إن جميع ما حققته الحركة الأمازيغية بالمغرب من “حقوق” ما هو إلا نتيجة هزات ارتدادية ولم يكن بتاتا تحصيل نضال.
ففي ذروة صراع الاستقواء والسيطرة على السلطة بين القصر وحزب “الاستقلال”، دجن الملك الراحل بعض الأمازيغ الناطقين بالأمازيغية في حزب كاريكاتوري للوقوف في وجه الفكر “الاستقلالي” التأحيدي. ولا تزال لوثة خطب أمينه العام عالقة بطبلة آذان الكثير من السكان في زياراته غير البريئة للجنوب الشرقي لتنويم الشعب وإبلاغ “سلام” القصر “للأمازيغ”، وفي كل مرة يجتر أفكاره المستهلكة وكأني به يتصور “قصر السوق” سوقا للحمير المستبلدة. حتى فاجأه أحد الحضور يوما بقوله: “إذا كنت ستبلغنا سلام الملك فنحن بدورنا نبلغك سلامه، فهل لك من كلام مفيد تشنف به مسامعنا!”.
يستمر الدور نفسه في مهزلة اعتقالات 1994 للمناضلين الأمازيغ – المنضمين إلى لائحة المعتقلين السياسيين للحركة الأمازيغية إلى جانب “علي صدقي أزايكو” معتقل الرأي والتعبير – الذين رفعوا لافتة مكتوبة بـ “تيفيناغ” والمطالبة بالإنصاف اللغوي والثقافي مما جعل القضية تأخذ بعدا وطنيا ودوليا لحلحلة الأمور. المخزن نفسه يكلف أمين عام “الحركة الشعبية” مرة أخرى لمحاورة المعتقلين وإقناعهم بتوقيع محاضر بوليسية محبوكة وطي الملف درء لتبعات ذلك على السلم الاجتماعي وقطفا لزهور الربيع الأمازيغي الأولى. توطين الملف وتدويله وظهور نوع من تجييش العاطفة الأمازيغية وخوفا من أي رد فعل يهدد السلم الاجتماعي كلها عوامل دفعت الملك الراحل المعروف بدهائه في خطاب 20 غشت 1994 إلى دعوة الحكومة إلى تدريس “اللهجات الأمازيغية”، وهذا هو الأمر الملكي الوحيد الذي لم ينفذ طيلة فترة حكم ذلك الملك المعروف بقبضة حكمه الحديدية الخانقة للمغرب في ظل مناخ سياسي مشحون (تتصارع القوى السياسية بلاطا وأحزابا وينال شواظ ذلك الشعب)، وهنا يبرز غياب الإرادة السياسية سواء عند المؤسسة الملكية آنذاك (كون القرار تمويهي وتكتيكي بالدرجة الأولى) والحكومة الصورية لإنصاف المزوغة (التي لم تخل يوما ما من الإيديولوجية المعادية للهوية الأمازيغية متمثلة في حزب “الاستقلال” بالدرجة الأولى حيث نتذكر مناكفات أمين حزب “الحركة الشعبية” وحزب “الاستقلال” في كل ما يخص الأمازيغية خاصة في شخص “الدويري” الأب الذي ظل وفيا للإطار المرجعي الذي وضعه “علال الفاسي” والقائم على الانتصار للعروبة – لا غير – المغلفة بالدفاع عن الإسلام).
خطاب لو استمع إليه شباب اليوم من المناضلين لاعتبروه إهانة للغة الأمازيغية وسيطلبون من “المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية” عدم اعتباره مرجعا تشريعيا في تدريس اللغة الأمازيغية فهو خطاب يسيء إلى المزوغة أكثر مما ينصفها فهو يلهجن اللغة الأمازيغية ويبخس من قيمتها ويعتبرها كنة للغة العربية (فكرة المركز والمحيط) – وكأني بالمزوغة تطلب الوفادة على أرضها – ويعتبرها شريكة في ما حققته العروبة من إنجازات وانتصارات!!! هذه النظرة هي التي أعاد إنتاجها الميثاق “الوطني” للتربية والتكوين – خاصة المادتين 15 و 16 منه – الذي اعتبر الأمازيغية – دون أية صفة لسنية – أداة للاستئناس بغرض مساعدة التلاميذ على تعلم اللغة الرسمية للبلاد وهو ما درج عليه الكتاب الأبيض الذي خصص سطرين إلى ثلاثة سطور للأمازيغية وسط صفحة بيضاء بياض اسمه (حيث ركز على إتقان اللغة العربية والانفتاح على الأمازيغية والتمكن من اللغات الأجنبية حيث تظهر الأهداف المتغياة التمييز الممنهج تجاه اللغة الأمازيغية، أي اللغة الوطنية الأم).
تمر السنوات العجاف لننتظر اغتيال المناضل الأمازيغي الجزائري “ماسين ݣــرماح” وتشهد الجزائر الأمازيغية الشقيقة احتجاجات الربيع الأسود (Tafsut tabrkant) الذي عرف كثرة الاصطدامات بين المناضلين الثوار والآلية البوليسية العسكرية الجزائرية حيث شهدت سقوط أموات وجرحى في صفوف الثوار. حمأة الوضع الداخلي بالجزائر والخوف من انتقال عدوى “الاضطرابات” إلى المغرب والرغبة في تلميع الصورة الحقوقية المهزوزة للمغرب في المحفل الدولي وكذا الرغبة في استجداء قروض صندوق النقد الدولي وأخذ نقطة سبق على حساب الجزائر بالنظر إلى صراع المغرب والجزائر على الزعامة الإقليمية، كل هذه الأمور دفعت بالملك الجديد إلى الدعوة إلى الاعتراف بالمزوغة باعتبارها مكونا جوهريا – بمثابة القطب في الرحى – في الهوية الأمازيغية وكذا الدعوة إلى المصالحة مع الذات في خطاب اعتبر “تاريخيا” – من طرف المهللين – في منطقة “أجدير” – وهو اختيار غير اعتباطي وغير بريء بالمرة كونها شهدت أحداثا تاريخية مفصلية عديدة – حيث دعا فيه إلى تأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، حيث لعب الناطق الرسمي السابق “حسن أوريد” دور في ترتيب تفاصيل الأمور القبلية كما اعتبر هذا الإجراء من طرف البعض خطوة استباقية لفرملة “تاوادا” حينما كانت في لحظاتها الجنينية.
المكان الذي ألقي فيه الخطاب لم يكن بريئا بتاتا. فمنطقة “أجدير” التي تذكرنا – إلى جانب الأحداث السياسية الأخرى – بالمؤامرة التي حيكت ضد عامل “قصر السوق” – التي أصبحت بجرة قلم جزافيّة “الرشيدية” – “عدي بيهي” بعد أن اتهمه حزب “الاستقلال” بقيادة زعيمه “علال الفاسي” الذي نجني ويلات سياساته حيث يقول الشاعر الأمازيغي:
Swan « ifasiyn » aɣu ur ta indi
Ḥḍun imaziɣn s walln tisnda !
الترجمة: – شرب “الفاسيون” اللبن وما تمخض
ونال “الأمازيغ” حظ النظر إلى الزبدة.
(للعلم فقط، فالمقصود بالفاسيين هنا هم “الاستقلاليون” الذين اتخذوا “فاس” عاصمة للترويج لـ”فكرهم” لأنه كانت لهم مطامح لجعل “فاس” عاصمة للمغرب بعد الاستقلال تيمنا بالدولة “الإدريسية” وليس المقصود بهم سكان “فاس” عموما، واللبن والزبدة هنا يدلان على السلطة والحكم والمناصب بعد دحر المستعمر الأجنبي، و”الأمازيغ” باقي عموم المغاربة الذين همشوا ومورس عليهم التهميش والإقصاء في التوظيف والاعتراف والحكم والإنصاف فقد اكتفوا بالمشاهدة والمتابعة).
للتذكير فإن الملك الأول للمغرب بعد الاستقلال الإداري الشكلي كان خائفا من تصفيته أو الإطاحة به من طرف قادة حزب “الاستقلال” بالنظر إلى الصراع الدائر بينهما، كما لم يأمن دوائر من يشترك معهم القصر الملكي. خوف الملك وإحساسه بالتهديد من حزب “الاستقلال” الذي أراد الاستفراد بالسلطة وتهميش الأمازيغ غير المعربين، دفعه إلى التنسيق مع القائد “عدي ؤ بيهي” ودعوته إلى استنفار “الأمازيغ” الناطقين حتى يكونوا في استقباله عند زيارته لمدينة “أجدير” وهو ما تأتى له بالنظر إلى شعبية “عدي بيهي” بالجنوب الشرقي والأطلس وكذا سلطته حيث تمكن من تعبئة الجماهير الشعبية. وفي هذا الصدد يقوا أحد الشعراء الأمازيغ:
Mk di nuly i laṭṛ iniɣ ur illi urgaz amm « Ɛddi »
Nkti d tinbaḍin nns, iniɣ Ṛbbi ur t id ittrara !
الترجمة: – إذا تقفينا أثر التاريخ، أقول: “لا رجل مثل عدي (ؤ بيهي)
وإذا تذكرنا حكمه، أقول : “اللهم لا تجعل له عقبا”
غير أن تنسيقا سريا تم بين القصر وقادة “الاستقلال” لتقاسم السلطة – بعد أن رتب بعض السياسيين لقاء بين الطرفين المتنازعين – ووصول أنباء الملك بتعبئة “عدي بيهي” لجماهير يعرف الملك بشخصه وهيبته أنه لن يعبئ مثلها جعله يتوجس منه خيفة، فوجهت تهمة العصيان والانقلاب لـ”عدي ؤ بيهي”: تهمة حاكها “الزعيم” المزعوم “علال الفاسي” وصكها القصر ليودع “عدي ؤ بيهي” غياهب السجن إلى حين تولي الملك الراحل الحسن الثاني سدة الحكم ليفرج عنه لتفطنه بدسائس الحزب المذكور، غير أن يدا خفيّة حقنته بمادة سامة جعلته يموت تدريجيا. تفصيل القصة اقتضاه شرح اختيار مكان الخطبة إذ ينظر إليه على أنه مصالحة مع التاريخ.
من بين المحطات التي وشمت مسار الحركة الأمازيغية يأتي “ميثاق أكادير” الذي وقعه عدد من الجمعيات المهتمة بالشأن الأمازيغي في إطار التنسيق الجمعوي الوطني الذي انهار فيما بعد لأسباب تعود بالدرجة الأولى إلى الرغبة في الزعامة والحسابات الشخصية والاتجاهات الجهوية. وقد كان من بين مطالبه الدعوة إلى تأسيس معهد مستقل للدراسات الأمازيغية. غير أن تسميته بذلك الشكل – المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية – أثار حفيظة البعض على صفة “الملكي”، بحيث يمكن النظر إليها من جانيين اثنين:
– الأول إيجابي وهو أن هذا يمنح للمعهد “حصانة” ضد الخصوم التاريخيين للقضية الأمازيغية الأصيلة والمشروعة بالنظر إلى عدم دستوريته أي أنه غير وارد في الدستور حتى يحظى بحماية قانونية تشريعية ومن ثم كانت صفة “الملكي” غطاء سياسيا وقانونيا لهذا المعهد بالنظر إلى الصلاحيات والاختصاصات الواسعة للملك، والعديم من المؤسسات التي على هذه الشاكلة قليلا ما ينالها قلم المعارضة أو الافتحاص المالي.
– الثاني سلبي إذ أن التوصيات يجب أن يرفعها هذا المعهد إلى البلاط الملكي قصد البث فيها والمصادقة عليها، ونحن نعلم أن الملك ليس هو من يتفرغ لمثل هاته المسائل بل يتكلف مستشاروه ومؤرخو البلاط والسابحون في فلكه بذلك ونحن نعلم الخلفية الإيديولوجية لعدد من هؤلاء وعلى رأسهم “مؤرخ” الدولة الراحل “عبد الهادي أبو طالب” الذي يعتبر ذا فكر قومي خالص، كيف لا؟ وهو من وضع كتب التاريخ الأولى للمدرسة المغربية والتي علم فيها المغاربة دروسا لا تنتسى مثل “سكان المغرب الأولون” و”لغتي العربية”… نص انطلاق هذا الدرس الثاني كان عبارة عن حديث موضوع نسبه جزافا للرسول (ص)، فقال ما يأتي: “أحب اللغة العربية لثلاث: لأنها لغتي، ولغة القرآن ولغة أهل الجنة” إلى جانبه نجد “عبد القادر الفاسي الفهري” اللغوي القومي الذي لا يفوت فرصة تلفزية أو إذاعية أو… إلا ودعا إلى التعريب وتفادي الفرنسة واعتبار اللغة الأمازيغية مجرد لهجات مشتقة من لغة/لهجة قريش. فمثل هذه العقليات التي تدور في فلك البلاط الملكي لا يمكنها أن تنصف المزوغة في شيء وإلا ستدبر الملف بالطريقة التي يدبر بها ملف العفو عن المساجين إذاك يمكن أن نسمع إقرار سياسات لغوية بيدوفيلية على شاكلة ما وقع غير ما بعيد.
كما أن طبيعة المعهد الاستشارية وليس الاقتراحية بالنظر إلى مطاطية الظهير المنظم لاختصاصاته واحتمال التأويل جعل من هذه المؤسسة غير فاعلة على مستوى السياسات العامة للبلاد ذات الصلة بمداخل اللغة والثقافة الأمازيغيتين في الحياة العامة، وإن كان العاملون به يركزون على طابعها العلمي الأكاديمي فإن ذلك يجعل منها مومياء يتم النفخ في رمادها كلما احتاج المخزن إلى تبرير سياسة من سياساته فيلهجون مديحا وثناء، ومنهم من يدفع بهم ذلك إلى التعبير عن مواقفهم السياسية خارج هذه المؤسسة. ولعل أبرز ما قوّض مصداقية هذه المؤسسة هو نقطة “اختيار الخط الأنسب لكتابة اللغة الأمازيغية” ففي الوقت الذي كانت فيه الأغلبية الساحقة مع تبني الخط اللاتيني لكتابة اللغة الأمازيغية – انتصارا لروح لقاء “أمكناس” الذي جمع أطياف الحركة الامازيغية – تدخل الحركة الإسلامية التي تنتصر للعروبة قلبا وقالبا لتهدد بالنزول إلى الشارع في حال تبني الحرف اللاتيني – خطّ الكفار والمستعمر على حدّ قولهم – ومحاولة فرض كتابة اللغة الأمازيغية بالخط العربي ذي الأصل الآرامي – الركن السابع من أركان الإسلام – وهو ما جعل القصر يدخل على الخط – وهو الذي لم يكن في أية لحظة غائبا – لينظَم تصويت بين الخطوط الثلاثة وكأننا أمام برامج حزبية، بعيدا عن تحكيم الاختيار العلمي الأكاديمي والنظرة الجيو- إستراتيجية واستحضار الدراسات المستقبلية والواقع اللسني والرهانات التربوية. هذا التصويت الإجباري كان لا بد من رفضه جملة وتفصيلا – لأنه الداعين إليه محكومون بتوجهات إيديولوجية لا تنتصر لا للعلم ولا للبحث الأكاديمي أو التنظير اللسني والتربوي – والسلطة المنظمة للتصويت لم تكن حيادية بل موجهة له، وإلا كيف تغيرت نتيجة التصويت ما بين المرحلة الأولى والمرحلة الثانية. بل كان من اللازم إما الانسحاب بشرف “ئحطّوا السوارت” أو تنزل الحركة الامازيغية بدورها للشارع ما دام الخصوم لا يؤمنون إلا بلغة الشارع والكثافة العددية وتهييج المواطنين بدل لغة العقل والعلم والمنطق. وباستمرارهم في مناصبهم – خسرت الحركة الامازيغية معركة الخط – لتظهر بعيد ذلك خلافات بينهم – انسحاب سبعة أعضاء منهم – كما كرس نظام “الكوطا” الجهوي/اللهجي انتصار الحسابات الجهوية على الكفاءة العلمية والأكاديمية.
كان المخزن يوهم الناس عبر أبواقه التعليمية والإعلامية بالاستجابة للحقوق الأمازيغية، ومن ثم كان البعض من المواطنين غير المتابعين يواجهون المناضلين الأمازيغ بالقول: “ماذا تريدون بعد؟” في حين أن المعهد على علاته لم يكن إلا مطلبا من بين مطالب عدة (الأمازيغية في الإعلام، الأمازيغية في التعليم، الأمازيغية في القضاء، الأمازيغية في الحياة العامة، هوية المغرب، ترسيم الأمازيغية…) وأن المدخل اللغوي ما هو إلا مدخل من بين مداخل عدة.
تمر سنوات أخرى من الزواج الكاثوليكي الأعرج بين المزوغة والمخزن ويتواصل مسلسل التسويف والمماطلة والتعامل المزاجي مع عدد من المطالب المشروعة، ليأتي الربيع الديموقراطي – الذي أصبح خريفا إسلامويا جحيميا بعد ذلك – وخوف امتداد دوامته إلى المغرب الذي تجتر مؤسسته الرسمية مقولة سياسية فارغة جوفاء المعنى مفادها “الاستثناء المغربي” وبعد تظاهرات 20 فبراير التي فترت بسبب الانتظارية والقبول بأنصاف الحلول واغتنام من لم يشاركوا في خلقها وسحب البساط من تحت أرجلها من طرف المؤسسة الملكية، إذاك جاء “وحم” المزوغة في هذا المخاض ليفكر المخزن في الإنصاف والإحقاق. ومرة أخرى يظهر الارتجال في التنسيق بين مختلف أطياف الحركة الأمازيغية – باستثناء بعض البيانات الأريكية المنزلية أو المكتبية تحت أثير المكيفات من طرف بعض الحساسيات التي لم توسع دائرة الفاعلين – لوضع خارطة طريق ورفعها إلى اللجنة المكلفة بصياغة الدستور على علات هذه اللجنة وشخوصها، بدل انتقاء هذه الأخيرة لمحاوريها والتقائهم بشكل فردي. هنا أيضا ظهرت مرة أخرى الأحزاب لتكشف البرقع عن ولائها للقومية العربية ورفضت نسبة الأسد منها – باستثناء أحزاب تعد على رؤوس الأصابع – ترسيم اللغة الأمازيغية يتقدمها حزب “المصباح” وحزب “الميزان” وهلم جرا من الأحزاب التي تنتظرها مساءلة التاريخ. تدخل الملك أفحم أفواه الأحزاب الحربائية الكارتونية وسدت ثغرة وضحالة تحرك الحركة الأمازيغية وإن كان حزب “المصباح” قد توعد بالوقوف والتصدي لهكذا قرار في المجالس التشريعية وقد عاهد فصدق فكبل المزوغة بقانون تنظيمي جعل الأمازيغية حقوقها تنكص وحرمتها تنتهك. وحدها الخطوة الملكية – ليس حبا في الأمازيغية بل توسلا لها للنجاة – هي التي رسمت اللغة الأمازيغية والهستيريا الانتخابية للشعب على صناديق الاقتراع إذ أن الاستفتاء الذي تم كان أشبه ما يكون على المؤسسة الملكية وليس الدستور.
ولا تخفى علينا خروقات هذا الاستفتاء انطلاقا من دعوة الملك مباشرة للتصويت عليه بـ “نعم” ودعوة الأئمة المصلين بالتصويت بنعم أيضا وكذا تسخير الأحزاب الموالية للمخزن الذي مول حملاتها أكثر من حملات المعارضة واستغلال الأبواق التلفزية والإذاعية لحمل الناس للتصويت بنعم على الدستور دون الحديث عما وقع في مكاتب الاقتراع من مهازل إذ صوت القائمون عليها بدل المنتخبين أما في المناطق التي شهدت تدني نسبة التصويت فقد عاد المخزن إلى سياسة الترهيب والتهديد بتسخير المقدمين والشيوخ واعتبار عدم التصويت عصيانا للملك، وهكذا تم التصويت بنعم بنسبة ذكرتنا بنسب فوز “بنعلي” أو “مبارك” بالانتخابات العامة. كل هذا التفصيل لنقول إنه لولا التدخل الملكي لظلت اللغة الأمازيغية حبيسة اللهجنة وأنه لو أوكلت مهمة التصويت بنزاهة لأمازيغ “السربيس” لصوتوا بـ “لا” من منطلق جلد الذات السكيزوفريني ومركب النقص. وكم كنا أحوج ما نكون إلى أن يظل الشعر “ساكّو” حيّا بيننا ليعيد إلقاء بيته الشعري المشهور – أو قرض بيت شعري آخر – :
Γriɣ awn, a lmsakin, mk i tgam ṛṛay
Γir awn ad tinim i gar azduɣ: Nɛam
لأن الدستور الذي تم التصويت عليه، لم يأت بجديد يذكر خاصة بالأمور التي دفعت الناس إلى الحراك الشعبي (توزيع السلط، المحاسبة، تحقيق العدالة المجالية، التوزيع العادل للثروات، القطع مع سياسة الريع، إرساء النظام الفيدرالي…)، دستور خدم المخزن أكثر مما استجاب لمطالب الحراك، فتقوى أكثر هالة واختصاصا.
لا بد من الإقرار أن اللغة العربية ربحت أكثر مما ربحته اللغة الأمازيغية في هذا الدستور الجديد القديم، فبعد أن كانت لغة مرسمة فقط، يأتي الدستور الجديد ليمنحها صفة “الوطنية”، مع العلم أن المغرب من بين الدول التي لم تمِل يوما إلى وصف مملكته بالعربية – كما هي الحال مع جمهورية مصر الفرعونية و”الجماهيرية’ الليببة الأمازيغية… – إيمانا منهم بكون تلك التسمية لا تعكس حقيقة التاريخ والجغرافيا والأرض والإنسان، ونحن بالأمس من رفض طلبنا من طرف جامعة الدول العربية لكون أرض مراكش أرض البربر. ارتهان تفعيل الطابع الرسمي للغة الرسمية للغة الأمازيغية بصدور القانون التنظيمي يجعل وعيد السيد “بنكيران” حقيقة مرة وواقعا أمر وسيظل كما ظل القانون التنظيمي للإضراب الذي تم التنصيص عليه في أول دستور مغربي حبيس عبارة “وسيصدر قانون ينظم هذا الحق”. انتصر “بنكيران” وسيضيع المغرب سنوات أخرى من الزمن السياسي في إقرار سياسات وقوانين لا يختلف اثنان في أصالتها ومشروعيتها سوى من باب المناكفات السياسية والإيديولوجية المقيتة. فهل تنتظر الحركة الأمازيغية هبة ملكية أخرى رغما عن أنف الأفعوانيات الحزبية وحتى بغض النظر عن شعبية المسعى من عدمه؟ أم تنتظر ربيعا آخر أو اغتيال “ماسينيسا ݣـرماح” آخر لنسمع خطابا “باسيفيكيا” يصدر القانون التنظيمي بدل الحكومة والمعارضة؟ ما هو جار منذ سنوات هو أن فعاليات تجمع مليون توقيع للمطالبة بتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية – كما هي حال المطالبة باعتبار رأس السنة الامازيغية عيدا وطنيا رسميا – في الوقت الذي يتم نسف خطوات حراك “تاوادا” ومنعها واعتقال المناضلين والاعتداء عليهم دون وجه حق!! كما أنه في الوقت الذي نتنظر فيه التدريس باللغة الأمازيغية – مرحليا – مناصفة على الأقل مع اللغة العربية، نتفاجأ بالمجلس الأعلى للتعليم يدعو إلى إجبارية تدريس اللغة الأمازيغية في المستويات الثلاثة الأولى من التعليم الابتدائي مع التركيز على الكفايات التواصلية وكأننا ندرس لغة أجنبية للاستئناس ضدا على حقيقة كونها اللغة الأم الوحيدة للطفل المغربي والدارجة المغربية في مستوى ثان.
صدر القانون التنظيمي لتفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية فكان بمثابة ضربة “الكاو” خاصة على المستوى التعليمي واستناده على مدخل الحق لا على ثنائية الحق والواجب في القضاء ناهيك عن الرهان على إطالة أمد تفعيل ذلك زمنيا.
جاء اغتيال المناضل الأمازيغي “عمر خالق” الملقب بـ “ئزم” من طرف أزلام التوجه الانفصالي بطريقة همجية وحشية في غياب تام للأمن – الذي لا يجيد إلا حماية المخزن نفسه – وهو ما جعل الحركة الأمازيغية تندد بذلك في مختلف المدن والقرى، ليستمر مسلسل تأجيل محاكمة قتلته وفيا لقاعدة الأفلام التركة والمكسيكية.
انتهاكات حقوقية خطيرة عدة عرفها العديد من مناطق المغرب، آخرها قضية طحن شهيد الكرامة “محسن فكري” الذي دفع حياته ثمنا لكسب لقمة عيشه في مجال تحتكره الأخطبوطات الكبيرة التي التهمت سمكياته. “حـݣـرة” دفعت بالحراك الشعبي بالريف وبعدد من المناطق الأخرى إلى الاحتجاج والتظاهر ضد السياسة التي سمحت بنفوذ عقليات واستبدادها واعتبار نفسها فوق القانون حيث الشطط في استعمال السلطة واعتبار المواطنين مجرد حشرات لا تستحق سوى السحق. إلا التظاهر ليس ضد الفعل الجرمي بحد ذاته لرجل الأمن بل هو تنديد بتلك السلطة التي استمد منها جرأة فعله الأرعن…
لكن الخوف كل الخوف، أن تظل كل هذه المحطات الأخيرة مجرد تعبيرات موسمية تثير الثرى تحت الأقدام ثم ينقشع ضبابها، ونتناسى وتظل حليمة على عادتها القديمة تعرج وتخبط خبط عشواء.
فمتى سيحين عهد “المصالحة والإنصاف” مع الأرض والذات والهوية؟ أما كفى نزيفا زمنيا في إقرار سياسات لغوية غريبة؟ أما كفى الترامي على الأراضي الجماعية؟ ألم يحن وقت أنسنة الإنسان وتمتعه بحقوق المواطنة الكاملة؟ ألم يحن وقت تحيين مفهوم السلطة القائم على الرضا والقبول، على الحق والواجب، على المسؤولية والمحاسبة، على الاحترام المتبادل لا على الدسيسة والإذلال؟ ألم يحن وقت التوزيع العادل للثروات الوطنية؟ متى يحين وقت التنمية العادلة لكافة مناطق التراب الوطني؟ ألم يحن وقت التدبير الجهوي للموارد الطبيعية والبشرية والمالية على شكل فيدراليات تتمتع بالاستقلال المالي والتدبيري في إطار وحدة الوطن المغربي من الشمال إلى الجنوب من أجل تنمية عادلة تنافسية شاملة؟ متى سيتم فتح ملف الإنصاف والمصالحة بطريقة صحيحة دون انتقائية ودون تحقيب ودون كولسة ودون التستر على الجلاد/الجلادين؟ متى ندرك أن “المزوغة” هي بوثقة جميع الحساسيات الديموقراطية الوطنية الأخرى؟…