يتكون من مجموعة من المعتقدات والإجراءات والمعارف والسلوكات التي يتم تكوينها ومشاركتها ضمن فئة معينة، والثقافة التي يعيشها أي شخص يكون لها تأثير قوي  ومهم على سلوكه. وتدل الثقافة على مجموعة من السمات التي تميز أي مجتمع عن غيره، ومنها: الفنون، الموسيقى التي تشتهر بها، الدين، الأعراف، العادات، التقاليد السائدة والقيم وغيرها.

ومن التعريفات الشهيرة التي فككت مفهوم الثقافة نذكر بالخصوص تعريف (مالينوفسكي  Malinowski) وتعريف (إدوار تايلور  Idouar Taylor)، تعريف (سابير  Saper) بالإضافة إلى تعريف كل من الفقيه كلايد كلو كهون (Clyde Klu Chohn) والذي يرى أن الثقافة إرث اجتماعي وصل إلى الأفراد من المجتمع الذي ينتمون إليه، في حين يرى الأستاذ ليزلي هوايث ( Lisly White) أن الثقافة وسيلة تساعد الأفراد على تنظيم معتقداتهم وقيمهم ومعارفهم وجميع الأشياء التي تعلموها في حياتهم والذي يشكل في النهاية أنماط سلوكهم([2]).

المطلب الثاني : ماهية التنوع الثقافي .

لشرح ماهية التنوع الثقافي نرى أن نشير إلى تأصيله وتحليل مستوياته ثم تناول أشكاله الرئيسية :

أ – تأصيل مفهوم التنوع الثقافي وتحديد مستوياته:

يعد مفهوم التنوع الثقافي من المفاهيم المركبة والمبنية على عنصري التنوع والثقافة، كما أسلفنا الحديث سابقا، أما التنوع فهو سمة كونية شاخصة في كل زمان  وفي كل بقعة من بقاع الأرض، ذلك أنه سنة من سنن الخالق في كونه، أقرها عز وجل في كتابه العزيز حين قال في سورة الحجرات (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) الآية 13.

وعليه فكلام رب العزة تضمن بشكل صريح تنوعات عديدة كالنوع والعرق واللون، وما قد يتبعها من تنوع ثقافي واجتماعي واقتصادي وسياسي.

وتحدد الدراسات العلمية ثلاث مداخل للتنوع: المدخل الوظيفي المعني بدراسة تأثيرات التنوعات داخل المؤسسات وكيفية إدراكها لتحقيق مزايا اقتصادية، والمدخل الخطابي ضد التمييز المعني بدراسة التنوع على المستوى السياسي والقضائي لحماية  الأفراد أو الجماعات، والمدخل النقدي لقوة السلطة وهيمنتها.

كما تشير الدراسات في هذا الصدد إلى أهمية النظر إلى التنوع Diversity بدلالتي:التنوع  Variéty  والاختلاف Différence، ذلك أن التنوع لا يؤدي بالضرورة إلى نتائج اجتماعية أو سياسية معينة، في حين قد يؤدي الاختلاف الاجتماعي والثقافي إلى الحاجة الملحة لإدارة سياسية قادرة على تدبير أزمة الاختلاف الحاد ([3]).

ومن جهة أخرى تتعدد معالجة مستويات التنوع الثقافي والأبعاد المنبثقة  عنها في البحوث والدراسات المختصة، فالتنوع يشمل أبعادا كثيرة يمكن تقسيمها إلى ثلاث مستويات: الأولي  الظاهر والثانوي المحسوس، والأصلي المتجدر، ولكل منها أبعاده الخاصة، ويندرج تحت المستوى الأولي، أبعاد السلالة والأصل العرقي والنوع والعمر والإعاقة وغيرها  مما يمكن ملاحظته بالعين المجردة، ويعد هذا المستوى المشكل الرئيس  لصورتنا الذهنية عن ذواتنا وكيفية تصورنا للعالم. أما المستوى الثانوي فيشمل بعد الدين والثقافة والمستوى الاجتماعي والتعليم والجنسية وغيرها، مما يمكن أن يدرك ويؤثر هذا البعد على تقديرنا لأنفسنا وتعريفنا لذواتنا. وأخيرا يشتمل المستوى الجذري على كل ما هو سبب أصيل لأبعاد المستويين الأولي والثانوي من معتقدات وقيم ومدركات ومشاعر. وتتداخل هذه الأبعاد وتتمازج فيما بينها وتؤثر في بعضها البعض وتظهر بشكل مختلف في سياقات وبيئات وظروف مختلفة، فقد يكون لمسألة العرق في وضع اجتماعي معين أهمية كبرى تفوق السن مثلا، ولكن هيمنته  قد تتضاءل في سياق  التعليم والعمل، ولهذا فإن هيمنة بعد على آخر، يعد أمرا ديناميكيا وهو ما يجعل أمر التنوع أكثر تعقيدا([4]).

ب – الأشكال الرئيسية للتنوع الثقافي :

حسب عدد من الخبراء السوسيولوجيين فإن التنوع الثقافي يأخذ ثلاث أشكال رئيسية وهي: (الجنس والعرق والإثنية) . أما تنوع الجنس فهو بيولوجي بامتياز، ويشير إلى الفروق بين الذكر والأنثى ويعبر عنه بالجنس (Sex)  أو النوع الاجتماعي (Gender).

أما بالنسبة للعرق، فبالرغم مما قد توحي به كلمة  “عرقي ” من حيادية مبنية على الأصل البيولوجي الخالص لمجموعة بشرية معينة، إلا أن ذات المفهوم  يعد عند علماء الاجتماع وحتى البيولوجيين، مفهوما مثيرا للإشكال والخلاف، نظرا لاختلاف مدلولاته منذ نشأته والتي غالبا ما ارتبطت بظاهرة ” التمييز العنصري”، إذ يمكن تعريف العرق بأنه تجمع ذو طابع اجتماعي (Social grouping) بشكل أساسي، لمجموعة تمتاز بخصائص جسدية أو اجتماعية متماثلة، وهو ما يجعل منها  في نظر المجتمع عموما، مجموعة متميزة أو مميزة. وبنفس قدر إشكالية مفهوم العرق يثير مفهوم ” الإثنية”  إشكالا علميا ووجدانيا، منذ نشأته باليونان الإغريقية، مرتبطا بـ ” الآخر”، وهو ما يفسر المنظور الفكري المعاصر للإثنية على أنها نتيجة لعملية ديناميكية اجتماعية ([5]).

وقد اسْتَخَدَمَ المصطلح لأول مرة، العالم السوسيولوجي Vachier  de la Pauge سنة 1896 لوصف الخصائص الثقافية والنفسية والاجتماعية لمجموعة بشرية معينة، وفي سنة 1922 عرف Max Weber المجموعة الإثنية على أنها تلك المجموعة التي تتميز  باعتقاد أصيل وراسخ كونهم ينتمون إلى الأصل الواحد، ويستند هذا الاعتقاد إلى التشابه البادي بينهم في العادات والتقاليد وما يجمعهم من ذكريات الهجرة أو الاستعمار، مما يساهم في خلق روح المجتمع بغض النظر عن وجود روابط الدم أو العرق.

كما يرى Max Weber أن مفهوم الإثنية ينطوي على ثلاثة عناصر عضوية تنطوي على وجود ” نحن” و ” هم” وهو ما يستدعي بالتبعية، ظهور مفهوم ” الآخر ” ومن ثم البحث عن هوية مشتركة من جانب أعضاء المجموعة، ثم ملاحظة وإدراك قالب نمطي محدد لتلك المجموعة الإثنية من جانب المجموعات الأخرى، فالفهم الأعمق لمعنى التعابير الشعبية والإثنية يمتد ليشمل كل تلك الأشكال الثقافية التي تنتمي بشكل خاص إلى مجموعة معينة في سياق محدد، بما في ذلك فلكلورها الذي يشير إلى جميع التعبيرات التي ترتبط ارتباطا وثيقا بتقاليدها الشعبية، ومع ذلك فاستخدام هذه التعريفات منوط بإدراك أنها مفاهيم مجردة ونسبية تختلف باختلاف السياقات والأغراض([6]).

من كل ما سبق يمكن استنتاج الآتي :

  • تنشأ المجموعة العرقية على أساس بيولوجي في الغالب، يستتبعه كل ما يرتبط بهذا العرق من عادات ورموز تعكس سماته المميزة له، بينما تقوم الجماعة الإثنية في الأساس على التراكمات المشتركة التاريخية بين أفرادها والتي تشكلها وتميزها ثقافيا.
  • يصعب الفصل في الوقت الراهن بين ما هو عرقي وإثني مع تباين الأزمنة والأمكنة.

وبعد استعراض الأشكال الثلاثة الأساس للتنوع الثقافي، يمكن القول أنه هو التراث المشترك للإنسانية الذي ينبغي الاعتراف به والتأكيد عليه لصالح الأجيال الحالية والقادمة، وبذلك كان التنوع الثقافي محط اهتمام العديد من المنظمات الدولية  ضمانا لتحقيق الكرامة الإنسانية لكل مجموعة بشرية معينة وحفاظا على التنوع البشري من جهة أخرى، بما يدعم التماسك القومي للمجتمعات، معتمدة في ذلك على آليات عدة تشريعية واجتماعية وتربوية والتي ستكون موضوع المبحث الثاني، غير أن الأمر يحتاج  قبل تناول تلك الآليات تسليط الضوء على  تشكيل بعض هذه المنظمات بصفتها القائم بأعمال صيانة هذا التنوع الثقافي والمحافظة عليه.

المبحث الثاني : القانون الدولي وحماية التنوع الثقافي .

لقد كان التنوع الثقافي محط اهتمام العديد من المنظمات الدولة والدول والمؤسسات البحثية والأكاديميات وعلى رأس هاته التنظيمات كانت منظمة الأمم المتحدة التي سعت عبر مؤسساتها المتخصصة ( وفي مقدمتها منظمة اليونسكو) إلى سن قواعد تشريعية ومؤسساتية لحماية التنوع الثقافي والنهوض به في مختلف بقاع العالم.

المطلب الأول : اليونسكو وتثمين التنوع الثقافي.

اليونسكو أو منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (Unisco) هي وكالة متخصصة تابعة للأمم المتحدة أسست  منذ سنة 1945، وقد كان التركيز الأولي للمنظمة على إعادة  بناء المدارس والمكتبات والمتاحف التي دمرت بأوربا خلال الحرب العالمية الثانية ومنذ ذلك الحين كانت أنشطتها  تهدف إلى دعم جهود الدول في كل ما له علاقة بالتربية والثقافة، خصوصا مع انضمام البلدان الأقل نموا، والتي ستعرف هجوما غير مسبوق على ثقافتها المحلية بفعل العولمة أو ما يسمى بالليبرالية الجديدة، إذ أنه فبالإضافة إلى جهودها في محاربة الفقر والأمية والتخلف الاقتصادي اتجهت محاولتها إلى صيانة كل ما هو ثقافي حضاري بكل دول المعمور.

مع الإشارة أنه، ومع تولي الأبحاث العلمية الميدانية، في موضوع تأثير العولمة والاستعمار، بشتى أشكاله، على الرأسمال اللامادي لمختلف شعوب الأرض، وخصوصا الفقيرة منها، فإن منظمة اليونسكو ستأخذ بعين الاعتبار توصيات تلك الأبحاث التي تشير إلى انعكاسات ظاهرة  العولمة  على الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الدول  الفقيرة، وهو ما يدفع إلى حتمية استجابة السياسات الوطنية لتطوير التعليم كمدخل أساسي لحماية التراث الثقافي وفي صلبه التنوع الثقافي بالدول النامية([7]).

وفي سعيها لتحقيق هذه الأهداف راكمت منظمة اليونسكو مجموعة من المكتسبات والتجارب، فقد نظمت بالتعاون مع جهات عديدة (المنتدى العالمي للتربية عام 2015)، ومن جهة أخرى لعبت اليونسكو دورا هاما  في بلورة مفهوم التنوع الثقافي  وتطوير أدوات تعزيزه على المستوى الدولي والإقليمي في شكل اتفاقيات أو إعلانات أو توصيات.

وفي هذا الصدد يمكن رصد بعض جهودها المبكرة إزاء حماية الموروث الثقافي فيما تَعُدَّهُ تعزيزا غير مباشر للتنوع الثقافي، منها : ” إعلان مبادئ  التعاون الثقافي الدولي سنة 1966، ” اتفاقية حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي 1972  وتوصيتها بشأن صون الفولكلور لسنة 1989. غير أن جهود اليونسكو الداعمة بشكل مباشر لتعزيز التنوع الثقافي لن يتبلور، على نحو واضح، إلا في مطلع القرن  الواحد والعشرين في “إعلانها العالمي بشأن التنوع الثقافي لسنة 2001” ثم تلا ذلك “اتفاقية حماية وتعزيز تنوع أشكال التعبير الثقافي سنة 2005، ثم جاء بعد ذلك ” تقرير اليونسكو  العالمي “، مفصلا ومحددا حول الاستثمار في التنوع الثقافي والحوار بين الثقافات لسنة 2008 إلى غير ذلك من المجهودات والتي انبثقت عنها العديد من التشريعات والتوصيات الهامة في شأن التنوع الثقافي وهي التي ستكون مع غيرها موضوع تحليل المطلب الثاني.

المطلب الثاني : الحماية الدولية للتنوع الثقافي.

في إطار حماية التنوع الثقافي وفقا لمبادئ العدالة والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والمساواة وعدم التمييز، أصدرت منظمة الأمم المتحدة عبر وكالاتها المتخصصة العديد من القواعد الدولية والتوصيات الهامة التي تصبو إلى صيانة التنوع الثقافي من الاندثار واستحواذ الثقافة واللغة الواحدة على هويات الأمم والشعوب، هذا بالإضافة إلى مساعي ومجهودات منظمة اليونسكو على المستوى العملي والتطبيقي، كتنزيل لتلك التشريعات والتوصيات.

ففي إطار ما هو تشريعي تتضمن منظومة حقوق الإنسان  الدولية العديد من القواعد والتوصيات التي تكرس الحقوق الثقافية واللغوية للشعوب كضمانة أساسية لظاهرة التنوع الثقافي، وعلى سبيل المثال تشير الدراسات الحقوقية إلى أول ثمرة في هذا الصدد، والتي تعد المرجع الأول والأساسي لكل أجيال حقوق الإنسان الفردية  والجماعية وكذا حقوق التضامن، ألا وهي ” الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948 ” ثم بعد  ذلك العهدان الدوليان، العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لسنة 1966 والتي تتضمن كما من الحقوق الثقافية واللغوية تسعى إلى حماية كل أشكال التنوع  الثقافي بصيغة أو بأخرى([8]).

ومع ذلك، وكما أسلفنا الذكر سابقا، أن “الإعلان العالمي بشأن التنوع الثقافي” لسنة 2001  يبقى من أهم جهود منظمة اليونيسكو الداعمة بشكل مباشر لتعزيز التنوع الثقافي، فكان مما أقره في مادته الثانية، أنه لابد من ضمان التفاعل المنسجم بين الهويات الثقافية المتعددة، على اعتبار أن الاعتراف بالتعددية الثقافية هو الرد السياسي على واقع التنوع الثقافي وهو ما لا يمكن فصله عن منهج ديمقراطي يعمل على تيسير المبادلات والتفاعل الثقافي وازدهار القدرات الإبداعية التي تغذي الحياة العامة لمختلف الشعوب.

ثم تلا ذلك ” اتفاقية حماية وتعزيز تنوع أشكال التعبير الثقافي لسنة 2005 وكان من أهدافها تجديد  التأكيد على أهمية الصلة بين الثقافة والتنمية بالنسبة لجميع البلدان، وبالأخص للبلدان النامية ومساندة الأنشطة المضطلعة بهذا الشأن على الصعيدين الوطني والدولي، كما تضمنت الاتفاقية في مادتها الرابعة تحديدا لمفهوم التنوع الثقافي ومضمونه([9]).

ثم جاء تقرير اليونسكو العالمي مفصلا ومحددا حول ” الاستثمار في التنوع الثقافي والحوار بين الثقافات ” لسنة 2007 فتضمن ثمانية فصول وعشر توصيات، ومما جاء فيه في الفصل الأول مثلا المعنون  بـ (التنوع الثقافي)، الإقرار بأنه يتعين ألا نهمل الآثار السلبية لقوى العولمة على تنوع الممارسات الثقافية، وجاء في الفصل الثالث الخاص باللغات، بأن حفظ اللغات الصغيرة يصب في مصلحة مجتمعات الأكثرية والأقلية على حد سواء. كما أفرد التقرير لـ (التعليم) الفصل الرابع، وجاء في توصياته بأنه ثمة حاجة للترويج لكفاءات التعامل بين الثقافات بغية تحسين المناهج التربوية إزاء العلاقات بين الثقافات.

وفيما يتعلق باللغات والتنوع الثقافي، صاغت اليونسكو في شهر مارس من سنة 2003 وثيقة ” حيوية اللغات وخطر تعرضها للاندثار ” وكان  من أهم أهدافها صياغة تعريف لمفهوم تعرض اللغات لخطر  الاندثار ووضع معايير لتقييم هذا الخطر وتحديد دور اليونسكو  في هذا الصدد، من جهة أخرى وفي إطار التحرك الدولي كذلك، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة” إعلانا بشأن حقوق الشعوب الأصلية ” سنة 2007  أقر في مادته الثامنة ما لهاته الشعوب من حق في عدم التعرض للدمج القسري أو لتدمير  ثقافاتها، وأقرت المادة 11 و 13 حق هذه الشعوب في ممارسة تقاليدها والحفاظ على مظاهر ثقافتهم  وإحياء واستخدام وتطوير تاريخها ولغاتها بما يضمن انتقالها إلى الأجيال القادمة، وكان مما أقره الإعلان كذلك في المادة 15 حق هذه الشعوب في أن يعبر التعليم والإعلام تعبيرا صحيحا عن جلال وتنوع ثقافاتها وتقاليدها وتاريخها وتطلعاتها. كما ضمنت المادة 31 حق هذه الشعوب في الحفاظ والسيطرة على تراثها الثقافي وحمايته وتطويره بما يتضمنه من معارف وتعبيرات ثقافية تقليدية([10]).

—————————-

[1]  – بوعزة بنعاشر وعبد الله البلغيتي العلوي، التنوع الثقافي والمواطنة المشتركة، مجلة الأزمنة الحديثة، عدد: ابريل 2008، ص: 8 و9.

[2]  – آدم كوبر، الثقافة: التفسير الأنثروبولوجي، سلسلة عالم المعرفة، منشورات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، السنة 2008، ص: 51.

[3]  – Torkel Ospahl , Déclaration de la diversité culturelle  et programme d’action, édition Cambridge, Bordeaux , France, année 1994 , p : 58.

[4]  – سيمون دورين   Simon  During الدراسات الثقافية: مقدمة نقدية، ترجمة ممدوح يوسف عمران، مجلة عالم المعرفة، الكويت، عدد يونيو 2015  ص : 167.

[5]  – أنجيلا ساييني (Angela Saini)، الثقافة والمساواة، نقد مساواتي للتعددية الثقافية، ترجمة كمال المصري، مجلة عالم المعرفة، الكويت، عدد ديسمبر 2011، ص : 138.

[6]  – Marie le Pinay, sécurité sociale , faillite sur Ordonnance culturelle, éd : Bayard, Paris 2010 , p : 58.

[7] – Max Rubin , Cultural right and democratisation, published bay stast Dpumlcood, Since, 2008 , p : 89.

[8]  Selim Abou, culture et droits de l’homme, édition : pourriel,  Paris , France , 2007 , p : 15.

[9]  – وليد رشاد، التنوع الثقافي: الاتفاقيات والتوصيات، منشورات: سلسلة الثقافة الأثرية والتاريخية، العدد 31، دمشق 1999.

[10]  – ليلى راضي مازن وأدهم حيضر الهادي، المدخل لدراسة حقوق الإنسان، دار النشر المعرفة، بيروت، لبنان، ط. 2، السنة 1999، ص : 205.

اقرأ أيضا

صناعة الإلهاء: الكرة من لعبة فرجوية عابرة إلى شبه ديانة مقدسة موسمية

لا من رياضة حصدت عبر التاريخ الإنتباه الجماهيري الغفير عبر العالم، وصرفت حولها أموال طائلة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *