الدكتور الطيب بوتبقالت يكتب: اعتناق بن عبد الجليل للمسيحية (الحلقة 29)

الدكتور الطيب بوتبقالت أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة – طنجة

يتطرق الدكتور الطيب بوتبقالت في هذه السلسلة من 30 مقالا إلى أهم المحطات التاريخية التي ميزت العلاقات المغربية-المسيحية منذ العهد الروماني إلى متم القرن العشرين، و يبقى الهدف هو مجرد مساهمة متواضعة في إغناء البحث التاريخي المغربي بغية تعزيز مقومات هويتنا الوطنية…

سجلت الدعاية الكاثوليكية بمنطقة الحماية الفرنسية بالمغرب أوج أنشطتها مع نهاية العشرينيات وبداية الثلاثينيات من القرن العشرين، وتجسد ذلك في حدثين بارزين: الأول كانت له صبغة دينية فردية خاصة، وتجلى في اعتناق محمد بن عبد الجليل للمسيحية. والثاني كانت له صبغة اجتماعية سياسية عامة، وتجلى في ضلوع تلك الدعاية في قضية الظهير البربري وملابساتها. وفي كلتا الحالتين، كانت انعكاسات العمل التبشيري وتداعياته في قلب عاصفة إعلامية صاخبة، تمخضت عنها تطورات جسيمة على الصعيدين الوطني والدولي. والمسألة في جوهرها مرتبطة أيما ارتباط بمرحلة ما بعد ليوطي، وبما تبع ذلك من تغيير في أسلوب السياسة الاستعمارية الجديدة بالمغرب. لقد فشلت الثورة الريفية وانتصر المد الكولونيالي بكل مكوناته، بما في ذلك البعد التنصيري. وكان الهدف يتلخص في ترجمة النتائج العسكرية الميدانية إلى واقع الاستمرارية الاستعمارية النهائية. وقد ساهمت المؤسسات المسيحية في تكريس وتفعيل هذا الاتجاه. وفي هذا الموضوع بالذات، نشرت جريدة «لوتان» الفرنسية، بتاريخ 29 يوليوز 1926، مقالا لمراسلها بروما، وكان يركز على الخصوص على مستقبل الديانة المسيحية في مغرب ما بعد الحرب الريفية ، جاء فيه ما يلي: «إن انهزام عبد الكريم وما تلاه من اتفاقيات فرنسية. إسبانية متعلقة بالمغرب، سيؤدي إلى إعادة النظر في تدبير الشؤون الدينية بمنطقة الريف (…).وبهذا الصدد، فإن البابا، بي الحادي عشر، وفاء منه لفكرة غالبا ما عبر عنها، وهي ضرورة تأسيس اكليريوس محلي في البلدان الخاضعة للتبشير، سيعمل ما في وسعه على تطبيق هذا النظام في المغرب. والبابا يتوخى من وراء ذلك إضعاف مقاومة السكان، وبالتالي إعطاء الكاثوليكية جذورها المحلية ، يجب مطالبة السلطات بحماية رجال الدين، سيما إذا  كانوا من أصول محلية، مما سيضمن الاستمرارية للديانة المسيحية بالبلاد. والتجربة المؤلمة للمبشرين الأجانب في المكسيك تفيد في هذا الباب”.

 

ويبقى اعتناق محمد بن عبد الجليل للمسيحية من أبرز الأحداث التي هزت الرأي العام المغربي سنة 1928. ففي هذه السنة، استنكرت كل الأوساط المسلمة المغربية هذا الحدث ، واعتبرته من صميم نتائج العمل التبشيري الذي وجبت مقاومته. واهتزت له جامعة القرويين، وأصيبت بعض الأسر الفاسية العريقة بالإحباط وخيبة الأمل. وعبرت الإقامة العامة بدورها عن انزعاجها لما خلفه الحدث من ردود فعل وتذمر في الأوساط المغربية المحافظة. وصرح ستيغ، المقيم العام الذي خلف ليوطي قائلا: «إن فرنسا كانت دائما تتعهد باحترام دين وتقاليد هذا البلد». وعلى إثر ذلك، تم التفكير في خطة قالت الإقامة العامة إنها ترمي إلى إعادة الثقة وتفادي انزلاقات العمل التبشيري.

وعلى ضوء ذلك، اتضح أن النهج التنصيري الذي اعتمدته المؤسسة الكاثوليكية بمنطقة الحماية، أصبح يشكل عبئا على السياسة الكولونيالية أكثر مما يساهم في تعزيز وتوطيد نفوذها.

وجاءت قضية الظهير البربري (16ماي 1930) في هذا السياق، كتأكيد للمسار الجديد، بحيث أنها لم تكن فقط تتويجا للعمل التبشيري الدؤوب، بقدر ما كانت بداية لانفصام لحق بالتحالف الموضوعي المثمر الذي كان قائما بين النهج العلماني الجمهوري الكولونيالي والاتجاه التنصيري الإكليريوسي.

ومما ساهم في تكريس هذا الانفصام تلك التفاعلات المفاجئة التي خلفتها أزمة الظهير البربري على الصعيد الوطني، بحيث كانت بالنسبة للحركة الوطنية الناشئة فرصة مواتية لتحسين أدائها وترشيد وسائلها التعبوية، كما أن انعكاسات الأزمة على الصعيد الدولي جعلت المغرب يحتل من جديد الصدارة الإعلامية، ويستأثر بتعاطف الرأي العام العربي والإسلامي. هذا في الوقت الذي كانت فيه التيارات اليسارية الأوربية تنادي هي الأخرى بوضع حد لطغيان رجال الكنيسة في المستعمرات. وقد كانت الإقامة العامة ترى أن رد فعل الحركة الوطنية العنيف تجاه قضية «تنصير البرابرة » يجد مسوغاته قبل كل شيء في الخطأ الذي ارتكبه الأسقف الفرنسي فيال، لأنه هو الذي كان وراء هذه الحملة الصليبية. وهذا معناه أن السلطات السياسية الكولونيالية أصبحت تبحث عن خلق مسافة تفصل بينها وبين الهيئات التبشيرية، بعدما كانت تعتبرها من أهم وسائل تغلغلها الاستعماري.

ويمكن اعتبار قضية الظهير البربري، وموجة الاحتجاجات ضد العمل التبشيري التي خلفتها، بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير. فعند هذا الحدث الخطير، انكسرت شوكة الدعاية الكاثوليكية، وبدأت تتراجع بصفة تدريجية إلى أن تهلهلت نهائيا في السنوات الأخيرة من نظام الحماية.

شاهد أيضاً

جمعيات المجتمع المدني ببروكسيل في خدمة الريف

إجتمع أعضاء جمعية أوروميد بروكسل يومه الخميس 27/06/2024 بحضور ضيفي الشرف محمد الحموشي ومحمد لعبيش، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *