“الحضارة الكبيرة تنجب الجريمة الكبيرة”، هكذا عبر الروائي توفيق الحكيم في روايته الرائعة “يوميات نائب في الأرياف” وهو يستخلص بساطة جرائم الأرياف مقارنة بجرائم القاهرة.. وهو نفس ما يمكننا استخلاصه حول الجرائم والعنف الذي تعيشه اليوم، كما الأمس، الولايات المتحدة الأمريكية.
لا يمكن فصل عنف الشرطة الأمريكية الممارس على المواطنين السود عن صنفين من العنف هما اكثر هيكلية و أكثر تجذرا في هذا المجتمع الغريب : السلاح للجميع، والسجن للجميع.
1- رفقة السلاح والحرية.
هناك اولا ذلك التطبيع الأمريكي المجتمعي مع القتل والسلاح بذريعة قدسية دفاع المواطن عن نفسه وعن ممتلكات.. حمل السلاح بأمريكا مسألة دستورية مقدسة لم يستطع اي رئيس، لا جمهوري ولا ديمقراطي، التوفق في الدفع بتعديل دستوري يمنع الأمريكي من حمل السلاح. في الواقع الأمريكي، هناك مقدسان اثنان لا يمكن العبث والتمثيل بهما وازدراءهما مهما لصقت بهما الفظاعة : الجنود troops مقدسون ولو قتلوا البشرية جمعاء، والمسدس gun مقدس ولو قتل به الأمريكي بحثا عن استمناء سادي. و بالطبع لكل شيء بائع vendant تجد لوبي يلعب لعبة لوي ذراع القانون والسياسة والتجارة. فجمعية NRA او NATIONAL RIFFLE ASSOCIATION وهي جمعية فوق فيدرالية لدعم حيازة واستعمال السلاح كحق دستوري، كانت أكبر وأقوى لوبي وقف ضد مقترحات بيل كلينتون وبارك أوباما للدفع بعدم دستورية حيازة السلاح. وهي جمعية تضم في عضويتها كبريات شركات إنتاج وتصنيع وبيع الأسلحة في أمريكا وفي العالم..
وحتى عندما يحمل مراهقين اثنين لم يتجاوزا 16 سنة أسلحة رشاشة ويقتلان اكثر من 40 طالب بإحدى ثانويات مدينة COLUMBINE بولاية كولورادو سنة 1999 او يحمل متعصب شاب عمره 21 سنة رشاشه ويقتل مصلين سود بإحدى كنائس شارلستون بولاية كارولينا الجنوبية (واحداث القتل العمد الجماعي كثيرة) فذلك لا يثير كثيرا حفيظة لا الرئيس ولا الكونغرس للدفع بتعديل حق امتلاك الأسلحة لأن NRA متجذرة بدعوتها لحماية هذا الحق “الأصيل”.
المجتمع الأمريكي مبني على عنف متأصل يؤججه حق حيازة السلاح. وطبعا سيؤثر ذلك على المنظومة الأمنية برمتها. وهي منظومة يطلب منها (بشكل مباشر وضمني) ان تلعب دور صمام أمن وأمان في مجتمع متسلح وعنيف ويرزح تحت وطأة تفاوتات اجتماعية كبيرة…
ينبغي ايضا الإشارة إلى أن ضحايا التفاوت الاقتصادي والاجتماعي من المواطنين السود واللاتينيين وذي الأصول الاسيوية طوروا آليات دفاع و”اندماج” شديدة العنف وربما اضحوا ضمن الفئات الأكثر عنفا والأكثر تعبيرا عنه لأنهم أكبر ضحاياه.. والعنف المفرط الممارس من طرف الشرطة عليهم هو عنف مضاد ضد عنف مضاد، كمثل قصة البيضة والدجاجة…
2- السجن والافلاس والموت
المجتمع الأمريكي لا يرحم المتهربين من الضرائب. يزج بهم في السجن ويصادر ممتلكاتهم. ولم يسلم احد من هذه المقصلة المسماة “العم سام” حتى اكثر الناس استقرارا ونفاذا، فبالأحرى ذلك المواطن البسيط “الصالح”.
كما أن القانون الجنائي الأمريكي ربما يعد من بين أفتك القوانين وأشدها صرامة وبطشا. المحكومون بالإعدام بولاية تيكساس لوحدها مثلوا سنة 2019 نسبة 36 في المائة من مجموع المحكومين بالعالم.. و المنفذ في حقهم الإعدام بنفس الولاية مثل تقريبا النصف خلال نفس السنة..
والقتل بالشارع الأمريكي حطم الأرقام القياسية العالمية والمقتولون من طرف الشرطة لا يشكل استثناء هو أيضا. والهروب من الشرطة (ولو بالعنف) تبرره المساطر العقابية والزجرية المفرطة التي تتسم بها المنظومة الجنائية الأمريكية.. وهي المنظومة التي لا تغفر ابدا للمسجون كيفما كانت عقوبته وجريمته، ويظل السجين على هامش المجتمع يعيش بين كنف الفقر، في غياب شبه تام لأية منظومة إدماجية بعدية.. لذلك ترى الناس يفرون بشكل هستيري من كل تنقيط أمني مفضي للاعتقال والسجن.. وهو رهاب مزدوج عن الفقراء وأغلبهم سود.
لهذا نفهم الخوف الشديد من الشرطة، والرهبة الشديدة من الاعتقال والمحاكمة والسجن بالولايات المتحدة الأمريكية… لأنه من يسجن هناك تنتهي حتما حياته برمتها.. فيقول قائل مع نفسه “ربما هناك نصف فرصة ان هربت او قتلت شرطيا، مقابل ربع فرصة ان تم اعتقالي”
لا أظن أن قتل السيد فلويد هو حدث استثنائي بل هو سليل منظومة جنائية يؤججها “حشد العنف العام ببيع السلاح” وتأصيل العنف، وتؤججها قسوة وبطش منظومة جنائية عقابية لا ترحم.