الدكتور الطيب بوتبقالت يكتب:تطور المسألة التبشيرية مع بداية الحماية (الحلقة 27)

الدكتور الطيب بوتبقالت أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة – طنجة

يتطرق الدكتور الطيب بوتبقالت في هذه السلسلة من 30 مقالا إلى أهم المحطات التاريخية التي ميزت العلاقات المغربية-المسيحية منذ العهد الروماني إلى متم القرن العشرين، و يبقى الهدف هو مجرد مساهمة متواضعة في إغناء البحث التاريخي المغربي بغية تعزيز مقومات هويتنا الوطنية…

بتكليف من البابا، وحدهم الآباء الفرنسيسكان الإسبان كانوا مسؤولين عن تنظيم «إرسالية مراكش» ونشر نفوذها داخل التراب المغربي كله، أي أن الدعاية الكاثوليكية في المغرب كان يشرف عليها أسقف اسباني يقيم بمدينة طنجة. لكن بعد احتلال الدار البيضاء من طرف القوات الاستعمارية الفرنسية، لم تعد الحكومة الفرنسية تحتمل وجود العناصر الفرنسيسكانية الإسبانية، واعتبرت أن قيام هذه العناصر بأداء خدمات دينية داخل المنطقة التي استولت عليها فرنسا من قبيل التدخل غير المقبول، لأنه يسيء للنفوذ الفرنسي عامة.

ومن الجدير بالذكر في هذا المضمار انتهاج الجمهورية الفرنسية لسياسة راديكالية مناهضة لسلطة الكنيسة، مما أدى إلى إصدار قانون فصل الدولة عن الكنيسة وقطع العلاقات الدبلوماسية مع الفاتيكان.

ومع بداية 1908، طالب النائب البرلماني الفرنسي كروسو بإيفاد خمسة قساوسة فرنسيين من طائفة الفرنسيسكان إلى الدار البيضاء، وذلك بهدف عيادة ومواساة المرضى والجرحى من قوات الاحتلال، على أساس أنها مجرد بداية لخطة شاملة ترمي إلى الاستغناء نهائيا عن رجال الكنيسة الإسبان واستبدالهم برهبان مسيحيين يحملون الجنسية الفرنسية، كما طلب النائب البرلماني من وزير الحربية أن يدعمه في تحقيق هذا المشروع .

والواقع أن المبادرة حظيت بإجماع الحكومة الفرنسية. وتجسيدا لذلك، وجه الجنرال بيكار، وزير الحربية، خطابا إلى النائب كروسو بتاريخ 22 فبراير 1908، جاء فيه : “يشرفني أن أحيطكم علما أنني أعطيت الأوامر للجنرال داماد (قائد فيلق الإنزال) حتى يتمكن القساوسة الخمسة من القيام بخدماتهم الكهنوتية لدى إخوانهم في الدين من أفراد فيلق الإنزال”. ولم تكن إسبانيا راضية عن هذا الإجراء، وهكذا لما علم الممثل الدبلوماسي الإسباني بطنجة بقدوم القساوسة الفرنسيين إلى الدار البيضاء، بادر بمراسلة وزير خارجية بلده، طالبا منه أن يعمل على ضمان استمرار احتكار الفرنسيسكان الإسبان للنشاط الكاثوليكي بالمغرب. وقد تم على إثر ذلك، رفع القضية إلى السلطات الكاثوليكية العليا بروما، بحيث عولجت لصالح اسبانيا. إلا أن ذلك لم يمنع القساوسة الفرنسيين الخمسة من مزاولة مهامهم الدينية في صفوف الطلائع الأولى لجيش الاحتلال الفرنسي بالمغرب .

كان فيلق الإنزال بالدار البيضاء يتألف من 3000 جندي تحت قيادة الجنرال داماد، وفي 4 يناير 1908، تلقى هذا الأخير الأوامر من قيادة الأركان العامة الفرنسية بنشر قواته خارج المجال الحضري لمدينة الدار البيضاء، مما أسفر عن احتلال قصبة مديونة. ومع نهاية نفس الشهر، وصلت إمدادات عسكرية فرنسية أخرى لتنضاف إلى قوات فيلق الإنزال، و عندها تحركت الجيوش الغازية على محورين : الأول في اتجاه مراكش : حيث تمكنت من الاستيلاء على سطات وبرشيد، والثاني في اتجاه الرباط ليتم بذلك احتلال فضالة وبوزنيقة. و كانت المواجهات الأولى مع قبائل الشاوية قد خلفت عددا من القتلى والجرحى في صفوف الغزاة، واتضح أن هناك حاجة ماسة إلى خدمات الإرشاد العسكري المسيحي لتقوية معنويات الجنود وتأدية طقوس دفن الأموات. لكن الجمهورية الفرنسية العلمانية لم  تكن لتعير أي اهتمام يذكر لهذه الجزئيات ذات الطابع الديني، بيد أنها في نفس الوقت كانت منشغلة بدعاية الفرنسيسكان الإسبان داخل منطقة نفوذها. وعلى أي حال، فإن القساوسة الفرنسيين الخمسة لم يحظوا في بداية مهمتهم بدعم مادي مباشر من طرف الحكومة الفرنسية، وإنما كانوا متطوعين معتمدين أساسا على مساعدات الجمعية المستقلة للإرشاد العسكري بمدينة ليون.

عند وصولهم إلى المغرب، تفرق هؤلاء المرشدون العسكريون المتطوعون على مسرح العمليات، فمنهم اثنان التحقا بقوات الاحتلال بمنطقة وجدة، واثنان كانا يرافقان تحركات الجيش الكولونيالي بالشاوية، وواحد بقي لعيادة المرضى والجرحى بالمستشفى العسكري بالدار البيضاء. ولما خفت وتيرة العمليات العسكرية مع نهاية صيف 1908، رجع الآباء الخمسة قافلين إلى فرنسا. وكانت تجربتهم هذه أول تجربة لفرنسيسكان فرنسيين بالمغرب، وقد أحدثت انزعاجا في صفوف نظرائهم الإسبان الذين دأبوا منذ أمد بعيد على اعتبار المغرب حكرا على نشاطهم الفرنسيسكاني.

وكيفما كانت هذه التجربة ، فلقد سجلت دخولهم إلى المغرب واعتبروها ناجحة ، وجاءت تزكية الجنرال داماد لتشيد بما قاموا به في خدمة جنود الاحتلال و لو خلال فترة قصيرة . وفعلا وجه قائد فيلق الإنزال برقية إلى وزير الحربية في شأنهم، ومما جاء فيها: «لقد رافقوا الجنود في كل تحركاتهم وتحت كل الظروف، وذلك رغم افتقارهم إلى الإعداد اللازم، ولم تكن ملابسهم غير الملائمة لتعيق القيام بوظيفتهم الإرشادية. و لهذا، فإنني أرى من واجبي أن أنوه رسميا بما بذلوه من حماس وإخلاص في القيام بمهامهم». وبعد مغادرتهم المغرب تابع الفرنسيسكان الإسبان خدماتهم الكهنوتية في أوساط جالية أوربية كان عدد أفرادها في ارتفاع مستمر شهرا بعد شهر. ففي الدار البيضاء وحدها بلغ عدد الأوربيين المدنيين 3500 فرد، بينما سجل فيلق الإنزال زيادة في عدد أفراده ليصل إلى حوالي 5000 جندي، وطبعا جل أفراد تلك الجالية كانوا من جنسية فرنسية. لذلك كان الفرنسيسكان الفرنسيون يودون الرجوع إلى المغرب ليس فقط بهدف متابعة خدماتهم الإرشادية العسكرية، بل كذلك من أجل البناء والإشراف على كنائس لتلبية الحاجيات الدينية للسكان الكاثوليك. لكن الرهبان الإسبان جددوا مرة أخرى رفضهم لقدوم عناصر فرنسيسكانية غير إسبانية إلى المغرب، بحجة أن احتكار مزاولة نشاطهم الكهنوتي بالبلاد كان دائما يحظى بموافقة البابا. وكان من نتائج هذا الوضع أن برزت مسألة اقتسام النفوذ الكاثوليكي بين فرنسا واسبانيا في المغرب، وكأنها مسألة استعصى حلها. لكن تحت ضغط تقدم الجيش الكولونيالي بدأت تظهر مؤشرات معالجتها السياسية في إطار التسوية الاستعمارية بين البلدين. وأسفرت الاتصالات الدبلوماسية الأولية بهذا الصدد عن موافقة البابا على إيفاد الأب الفرنسيسكاني الفرنسي بونافونتير إلى وجدة. وفي يوم 26 مارس 1910 وصل فعلا هذا الأخير إلى مدينة وجدة، ليكون بذلك أول خوري لأول كنيسة فرنسية بالمغرب. وفي يوم 13 مايو 1910 دق جرس هذه الكنيسة لأول مرة. وفي يوم 14 غشت من نفس السنة، أقام الأب بونافونتير أول قداس تخليدا لذكرى معركة إيسلي (1844)، وهذا معناه أن وظيفة التبشير أصبحت جزءا لا يتجزأ من السياسة الكولونيالية تحت راية جيش الاحتلال .

ولما اندلعت الأحداث الدامية بفاس يوم 17 ابريل 1912، احتجاجا على الاحتلال الأجنبي للبلاد، كانت الحصيلة في صفوف الغزاة هي: 13 ضابطا، و 6 ضباط مساعدين، و 12 مدنيا، ومرشدا عسكريا واحدا، هو الأب ميشال فابر، الذي يعد أول ضحية فرنسيسكانية فرنسية سقطت دفاعا عن الاستعمار الفرنسي بالمغرب .

شاهد أيضاً

جمعيات المجتمع المدني ببروكسيل في خدمة الريف

إجتمع أعضاء جمعية أوروميد بروكسل يومه الخميس 27/06/2024 بحضور ضيفي الشرف محمد الحموشي ومحمد لعبيش، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *