الجزائر ورهانات الإصلاح السياسي.. إيموهاغ (الطوارق) عمق استراتيجي لا يستغنى عنه

أكلي شكا

صوت الشعب الجزائري بنسبة ضعيفة في 12 ديسمبر الماضي على اختيار عبد المجيد تبون رئيسا جديدا للبلاد خلفا للرئيس المستقيل، عبد العزيز بوتفليقة الذي جاء الى السلطة في فترة عرفت فيها الدولة الجزائرية على المستوى الأمني والاقتصادي والسياسي ظروف صعبة للغاية ليقودها إلى ” بر الأمان” خلال “سنوات الدم” التي عرفت “بالعشرية السوداء” التي ذهبت ضحيتها قرابة 200 ألف شخص. فقبل تولي الرئيس بوتفليقة حكم الجزائر في ابريل 1999 خلفا للرئيس اليامين زروال، كانت بلاده تعيش مخاضا عسيرا من الحرب الاهلية بسبب تصاعد شوكة الجماعات الجهادية المتطرفة التي كان أبرزها تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي والجبهة الإسلامية للجهاد والحركة الإسلامية المسلحة ناهيك عن “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” المتأثرة منهجيا وسياسيا بتيار “جماعة الإخوان والمسلمين” في مصر والمملكة الهاشمية الأردنية.

هذه الأخيرة (الجبهة الإسلامية للإنقاذ)، تمكنت من الفوز في الانتخابات التشريعية التي تم تنظيمها في عام 1991 ولكن تم رفضها من قبل المؤسسة العسكرية (الجيش) كما تم اعتقال عدد كبير من أعضاء الحركة وهروب البعض الى دول الخليج العربي والى أوروبا.

حيث عرفت تلك الفترة السوداء من تاريخ الدولة الجزائرية الحديثة، عدد من الاغتيالات والتصفيات الجسدية التي طالت رؤوس معظم قيادات الدولة الذين كان أبرزهم الرئيس محمد بوضياف الذي اغتيل بينما كان يلقي خطابا رسميا للشعب الجزائري على يد أحد حراسه الشخصين ناهيك عن مقتل مئات الأبرياء من الشعب الجزائري اغلبهم من منطقة القبائل الامازيغية التي يطالب جزء كبير من سكانها الى اليوم بحكم ذاتي والخروج عن الخريطة السياسية التي يقولون انها من صنع المستعمر الفرنسي.

إذا على حين غرة، وصل عبد المجيد تبون الى الحكم بنسبة 58 في المائة من مجموع الأصوات وبعد تسعة أشهر من تواصل “الحراك الشعبي” مظاهراته التي كانت ومازالت تقام في مختلف مناطق وقرى الجزائر ليجد الرئيس الجديد نفسه امام عدد لا يحصى من الملفات والتحديات في هذا البلد الإفريقي الذي يسبح على ثروات طبيعية هائلة استغل جلها في السنوات المنقضية لصالح المؤسسة العسكرية والأجهزة المخابراتية وفي القنوات غير الرسمية لشراء “الفلل” والعقارات في كل من باريس ولندن وسيدني.

وعلى الرغم من تنظيم الانتخابات الرئاسية التي قاطعها معظم الشعب الجزائري الذي يطالب بإزاحة كافة رموز النظام عن الساحة وتقديمهم الى القضاء، إلا ان “الحراك الشعبي” مازال يواصل مسيراته كل يوم الجمعة رافضا الدخول في حوار مع الحكومة الجديدة ومع من يصفهم “بالقطط السمان” وبقايا النظام القديم. هذا الرفض، يدل على مدى ازمة الثقة الموجودة بين الشارع الجزائري العادي مع الدولة كما يظهر لنا حاجة هذا البلد الجميل الى الدخول في حوار حقيقي مع مواطنه من خلال الاستجابة لمطالب الشارع المشروعة تفاديا “لا سمح الله” للانزلاق في مستنقع العنف على غرار ما يحصل اليوم في ليبيا وسوريا.

متطلبات الانتقال الديمقراطي ودور الطوارق الاستراتيجي في العملية الانتقالية

لا يختلف الاثنين بأن المنظومة العسكرية -المخابراتية مازالت متمسكة بخجل بزمام السلطة باعتبارها اليد العليا في رسم ملامح إدارة وسياسة الدولة الداخلية والخارجية دون الحاجة الى الرجوع الى الجهات التشريعية. على الرغم من أن عدد كبير من القيادات العسكرية والساسة (المقربين من السلك العسكري) كانت إما قد استقالت أو أزيحت تماما عن المشهد العسكري والسياسي، على الأقل لنقل في الوقت الحالي، فإن الشعب الجزائري يبدو في ثورته السلمية “الحراك الشعبي” مصرا هذه المرة بأجراء تغيير جذري وحقيقي في البلاد سيما بعد أن أصبح عدد كبير من السياسيين الفاسدين خلف القضبان، ما يعطى املا كبيرا في وضع الجزائر على سكة الإصلاح الديمقراطي وخطوة مهمة في شق طريقها نحو استرجاع مكانتها ودورها الاستراتيجي بعد ان كان قد اقتصر فقط على قضايا الداخل الأمنية.

حيث ظلت الدبلوماسية الجزائرية منذ سنوات تراوح مكانها في استجابتها للقضايا الدولية الساخنة لإبراز دورها الإقليمي الذي تتمتع به. فغياب الجزائر في الملف الليبي يعد أفضل مثال على هذا الغياب ويعكس عجز الساسة الجزائريين في التعامل مع القضايا الكبرى. فبدل ان تلعب الجزائر دورها الاستراتيجي المهم ركزت امنيا مع قضايا جوارها الاقليمي. ولعل تعامل الجزائر مع ملف قضية الطوارق في اقليم أزواد (شمال مالي)، يبرز مستوى هذا الفشل الفادح ضاربة بعرض الحيط العمق الاستراتيجي الذي يمثله الطوارق في هذه المنطقة (الصحراء الكبرى) بفضل امتدادهم الاجتماعي والثقافي ناهيك عن الكثافة البشرية الهائلة. وهي مرتكزات يمكن استثمارها كعمق استراتيجي مهم تستخدمه الجزائر كورقة ضغط على غرار ما فعلت بملف “بوليزاريو”، حيث تمكنت جنرالات الجزائر بتحويل هذا الملف الحساس كشوكة في خاصرة المملكة المغربية وهو نفس التقارب الذي حاول القذافي في السنوات الأخيرة من حياته ان يسلكه مع الطوارق.

فالحنكة السياسية الرشيدة، تستوجب من الحكومة الجديدة او أي حكومة أخرى تأتي بعدها، الدخول في إصلاحات اقتصادية ملموسة سيما في مناطق الطوارق الفقيرة التي عانت كثيرا من التهميش والفقر والطمس الهواياتي عبر كل حكومات الجزائر المتعاقبة. فتنمية مناطق الجنوب التي تفتقد الأدنى متطلبات الحياة، تستوجب الشروع في مشاريع اقتصادية واجتماعية تستهدف بالدرجة الاولى الاستثمار في التعليم وعنصر الشباب الذين أصبح عدد كبير منهم يتجهون الى التهريب والاعمال غير المرغوب فيها بسبب سياسة الدولة التي كانت تشجع هذا المنحى. الحكومة الجديدة أيضا لابد ان تشرع في تحسين علاقاتها مع الطوارق في دول الجوار سيما في ليبيا وإقليم ازواد الذي يناضل شعبه لأكثر 60 عاما ضد المحتل المالي بإيعاز من فرنسا ومن الجزائر وهي شروط اساسية لأي تحول إصلاحي وديمقراطي حقيقي في هذا البلد الغني بالموارد الطبيعية.

وفي الختام وبعيدا عن لغة الدبلوماسية والضرب حول الشجر، فقد حان الوقت للجزائر التي تربطها علاقات الدم والأرض والتاريخ والمستقبل، ان تنظر نظرة جدية في هذه القضايا الحقوقية العادلة. فالطوارق يعتبرون عمق استراتيجي وأمني مهم للجزائر لا يمكن الاستغناء عنه او تجاهله. وما لم يتحرك قادة الجزائر تحديدا وليبيا الى طرح هذه القضايا بشكل حقيقي وإعادة النظر في علاقاتهما مع قضية الطوارق العادلة في إقليم ازواد وليبيا، فسيضطر الطوارق الى إيجاد حلفاء جدد باتت بعضها تدغدغ مشاعر الطوارق منها على سبيل المثال وليس الحصر، دولة تركيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية التي باتت أنظارها تتجه بقوة إلى مناطق الطوارق الغنية بموارد النفط والغاز والذهب.

بقلم/ أكلي شكا، 20 كانون الثاني 2020، ضواحي باريس

اقرأ أيضا

جزائريون ومغاربة يتبرؤون من مخططات النظام الجزائري ويُشيدون بدور المغرب في تحرير الجزائر

أثنى متداخلون مغاربة وجزائريين على دور المقاومة المغربية في احتضان الثورة الجزائرية ودعمها بالمال والسلاح، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *