حلق النسر طويلا في أكوان المتخيل الشعري الأمازيغي، كانت الأصوات التي تستعيده صدى للنسر الأول الذي حمل الكائن الميثي أونامير إلى السماء السابعة بحثا عن الطيف، في تجربة تشبه تجربة الإسراء الليلي، وكما كان أونامير كسجل غائب ودليل رمزي قد اقتطع من جسده للباز قطعة من اللحم لاستكمال السفر، ظلت التجارب الشعرية الأمازيغية تقتطع من جسد النص الشعري وزمنيته الخاصة لحظة للباز وحضورا به ينفلت من إسار الطبيعة الصامتة ومقتضياتها وينتقل إلى اوساع الحياة الرمزية، هكذا غنى الراحل عبد العزيز الشامخ :
Nsuda se nsudi dumgh ukan agharas
Aligh nkchm yat tagant ntarihanini
Illa gis aud lbaz asghar ur iknuni
Illa gis yan lbaz iklla rich ar akali
Ah mar yufan agisn ikis yan richi
حيث يتبدى الباز مقيما في الاستحالة، موضوعا لرغبة عميقة في اتخاذ ريشه مرودا للاكتحال به للعبور من حالة العمى بسبب الشوق، بريشه المتسم بالخفة والرفة التي يتطلبها لمس العيون التي سملتها اللواعج ليضطلع ريش الباز بوظيفة اشتشفائية منتسبة للمارسات الطقوسية المخلية، عبر الانتقال من الوظيفة الجمالية إلى وظيفة تطهير العين باستعادة الذات لطيف المحبوب بوصفه الصورة الوحيدة لما تستقيم به الرؤية وتستوي، ولما به تكف الكبد عن ذرف الدموع وتنصرم عن الذات حالة الشوق ويسكن باللقاء.
ليس للباز هذه الصورة لوحدها، وليس له مزية الوضوح، إنه يكتنف الغموض ويلقي في القلوب الحيرة، تقول فاطمة تاباعمرانت
Albaz lhour ur nsn maghak zragh
Irda rbii f ugharas kid yiwin
Izd akal agh ligh izd awa ignwan
Izd is iaaql yan izd is ign itass
Izd isifugh ruh nsn imun ditun
تتعمق الحيرة حين تحول رؤية الباز دون رؤية الذات ومعرفة موقعها وحين تنفتح الاحتمالات على احتمال الموت واحتمال الحياة، وفي الحالتين تصير الطريق مباركة بخطاه، وتستعيد معناها وتنهال عليها القداسة والبركة. ما يجعله متعددا ، بازا شكلته هرمونات الخيال وجعلته طيرا سماويا ونورانيا وفي الآن نفسه تشكل في صورة مادية أنثى يتحقق جمالها بما رتبته الثقافة من أشكال الزينة بالخلخال وبالحناء في نظامها الجمالي.
ومثلما انفصل عن دليل أونامير عائدا إلى مسقط رأسه، ليتملك الحنين أونامير في عالم الخلود، سيصعد من مقاطع شعرية لعبد الله الفوى ما يشبه النجوى وتمني عودة الباز بالأخبار عن الديار :
أيلي يا الباز أوا جيب ليا خبار بلادي
مقطع يتضمن دعوة للباز إلى التحليق، وتسقط أخبار الأهل والبلاد، ربم تخفت نار الحنين المستعرة في الضلوع …
هذا الباز الذي ينقاد له الجسد الجريح مثلما نجد في أشعار الرايس عمر واهروش حين يتعلل به خلا ورفيقا عل رفقته تشفي جراح الخيبة والخذلان والخسران وعل السياحة في الأرض ترمم العمارة البشرية المتهالكة وتبعد عن الروح ما حق عليها من خراب داخلي
Arwah albaz nki dik anmun
Wa ghina stnit ndu sirna
Igit adrar ngh iga asawna
Nghal ahbib is iga winwi
Aligh izera wayad awinta
لينطق هذا السجل الشعري الشفوي بحالة العزلة والخلوة التي تتوسل فيه الذات الباز مؤنسا وشبيها وصورة النفس وهي تعيش مأستها الشخصية وزهدها ويأسها من الوصال هائمة بغير وجهة متوحدة مع ألمها وكمدها .
Wa mun alhna d udar ichwan
Imun lhrir nta d lmuber
Imun lqdib nta d uhayk
Amunagh nkki d ugayunw
Arwah albaz nkki dik anmun
وتتضاعف هذه الرغبة في التوحد بالباز حد تمني التحول من الهيئة الآدمية وامتلاك خواص هذا الطائر في نداءات مجموعة أودادن وفي بحثها عن القمر البعيد
Mla hlli gigh lbaz anruh ignwan
Akn saqsagh atagut magh illa wayuri
Izenzaren an suga nta lahyyit
Haqa titratin ada ymun kchmn aman
سؤال يبين عما تلبس الكائن من فرط الفقدان وهول الفجيعة، وما تولد من رغبة هي بمثابة صدى للنسر في الحكاية الاوناميرية، التي جعلت منه الطير المالك للمعرفة عن موطن احتجاب الحبيب، بعد أن صارت المغارة كرمز للرحم الأمومي والولادة مأهولة بالماء، وما بقي من الشاهد على الغائب غير أشعة منه وبقايا ضوء لعيون أطبق عليه السواد، وباتت تسأل بألم الضباب المصطدم بجدران المغارة الباردة والبخار المتصاعد من الماء المحتضن للقمر الناري بحرارته اللاهبة.
وهو ما يجعل النداء طارحا احتمال الغرق مع النجمات والتحصن في القيعان والقرار، قيعان المغارة وقيعان الدواخل وغياباته، حتى غدا العزاء الوحيد هو التماس العون من الباز كعارف بالأسرار والحجب إتقاء ما يستبد بالذات من علل طارئة وما مسها من ضر وما انسكب من مآقيها من عبرات، وما تبل به الشوق اللقمة من مرارات جعلت القمر يغض عينه عن النظر إلى الذات متمنعا من الوصل ومن الرؤية التي تنجي، متلهفا للرحيل إلى السماء. في تجربة إعادة كتابة الحكاية سليلة الديوان السردي في الديوان الشعري الأمازيغي الصوتي والموسيقي على وجه التحديد .
وإذا كان قدر الشاعر الأمازيغي هو التشاكل بين الحب والمأساة، فإن الشاعرة الأمازيغية تكاد تكون شبيهة بتانيرت في الحكاية، في الصوت الذي يتردد رجعه وصداه في الأنهار الشعرية الأمازيغية ، إذ تخاطب الشاعرة فاطمة تيحيحيت مجاهد الباز كما لو أنها تانيرت في عالمها العلوي غير راغبة في العودة إلى مواطن عشقها الأولى ومرابعها البدئية
Al baz ur iga anmun
Laryach nkk adarki
Han urdari rich ishan akn Si gilghi
Han igh flak itut yan albaz ihubukni
Han ihdur ibi laryach nkk isnfazertni
Han adur inna dikhfns aysmd lghrd nsi
إنها تجربة حب متخيلة تقرن الحب بالمأساة وبالأسقام والانمحاء.
ستنطق تانيرت على لسان الشاعرة فاطمة تيحيحيت مجاهيد، وتنطق معها بالعاطفة الجياشة التي تملتكتها وبالشهوة الغامرة التي لوثت دمها بالترحال ونذرت أقدامها للجري والعدو والسفر إلى الأقاصي البعيدة وتنسرد أحوال أنثى مغرمة بالبعيد ومخاطبة نفسها بالاكتفاء من ترحالها بالاستقرار في العالم العلوي اتقاء العتاب الإنسي
Ayikhfinu qnaa imik nchahwa tali giwni
Akur lumun midn ighawkan tizalti
Han urd nkki ka mu tga luqt asawn gutni
Han arka tala tayri wahdut gh taganti
ويصير الحب في عزلة غابوية مستكينا إلى البكاء مستمرءا البعد والمسافة والهجران والغياب ولا تجدي كيمياء الصيادلة في مداوة أعطاب الروح .
إن التشاكل السالف ذكره هي ما يجعل الشاعرة / تانيرت تخاطب الباز بالبعد وصون المسافة
Rad dagh urigh albaz anflak nberh
Ghar amzat akkal awkan ur nasi did nki
إنه تاريخ الحب في أكوان المتخيل الأمازيغي الجريح، لكنه أيضا تاريخ الألم.
* أحمد بوزيد: كاتب مغربي