الحاج المهدي بن مبارك، فنان أمازيغي بكاه كل المغاربة (الجزء الأول)

الطيب أمگرود

طوبى لك أيها الشهم الطيب، اختارتك الشهرة حيا ورافقتك وأنت توارى الثرى ميتا، ولجت القلوب صغيرا وخلدت فيها وأنت تودع الحياة، طوبى لك أيها الطيب، نظرة يتيمة إلى صورتك تكفي لتلج كل القلوب، وقد ولجت قلوب كل المغاربة وخلدت في مجاري الدم منهم إلى الأبد.

بحث عنك الجميع وتعقبوا أخبارك، وزعوا صورك، تألموا وبكوا لاختفائك المفاجئ الغامض ولسان حالهم يردد كيف لهرم أن يختفي، ومن له مصلحة في اختفاء أطيب الخلق على الإطلاق الحاج المهدي بن مبارك، من علم المغاربة الأمازيغ أدق تفاصيل فريضة الحج، من أسرت حنجرته قلوب الملايين وهو يغني، واسرت طيبوبته قلوب الملايين وهو يواصل عيش البساطة في مدينة غول اسمها الدار البيضاء، واحتار الجميع لاختفائه الغامض لقرابة أسبوعين وكأنه يعدهم للأمر جلل وفاته وسفره الأزلي، ليودعه المغاربة في جنازة مهيبة لا تليق إلا بالعظماء، فما أعظمك.

سيبحث عنك المغاربة جميعا منذ اختفائك عصر الأحد 03 مارس إلى غاية العثور عليك عصر الجمعة 15 مارس 2024 بمقبرة الغفران بالدار البيضاء، تناسلت الأسئلة والتخمينات، بحث عنك فلذات كبدك دون كلل ومعهم المغاربة، جالت صورك كل ربوع المغرب، ولكن لا أحد يعلم أنك ستغادرنا وأنت تتقطر أروع مشاعر الحب لفلذة من فلذات كبدك التي لم تطق لها فراقا ولا نسيانا، ذهبت لتزورها وأنت لا تعلم أنك سترقد بجانبها إلى الأبد.

بدوار الزاويت أوفلا بأسيف ن ايت واضيل قبيلة إنكنافن بإيحاحان ولد الحاج المهدي بن مبارك سنة 1936، وبه نشأ وترعرع وتربى وتزوج وولد أبناءه. ولأن النهر منبع للحياة لدى كل الشعوب، منح نهر أيت واضيل، آل العنب، الحياة لأيت واضيل مسقط رأس الهرم المهدي، ومنح لأبنائها ، كما كل مناطق الأمازيغ، حب الآخر والكرم والعطاء، ووهبهم حب الفن وفي صلبه أحواش وأمارگ.

فتح الحاج المهدي عينيه وسط عائلة تعشق الفن، ومن والد فنان شاعر/ أنضام، يترأس مجموعة لإسمگان أي گناوة جال بها ربوع المغرب بأسره ومنه مناطق الجنوب الناطقة بتشلحيت وبلغ به التجوال الجزائر الشقيقة، ومن أخواله ورث الفن بأدق تفاصيله، ويحكي الحاج المهدي أن أباه، كمثل كل الآباء الأمازيغ، ّ”كان كلما اجتمعنا حوله أنا وإخوتي يطلب منا مؤانسته وتطييب خاطره ببعض ما نتقن، فيعزف أخي الأكبر محمد نايه وأضبط الإيقاع على البندير ليطرب الوالد حد الثمالة فيدعو لنا وهو يكتفي بالصلاح والفلاح”.

في هذا المناخ الأمازيغي الأصيل، حيث الفن من تفاصيل الحياة التي لا يتحرج الابن من مزاولتها أمام الأب، بل يطلب الأب من ابنه أن يؤنسه بما يتقنه من فن، حيث يشجع الأب، وما أدراك ما الأب والهبة والوقار في الوسط الأمازيغي، ويعين ابنه على مواصلة النبوغ في الفن، سينشأ من اختاره فن تيرويسا بكل تفاصيله التي أتقنها ليسهم في رسم تفاصيله وإثراءه، فيصبح من رموزه الذين أغنوا خزانة أغنية الروايس بأروع الأعمال، فحظي بالحب والتقدير الكبيرين من مزاولي المهنة والجمهور على السواء، كيف لا وهو من سيرسم شعرا من خلال رائعته الحيجّْ أيگا دْ الفرض لمن لا يتحدثون إلا الأمازيغية تفاصيل مسار وخريطة السفر نحو الحج وأداء مناسكه من الاستعداد إلى الوداع.

في بيئة الدوار سيبادل المهدي الطفل أقرانه اللعب في جنبات الوادي، ومن ابن خاله الرايس الحسين بوخرص سيطلب رايس المستقبل آلة لوطار الأولى التي ستداعبها أنامله، فيصنع له آلته التي لن تفارقه وهو يرعى قطيع الأسرة، وفي أجواء الغابة الملهمة سيتعلم أولى النغمات، والتي سيجتمع عليها أبناء الدواوير المجاورة الزاويت وأيت سعيد أوسوس وأزازاي حيث تقطن عائلة الحاج المهدي في المساءات السعيدة على غرار كل القرى الأمازيغية. سيجتمع أصدقاء المهدي في غرفة من غرف البيت العائلي والتي تضم الآلات التي سيحتاجها السمر الفني، فيمسك كل منهم بالآلة التي يستطيع العزف أو النقر عليها، فتوالت جلسات الموسيقى والغناء التي يحكي الحاج المهدي بن مبارك أنه منها دشن مشواره الفني الكبير.

على درب كل فناني تيرويسا سيلج الحاج المهدي عالم الشهرة من حفلات وأعراس المنطقة، فكان يرافق آلته لكل مناسبة تطرق سمعه، فنال ما يقوم به إعجاب المتلقين الشغوفين بأحواش والغناء والشعر، فكانت فرقته التي تضم أخاه وتتقن أحواش إيحاحان تنشط المناسبات، ويصر المهدي على تسجيل حضوره عقب كل وصلة من وصلات أحواش بأداء فقرات غنائية يعينه على أدائها أصدقاؤه ممن يتولون ضبط الإيقاع، فواظب على أداء أغاني سابقيه كالحاج محمد أوموراك ومحمد أعراب وعبد السلام إقرماس والحاج أحمد أمنتاگ وغيرهم كثير، ونال إعجاب وحب الجمهور المحلي الذي أغدق عليه وعلى فرقته عطاء لم يرسمه قط هدفا لما يفعل، كيف لا ومكانة الرايس بمناطق الأمازيغ كبيرة وحضوره لا يستغنى عنه في المناسبات والأفراح.

كانت العلاقات الاجتماعية يسودها الحب والوئام والتآخي بين الجميع، وكان حب الناس للفن منقطع النظير، فكانت للرايس قيمة وحظوة كبيرتان لديهم، وكان حضوره بأحد الدواوير إيذانا بقدومهم من أقصاها للاجتماع حوله، مرحبين فرحين، ومن الأسماء التي زارت دوار أزازاي، حيث نشأ وترعرع الحاج المهدي وتشرب منهم تيرويسا الرايس مرزوگ وإبراهيم بوتازارت وابنه محمد أوبراهيم أوتاصورت وبورشوق الذي كان يحمل فونوغرافا لتشغيل الأسطوانات، فيجتمع حوله الناس لسماع أغاني لم تتح بعد التقنية للجميع الاستماع إليها.

سينطلق المهدي نحو عالم تيرويسا من أسيف ن أيت واضيل ، نهر أيت واضيل حيث رأى النور وترعرع، نحو إيسافّْنْ ن أومارگْ، أبحر الشعر كما يسميها الروايس، حيث سيتربع على عرش تيرويسا إلى جانب الكبار، كيف لا وهو ذاك الإنسان البسيط الطيب المستعد للتعلم أيا كانت الظروف، كيف لا وهو الذي وهب حنجرة وصوتا رائعين وعذبين، كيف لا وهو من روض أصابعه ومرنها على تعقب نوتات المقام الخماسي أشلحي، ويبدع عليه روائعه رائعة رائعة كلمات ولحنا وعزفا وأداء.
يتبع

اقرأ أيضا

الإحصاء العام: استمرار التلاعب بالمعطيات حول الأمازيغية

أكد التجمع العالمي الأمازيغي، أن أرقام المندوبية تفتقر إلى الأسس العلمية، ولا تعكس الخريطة اللغوية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *