الحركة الثقافية الأمازيغية: من التأسيس إلى “براديغم الاعتراف” وثقافة الاختلاف والاختلاف الثقافي.

بقلم: زايد المرابط٭

بداية لابد أن نشير إلى معطى أساسي و هو أنه يصعب علينا تقديم تعريف دقيق للحركات الاجتماعية نظرا لتعدد المقاربات و المنطلقات الفكرية و المنهجية التي حاولت مقاربة مفهوم الحركات الاجتماعية mouvements sociaux، إلا أنه يمكن القول انطلاقا من مجموعة من التعاريف التي قدمها بعض المختصين و المفكرين حول هذا الموضوع ، .. يعتبر العالم الألماني “لورنز فون شتاين” أول من نحت مفهوم الحركات الاجتماعية في مؤلفة الشهير ” الحركات الاشتراكية و الشيوعية منذ الثورة الفرنسية الثالثة ” خلال القرن 18 ، .. و عرفها “تشارلز تللي” (على أنها سلسلة من الأداء المتواصل و المعارضات و الحملات التي يقوم بها أشخاص عاديين للدفاع عن مطالبهم ، كما اعتبرها بمثابة وسيلة مهمة تسمع للأفراد و تمنحهم حق المشاركة في السياسة) . و وفقا لهذا التعريف سوف نستحضر ما جاء به كل من “بول فان سيترس” و “بول جيمس” حول مستلزمات أو شروط أي حركة اجتماعية يتعلق الشرط الأول : بوجود نوع من الهوية المشتركة ، الشرط الثاني : توفر الحرص المشترك لتغيير الوضع الراهن ، الشرط الثالث : حدوث أنشطة فعلية مرتبطة ببعضها البعض موضوعيا على الأقل ، وإذا أردنا أن نعمق أكثر عليا العودة إلى مساهمة كل من “آلان تورين” ، “بيير بورديو” ، و آخرون (المعاصرين) .. و ترجح الكتابات أن بروز هذا النوع من التنظيمات يعود إلى النصف الثاني من القرن 18 خصوصا في ابريطانيا و التي عرفت خلال هذه المرحلة تغيرات و تحولات سياسية و اقتصادية في عهد الشخصية المثيرة للجدل السياسي الشهير ” جون ويلكس” ، بعدها ظهرت حركة اجتماعية سياسية في أواخر القرن 18 و بداية القرن الماضي 19 من أجل إبطال العبودية ، لتشمل بعد ذلك أوساط أوروبا و أمريكا (حركة السود مثلا ) . عموما يمكن القول أن الحركات الاجتماعية هي نوع من العمل التشاركي بين أفراد يتقاسمون نفس الظروف الاجتماعية و السياسية ، ظروف القهر الاجتماعي و الاستبداد السياسي ، .. و ترتكز أنشطة الأفراد في الدفاع و الكفاح من أجل قضية يؤمنون بها ، هكذا صارت الحركات الاجتماعية هي البديل الجديد و الممكن ، بديلا للتنظيمات السياسية التي لم تعد تقوم بأدوارها (الأحزاب ، النقابات، … ) و ممكن للتغيير نحو الأفضل ، نظرا لما لعبته الحركات في مساهمتها في دمقرطة الأنظمة السياسية أو الإطاحة بها ، إنها تعبير عالمي للرفض و المعارضة من أجل عدالة اجتماعية.
إذن يرتبط ظهور أي حركة اجتماعية بوجود أزمة ما قد تكون اقتصادية كما ذهب إلى ذلك أنصار الماركسية أو أزمة مرتبطة بالمجتمع ثقافيا ، سياسيا ، اجتماعيا كما ذهب إلى ذلك أنصار الحركات الاجتماعية الجديد ، و كذلك عجر المؤسسات التقليدية في الدفاع عن ما هو مجتمعي أو من المخاطر التي قد تهدد المجتمعات مستقبلا ( زمن النيوليبرالية) . و لفهم الحركات الاجتماعية في مراحلها و تطورها لابد من وقفة سوسيوتاريخية أو البحث عن الجدور الأولى لبروز هذا النوع من التنظيمات السياسية ، و ضمن هذا السياق نضع أمامكم أهم المراحل التاريخية المتفق عليها (الاجماع) : المرحلة الأولى ما قبل 1968 التي انتشرت فيها اجتهادات و أفكار منظري الحركات الجماهيرية التي تأثرت بشكل كبير بالجدل/الدياليكتيك و الصراع الطبقي العائد إلى كل من “هيجل” و “كارل ماركس” ، المرحلة الثانية ما بين سنتي 1968 و 1989 التي عرفت بصعود حركات جديدة خاصة الحركات الطلابية بأوروبا و حركة “السود” في الولايات المتحدة الأمريكية ثم الحركات النسائية و الحقوقية و البيئية ، متجاوزة بذلك مطالب الحركات الماركسية التقليدية ، أما المرحلة الأخيرة فهي تمتد من سنة 1989 إلى الآن و التي عرفت تطور قويا لا من حيث التنظيم و المنطلقات النظرية و التي تتماشى و التغيرات التي يعرفها العالم ككل ، حيث اتخذت أبعاد و اشكال جديدة و حضرية دفاعا عن “النحن” في زمن النيوليبرالية و المجتمع المبرمج .

دوافع بروز خطاب الحركة الثقافية

من الشائع و من البديهي أن يعتقد البعض خصوصا دعاة العروبة أن خطاب الحركة الثقافية كحركة اجتماعية مرتبط بفئة أو طائفة قد تكون عرقية أو “شوفينية” أو قبلية لطالما أن هناك من يحاول تسفيه و تشويه هذا الخطاب المتماسك و القوي و هذا يعتبر نوع من أنواع “شيطنة” خطاب الخصوم من أجل افراغه من محتواه ، غير أن هذه التصنيفات لا تعدوا أن تكون إلا مجرد تخمينات و إفرازات مريضة لها خلفياتها الأيديولوجية و القومية التي تخشى الزوال أمام قوم و صلابة هذا النوع من الخطاب . يرى كل من “ريمون بودون” و فرانسوا بوريكو” و آخرون أن بروز أي حركة اجتماعية إلا و أنها تعبر عن أزمة مجتمعية، و سير على هذا النهج و استحضار للمناخ السياسي و الايدلولوجي السائد على المستوى الدولي عامة و على المستوى المغربي خاصة في مرحلة ما قبل “الاستقلال” و ما بعده وصولا إلى بداية التسعينيات من القرن الماضي (أي بداية الحركة كتنظيم) نستخلص ضمن هذا السياق التاريخي فكرة أساسية مفادها ظهور الحركات الاجتماعية ذات الطابع “الهوياتي” أو دفاعا عن “النحن” ، و في المقابل نجد على مستوى المغرب خصوصا من داخل الجامعة تغلغل الخطاب العروبي القومي الرامي إلى تعريب الإنسان و المجال على حساب تهميش و إقصاء الأمازيغية كقضية شعب بأكمله، فالخطاب القومي خلال هذه الفترة كان هو المتنفس الوحيد الذي يجده الطالب أمامه و هذا ما يولد نوع من الاغتراب السياسي و الإنحراف الاديولوجي و احتقار الذات في كل تجلياتها. نستنتج إذن أن بروز الحركة الثقافية كان من ورائها دوافع داخلية و أخرى خارجية : الأولى تتعلق بالإحساس بالدونية و الاغتراب و التهميش و الإقصاء للتاريخ و الهوية الحقيقية (بروز وعي وطني حقيقي ، الثانية يمكن ربطها بالتغيرات و التحولات التي شهدها العالم ككل في عدة مجالات ثم على الصعيد المحلي أو شمال إفريقيا عامة و نذكر منه الإرث الثقافي و النضالي التي تركته النخبة الأمازيغية في مرحلة الستينيات إلى مرحلة التسعينيات ثم “الربيع الامازيغي” سنة 1980 بالجزائر ، … عموما يمكن القول أن ظهور الحركة الثقافية هو السير على خط المقاومة المسلحة و أعضاء جيش التحرير و هو أيضا بداية التخلي عن القضايا المزيفة و الارتباط بالمجال و الانسان انطلاقا من التاريخ كعلم و كمنهج و يمكن أن نطلق على هذا “براديغم المصالحة” مع الذات Réconciliation avec soi الذي أسسته الحركة بتراكم خطابها الفكري و التنويري الذي ينطلق من الذات و إلى الذات ، .. كما أن خطاب الحركة لا يرتبط بنص مقدس و لا بعقيدة أو نظرية معينة فهو عكس ذلك تماما ، إذ ينطلق من القيم المحلية و أخرى كونية التي تجعل منه خطابا يدافع عن الذات الحقيقية و التشبث “ببراديغم الاعتراف” أي أنه لا يقصي الآخر المختلف ، .. إنه خطاب يجعل من الوعي بالذات منطلقا أساسيا نحو التحرر من قيود الاستلاب و الاغتراب و الاستبداد السياسي ، كما أنه يجعل من القضايا التى نعيشها نحن من أولويات الدفاع و الكفاح مثل قضية الأرض ، الانسلاخ الثقافي ، الاغتراب بكل أبعاده ، إعادة كتابة التاريخ ، التوزيع العادل للثروات، الإنصاف المجالي ، رد الاعتبار لرموز هذا الوطن ، مفهوم الوطنية … و ما إلى ذلك من قضايا أخرى.
إذن يمكن أن نقول أن خطاب الحركة منذ نهاية الثمانينات و بداية التسعينات إستطاع أن يؤسس ل”براديغم المصالحة ” مع الذات ثم ثقافة الاختلاف أو “براديغم الاعتراف” بلغة ” أكسيل هونيث” .

خطاب الحركة و “براديغم الاعتراف” : الاعتراف كشرط للتعايش المشترك و كمقوم للمصالحة و الإثبات

يعتبر براديغم الاعتراف من أبرز ما نحته المفكر الألماني “أكسيل هونيث” الذي ينتمي إلى الجيل الثالث من مدرسة فرانكفورت النقدية ، هذا المفهوم تم تأسيسه إنطلاقا من مناقشته النقدية لنموذج “التواصل” عند “هابرماس” حيث توصل إلى قناعة فكرية تقول بأن نظرية “التواصل” لم تعد كافية للقضاء على أشكال الصراع و النزاع الاجتماعي لذلك عمل على صياغة و بلورة نظرية أو “براديغم الاعتراف” تتويجا للاختلاف الثقافي و إبراز الذات كقيمة أساسية في عملية التغيير ، .. “أكسيل هونيث” من أبرز رواد الجيل الثالث لمدرسة فرانكفورت له عدة مؤلفات نذكر منها : نقد مفهوم السلطة سنة 1985 ، الصراع من أجل الاعتراف سنة 1992 ، مجتمع الاحتقار سنة 2002، مفارقات الرأسمالية سنة 2006 ، الحق في الحرية سنة 2011 ، … و يعتبر هذا البراديغم الجديد حاضرا و بقوة في الحقل الفلسفي خصوصا في فرنسا لدى بعض الفلاسفة الجدد ، حيث توصل “هونيث” إلى هذا المفهوم انطلاقا من نظرية التواصل عند “هابرماس” و نتائج العلوم الاجتماعية المتنوعة و انفتاحه كذلك على كتابات السوسيولوجي الأمريكي “جورج هربرت ميد” و فلسفة “هيغل” حول الاعتراف . و يتكون الاعتراف في نظر “هونيث” من ثلاث مجالات بينداتية : القانون/الحق ، التضامن ، الحب ، و هذه المجالات هي التي تحقق استقلالية الذات و قيمتها و تقديرها و الابتعاد عن الاحتقار الذاتي و التشويه و الادلال ، و في هذا الصدد يقول “هونيث” (تعتبر تجربة الاعتراف أساسية بالنسبة للإنسان) ذلك أنها تحقق نوع من التقدير و الافتخار و الاعتزاز بالذات ، لأن إقصاء الذات و حرمانها من الحقوق الاقتصادية و الثقافية و السياسية و الاجتماعية يؤدي إلى الصراع من الاعتراف و يعتبر انتهاك للكرامة الفردية و الجماعية . هنا نستشف أن خطاب الحركة كذلك يسير في هذا الاتجاه على اعتبار أنها تحاول أن تجعل من الساحة الجامعية فضاء لثقافة الإعتراف بذل ثقافة الإقصاء و الاغتراب التي كرستها الخطابات المعادية للحقيقة و للتاريخ الحقيقي المنتصرة في ذلك لخطاب قومي عروبي يرمي إلى احتقار الذات و جعلها تسبح في أمواج من التناقضات ، .. فلكي نؤسس لبراديغم المصالحة يتعين علينا أولا أن ننتصر لثقافة الاعتراف من أجل المصالحة مع الذات و التاريخ الحقيقي و الهوية المشتركة ، هذا ما تلح عليه الحركة الثقافية من خلال مبادئها و مواقفها و من خلال أنشطتها الفكرية ، حيث استطاعت بفضل قوة خطابها التنويري و العقلاني أن تقوض الخطابات الذوغمائية و الاقصائية عن طريق هدم الأفكار و الأساطير الرائجة داخل الفضاء الجامعي التي تمليها الزوايا و التنظيمات السياسية ، معتمدة في ذلك على عصارة الفكر البشري و القيم الإنسانية و الكونية من أجل الاعتراف و المصالحة مع الذات و تقبل الآخر في مجتمع تسوده قيم الحرية و العدالة الاجتماعية و الديموقراطية.

ثقافة الاختلاف و الاختلاف الثقافي

كثيرة هي الدراسات التي اهتمت بتحليل و مقاربة هذين المفهومن، و قد عرفت انتشارا واسعا خلال العقود الأخيرة .. لقد حاول بعض رواد فكر ما بعد الحداثة الذي جاء من أجل توجيه الفكر الحداثي في ظل التحولات و التغيرات التي عرفها العالم ككل ، كالعولمة الاقتصادية و الثقافية التي تسعى إلى قتل الثقافات المختلفة على حساب ثقافة واحدة ، لهذا نبه الكثير من المفكرين المعاصرين إلى خطورة قتل الثقافات منتصرين إلى أهمية التعدد و الاختلاف الثقافي في العالم ، هناك مقاربات تنتصر لهدا النوع من الاختلاف الثقافي و أهميته من قضية التنمية نذكر تلك الدراسات التي ظهرت بعد المرحلة الكولونيالية و من بينها التيار الماركسي المحدث الذي يدعوا إلى الحفاظ على الخصوصية الثقافية لكل مجتمع ، على اعتبار معطى الثقافة كظاهرة انطولوجية أي أنها منفصلة عن الذات .. إذن مسألة الاختلاف الثقافي هو عبارة يقصد به ذاك الاختلاف بين الثقافات رغم وجود التجانس بين بعض الثقافة لكن لكل واحدة منها خصوصياتها و مميزاتها و لا يمكن أن نفضل ثقافة على حساب الأخرى ، أما مسألة ثقافة الاختلاف نقصد به إلى ذلك التراكم المعرفي الناتج عن الوعي بالاختلاف ، .. و لإنتاج ثقافة الاختلاف لابد من وجود الاختلاف اصلا .
سيرا على هذا النحو سوف نقوم بمقاربة ثقافة الاختلاف الذي تنتصر إليه الحركة الثقافية الأمازيغية انطلاقا من مبادئها و قيمها مثل ( العقلانية ، النسبية ، التقدمية ، العلمانية، التنويرية … ) .. فقبل بروز الحركة الثقافية كتنظيم كانت الساحة الجامعية تتسم بثقافة الإقصاء و الرفض للآخر بل أكثر من ذلك تحاول تلك الخطابات الاقصائية تحنيط و تدجين أفكار الناس لتكون قابلة للرفض و توليد نوع من الاحتقار للذات الحقيقة .. ثقافة الاختلاف إذن هي من بين الأسس التي يرتكز عليها أي خطاب تنويري يسعى إلى الدفاع عن الذات كما أنه لا يقوم بإقصاء الآخر مهما كان جنسه و نوعه.

هكذا إذن يمكن القول أن الحركة الثقافية الأمازيغية كمكون طلابي استطاعت أن تشق طريقها و نضالها و سط أصنام مقدسة و مؤسسة ، مستعملة في ذلك معاول الهدم و البناء ، هدم الأساطير و الإيديولوجيات المزيفة أو الوعي الزائف ثم بناء الذات عن طريق المصالحة و الاعتراف و الاختلاف ، … إنها ثورة فكرية/ثقافية من أجل التغيير نحو الأفضل .
تبقي هذه الأسئلة أمامكم : ما هو واقع الحركة الثقافية اليوم ؟ و كيف تساير التغيرات التي عرفها العالم ككل ؟ و كيف ستواجه التحديات المستقبلية ؟؟؟ .

٭طالب باحث

شاهد أيضاً

«مهند القاطع» عروبة الأمازيغ / الكُرد… قدر أم خيار ؟!

يتسائل مهند القاطع، ثم يجيب على نفسه في مكان أخر ( الهوية لأي شعب ليست …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *