صدر مؤخرا للكاتب عمر الصديقي عمل روائي جديد موسوم ب ” الخبز الأسود” بالرباط، ويتناول هذا المتن الإبداعي الروائي موضوع المقاومة والانتفاضات الشعبية ضد الاستعمار . فبالرغم من أن الرواية تحمل ملامح سيرة ذاتية للكاتب، إلا أنها تشكل مصدر توثيق للذاكرة الجماعية المرتبطة بفترة الجهاد والكفاح من اجل الاستقلال. وبذلك، فإن هذا العمل يندرج عموما ضمن تيمة الإنسان والمجال الجغرافي وعلاقتهما بالتاريخ والذاكرة الجماعية. إن رواية ” الخبز الأسود” عمل أدبي سردي مهجن يزاوج الأدب والتاريخ والجغرافية في أبعادها الإنسانية المتعددة، فيمكن تصنيفه ضمن خانة “الرواية الجديدة” التي تعد حسب أحد النقاد، «تعبير فني عن حدة الأزمات المصيرية التي تواجه الإنسان”. ومن هذا المنطلق تحديدا، جاءت فكرة “تأسيس ذائقة جديدة أو وعي جمالي جديد”، أو رواية جديد تعيد قراءة التاريخ كماض على خلفية قضايا الجغرافيا كحاضر.
فبصرف النظر عن التسمية المناسبة أو التصنيف الأدبي المناسب لهذا الإنتاج السردي الجديد، رواية تاريخية أو سيرة غيرية أو سيرة جماعية أو رواية تجريبية أو سيرة فردية بنكهة التوثيق التاريخي، فإنه -رغم تتعدد هذه التسميات- يبقى الهدف واحدا، وهو ربط الإنسان بمجاله وبيئته الترابية على خلفية محاولة استثمار الحمولة الثقافية والتاريخية للجبل لتحقيق التنمية المستدامة المنشودة.
صحيح، لقد شكلت البوادي، وجبال الريف تحديدا، مسرحا لأحداث ووقائع تحتفظ بها الذاكرة التاريخية وتتوارثها الأجيال المتعاقبة على جغرافية منهكة بفعل عدة عوامل ثقافية وطبيعية منذ عصور، ثم زادها الاستعمار الأوروبي تفاقما، بعدما نزل بكل ثقله على ساكنة كافحت كفاحا مريرا من أجل التحرر واستعادة الكرامة لمنطقة عاشت سنين عصيبة بين سندان الجغرافية ومطرقة التاريخ.
نعم إن رواية “الخبز الأسود” ذات الطبيعة البيوغرافية بامتياز، والمترجمة عن الرواية الفرنسية » « Maux Croisés لنفس الكاتب، تقوم باستعادة شريط تاريخي طويل مستمد من ذاكرة الماضي المرتبطة بزمن الاستعمار بجبال الريف. إنها ذاكرة خصبة بالوقائع الاجتماعية والتاريخية ذات الصلة بحياة ساكنة جبال الريف خلال عهد الحماية الفرنسية بالمغرب، وذلك اعتمادا – بحكم الطبيعة السيرية لهذا العمل الأدبي- على الرواية الشفوية لأفراد العائلة الذين جايلوا المرحلة، وعلى الشهادات الحية لمجموعة من المقاومين الذين عاصروا حرب التحرير بالمغرب، علاوة على جملة من المذكرات والإصدارات العلمية الصادرة عن قطاع المقاومة حول الأوضاع العامة بجبال الريف خلال نفس المرحلة.
لهذه الاعتبارات الموضوعية والذاتية، جاءت رواية” الخبز الأسود” عبارة عن لوحة قاتمة تصور الوضع الاجتماعي والثقافي المتردي بالريف بعد سيطرة القوات الفرنسية على ممر تازة واحتلال المدينة سنة 1914، مرورا بسنوات المجاعة خلال الأربعينات، ثم وصولا إلى ثورة أكتوبر التي أشعل فتيلها أبناء جبال الريف بمنطقة “مثلث الموت” سنة 1955، حيث قبيلة “اجزناية” المجاهدة التي كان لها الفضل الكبير في التعجيل برحيل الفرنسيين عن جغرافية المغرب برمته.
فيحق أن نقول – دون حرج علمي- أن الرواية عموما والرواية التاريخية والسيرية تحديدا يمكن آن تشكل مرجعا يعتد به في مجال التوثيق لفصول الذاكرة التاريخية والحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية. إذ يمكن لهذا الجنس الأدبي الفريد أن يزاوج بين الكتابة الأدبية والتوثيق التاريخي، وأن يقوم بمصالحة الأدب والتاريخ والجغرافيا خدمة للقضايا الإنسانية النبيلة. نعم، لقد صار ممكنا للروائي أن يقدم للقارئ معطيات دقيقة وتفاصيل وازنة حول واقع مجال معين في زمن معين من خلال استعادة الوقائع التاريخية والأحداث الاجتماعية، عبر سرد أدبي ممتع ومفيد في متناول عامة الناس، لاسيما لدى الناشئة التي لا تجد دائما المتعة المتوخاة في المادة التاريخية الصرفة.
ومن هذا المنطلق، أضحت الرواية في صيغتها الجديدة بمثابة قراءة ثانية للتاريخ من فوق منبر الأدب، فنجد أن النصوص الروائية ذات الطبيعة التاريخية غالبا ما تزخر وتوثق للوقائع الإنسانية، مستحضرة إياها على النحو الذي يثير شهية القراء الشباب أكثر، فتوفر لهم متعة استيعاب التاريخ بشكل ثان، المتعة التي لا تضمنها لهم دائما الموسوعات العلمية.
ولعل ذلك راجع بالأساس، إلى الخصائص الفريدة للرواية التي تتسع للسرد التاريخي والخيال واستعادة الأحداث الواقعية عبر عدة آليات ومناهج لا يستقيم للتاريخ استعارتها والاشتغال عليها بسهولة، من سرد دفاق مشبع بالتفاصيل وصور وإيحاءات وترميز ووصف وبناء محبك وأسلوب سلس وحوار وشخصيات وأفضية زمنية ومكانية وخيال…الخ من الخصائص التي من المفروض أن تتوفر في الرواية الهادفة.
وانسجاما مع ما سلف، نجد أن التأطير أو الحكم السابق هو نفسه الذي يسري بامتياز على النص الروائي بين أيدينا، والموسوم ب” الخبز الأسود”، في إحالة تامة على زمن الاضطهاد والقحط والمجاعة التي سادت وطبعت تاريخ الأرياف طيلة فترة الحماية بالمغرب عامة، ومنطقة جبال الريف خاصة. المنطقة التي نشأ وترعرع فيها الكاتب عمر الصديقي مستمتعا خلال مرحلة صباه بحكايات وروايات الأماسي الشتوية الموحشة. ويقصد بذلك حصة حكايات ما بعد العشاء التي كان جده ووالدته يرويانها له حول أعمال المقاومة، بحكم أن الجد كان مقاوما وعضوا من أعضاء جيش التحرير بمنطقة الريف، وباعتبار أن والدته هي الأخرى عاصرت عهد الحماية وعاشت زمن المسغبة العسيرة التي سادت المغرب خلال الأربعينات. فضلا عن ذلك، إن اشتغاله المهني بقطاع المقاومة و التحرير- أي القطاع الرسمي الوصي على صيانة ذاكرة المقاومة المغربية والتوثيق لها واستعادة أمجادها وتشريف أعلامها وأبطالها – جعله يعيش على مقربة من المقاومين وأسر الشهداء وضحايا حرب التحرير، واطلع على مذكراتهم وسيرهم النضالية، ونهل مما راكمته هذه المؤسسة من أبحاث ودراسات علمية، وما أصدرته من كتابات أكاديمية لها صلة وثيقة بالذاكرة الجماعية للمقاومة الشعبية ضد الاستعمار.
فنظرا لهذه الاعتبارات، تحمس كثيرا للاشتغال على تيمة التاريخ كمادة أساسية لأعماله الأدبية، لكن بروح ونكهة تاريخية لا تخلو من اللمسة الفنية وحسن الحبكة واللباقة التي تليق بقيمة موضوع جهاد أبناء جبال الريف الذين تحدوا قساوة الجبل وظلم المستعمر الذي نهج سياسته العنصرية في حق الأهالي.
وبذلك، يمكن أن نقول أن هذه الرواية- السيرية المفعمة بأريج التاريخ تشكل امتدادا طبيعيا لرصيد المذكرات التاريخية والروايات الشفوية وقائمة المتن العلمية الصادرة في موضوع المقاومة المسلحة والانتفاضات الشعبية التي شهدها المحيط القبلي بتازة، لاسيما بمرتفعات جبال الريف، أو مايسمى تاريخيا ب “مثلث الموت” الشهير، حيث أجدير وبورد وتيزي وسلي وأكنول.
ولعلمكم الكريم، فالرواية موجهة أساسا إلى الشباب المغربي أساسا والقارئ العربي و الأجنبي بشكل عام، باعتبار أن هذا النص الروائي هو كتابة ثانية لرواية سابقة نشرها الكاتب باللغة الفرنسية بباريز تحت عنوان “آلام متقاطعة” سنة 2015، (مترجمة إلى اللغتين الروسية والرومانية إلى حدود اليوم).
ومن جهة أخرى، تجدر الإشارة إلى أن هذا المتن الروائي الجديد الصادر هذه السنة تحت عنوان “الخبز الأسود” يعتبر عمله الثاني من هذا الصنف، بعد روايته “ذاكرة بقلب مفتوح” الصادرة سنة 2012، والتي تناولت هي الأخرى موضوع الذاكرة التاريخية ذات الصلة بمسألة مقاومة القبائل التازية للقوات الفرنسية، وأعمالها الفدائية ضد الوجود الاستعماري فوق جغرافية المنطقة.
بالفعل، إن المتصفح لفصول “الخبز الأسود” سيجد نفسه داخل مساحة “مثلث الموت” بأبعاده التاريخية وحمولته الثقافية والاجتماعية، ويحلق عن قرب فوق أعالي منطقة الريف المجاهد، فيكتشف تفاصيل الهجومات الميدانية على المواقع الإستراتيجية للمستعمر الفرنسي التي قادها مجاهدو أبناء قبيلة اجزناية يوم ثاني أكتوبر 1955 ضد ثكنات العدو ومصالحه وأعوانه وذيوله. كما- ودون شك- أن القارئ الفطن سيعاين ويعايش عن بعد تلك اللحظات العصيبة من يوميات زمن الحماية القاتمة جراء السياسة العدائية لقوات الاحتلال ضد الأهالي العزل، بعد ما سخرت كل ما لديها من إمكانيات وعتاد من أجل تركيع أبناء جبال الريف. لكن، عزيمة هؤلاء وإيمانهم القوي بقضية وطنهم أرغم سلطات الاستعمار على الرحيل بشكل نهائي عن المنطقة، مخلفة وراءها ثكناتها المحروقة وجثث جنودها المتعفنة وسخطا عارما من الساكنة.
هذا ناهيك، عن تسجيل طويل من الوقائع الاجتماعية التي تناولتها الرواية، كالعمليات الفدائية بالمنطقة، ومهاجمة المصالح الاقتصادية للمعمرين، وسنوات القحط العجاف، وعقوبة الأعمال الشاقة، ولجوء الأهالي من النساء والعجزة إلى المنطقة الخليفية تحت قصف الطائرات الحربية، واستعمال الأسلحة الكيماوي بالريف، والتجاء الفلاحين المغاربة إلى القطر الجزائري سعيا وراء “خبز الشتاء”، وإثارة مسألة العملاء والخونة، وصور نثرية من ثورة أكتوبر 1955…بالإضافة إلى قضايا ومظاهر أخرى لم يلامسها بعد شغف الباحثين، فلزمت عتمة النسيان والكتمان والإهمال.
ختاما، إن إثارة الرواية لهذا النوع من القضايا والوقائع التاريخية هي بمثابة دعوة مفتوحة وصريحة موجهة للباحثين والمبدعين لمواصلة النبش في ثنايا الذاكرة الجماعية لاستجلاء باقي الحقائق الخفية من تاريخ الكفاح الوطني ضد الاستعمار ببلادنا، لاسيما تلك المرتبطة بالمغرب العميق، في الجبال التي صنعت التاريخ وهي تقف أمام جبروت الاستعمار. ولا يهم إن كان مجال اشتغالهم مسرحا أو سينما أو تشكيلا أو رواية أو بحثا علميا حقيقيا.
فلعل ما يميز هذا المنتوج الروائي، زيادة على بنائه الفني وجديته وواقعيته، هو تبئيره الشديد والمقصود على الحقائق النوعية من تاريخ الأمس القريب، والرغبة الملحة في إقناع القارئ والتأثير فيه بواقعية وإنسانية الأحداث المذكورة، بعيدا عن تقنية الإيهام بالواقعية والإغراق في الخيال المفرط المدغدغ للعواطف الواهية. وهذا الركن يشكل حجر الزاوية في بناء الرواية السيرية الهادفة والجادة القائمة على تعاقد معلن مسبق بين الروائي والقارئ منذ عتبة العنوان إلى آخر فصل في الرواية، تعاقد معنوي قوامه التزام كلاهما بالبحث المشترك عن الحقيقة التاريخية بصدق وجدية ومسؤولية، والعمل على استثمارها على النحو الذي يخدم تنمية البلاد والعباد.